محاولة اختصار القرآن!..
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
ما أكثر الذين يتحدثون باسم الاسلام بلا علمٍ، ولا معرفة بالإسلام، أو بالقرآن!!.. ويخلطون ما بين حقيقة الإسلام كما يجب أن يُعرف، وبين ما جرى في العقود القليلة الماضية من تحركات سياسية استترت بستار الإسلام، فولّدت ردود فعل احتُسبت على الاسلام، وهي ليست منه بشيء!!.. فكثرة المحطات الفضائية المتخذة من الاسلام منبراً لها، خصوصاً بعد هيمنة التيارات الاسلامية المسيسة على السلطة في أكثر من بلد عربي واسلامي، إذ جعلت كل الهابّين والدّابين يُدلون بدلائهم بغير علم!!..
واللغط في مثل هذه الأمور ليس جديداً على ساحة المواجهة بين المسلمين والمتجرأين على الإسلام.
* * *
bull;ففي عام (1912) صدر كتيب عن دار المطبعة الإنجليزية الأمريكية، ببولاق في القاهرة، عنوانه (حسن الإيجاز)، إحتوى على عينات من هذا اللغط، لم تخلو من تخرصات وهرطقة، أشك أن كاتبها مسلم وإن كان هناك من يوحي بذلك!!.. إلا أن صدور الكتيب عن المطبعة الإنكليزية الأمريكية، وفي عام (1912) بالذات، يؤكد أن كاتبه إما أن يكون واقعاً تحت تأثير التبشير، فتطاول وتجرأ وتزندق، أو أن تكون المؤسسات التبشيرية هي التي كانت وراء كتيب (حسن الإيجاز)..!!
أحتوى الكتاب على بحث يفيد بإمكانية إيجاز وإختصار القرآن الكريم، وإستبدال ألفاظه بألفاظ أخرى.. ولكي يضرب مثلاً بإمكانية ذلك، بدأ بمحاولة تقليد ومعارضة (سورة الفاتحة)، والتي يرددها المسلمون في صلواتهم الخمس، فتم إختصارها على الوجه التالي :
(الحمد للرحمن، رب الأكوان، الملك الديان، لك العبادة، وبك المستعان، إهدنا صراط الإيمان.)!!!!..
وكذلك قام كتاب (حسن الإيجاز) بمعارضة (سورة الكوثر) على الوجه التالي :
(إنا أعطيناك الجوهر، فصلِّ لربك واجهر، ولا تعتمد على قول ساحر)!!!..
وهو بذلك لا يختلف في مقولته تلك عما كتبه مسيلمة الكذاب في نفس الموضوع حيث قال :
(إنا أعطيناك الجماهر، فصل لربك وجاهر، وإن مبغضك رجل كافر).
bull;وبالعودة إلى عدد من التفاسير، كتفسير الطبري، ومجمع البيان، والكشاف، وفي ظلال القرآن، والميزان في تفسير القرآن، وتفسير الجلالين، وتفسير ابن عاشور التونسي.. تبيّن أنها حرصت - في معظمها - في تفسيرها لسورة الفاتحة التي حاول كتاب (حسن الإيجاز) أن يقلدها ويعارضها، قد فسرت عند المفسرين جميعاً بنفس التوجه الملتزم بالمنهج القرآني، مع إختلافات طفيفة في كلمات تفسيراتهم لكلٍ منها!!
إلا أن كتاب (البيان في تفسير القرآن)، قد ردَّ بشكل مفصل على ما أورده صاحب كتاب (حسن الإيجاز) ليضعه في موقعه الصحيح، حتى لا يتجرأ كائن من كان بالتطاول على كتاب الله الكريم، ويهرف بما لا يعرف عن القرآن بكلام لا يغني ولا يسمن!!..
bull;فـ (الرحمن) التي وضعها كبديل لـ (الحمدلله 1 : 2) قد فوت فيها المعنى المقصود من كلمة (الله).. لأن كلمة (الله) تعالى هي علم الذات المقدسة الجامعة لجميع صفات الكمال، ومن صفات الكمال الرحمة التي أشار إليها في البسملة.. فذكر كلمة (الرحمن) بدلاً من (الله) يوجب فوت الدلالة على بقية جهات الكمال المجتمعة في الذات المقدسة، والتي يستوجب بها الحمد من غير ناحية الرحمة.
أما إستبداله لـ (رب العالمين، الرحمن الرحيم 1 : 3) بـ (رب الأكوان)، ففيه تفويت لمعنى هاتين الآيتين اللتين فيهما دلالة على تعدد العوالم الطولية والعرضية، وإنه تعالى مالك لجميعها، وإن رحمته تشمل جميع هذه العوالم على نحوٍ مستمر غير منقطع، كما يدل عليه ذكر لفظ (الرحيم).
bull;فأين هذه المعاني في قول هذا القائل (رب الأكوان)، فالكون معناه الحدوث، والوقوع، والصيرورة، على أن لفظ الأكوان لا يدل على تعدد عوالم الموجودات الذي يدل عليه لفظ (العالمين)، ولا على سائر الجهات التي تدل عليها الآية الكريمة، مثلما فعل بإستبداله جملة (مالك يوم الدين) بـ (الديان) مع أن جملته تلك لا تدل على وجود عالم آخر لجزاء الأعمال، وإن الله تعالى هو مالك ذلك اليوم، وليس فيه لأحد تصرف ولا إختيار، وأن الناس كلهم في ذلك اليوم تحت حكمه تعالى ينفذ فيهم أمره.
أما تفسير صاحب كتاب (حسن الإيجاز) لـ : (إياك نعبد وإياك نستعين 1 : 5) أذ جعلها (لك العبادة، وبك المستعان) فإنه بذلك لم يكن يدرك ما المقصود بالآية التي تنطوي معانيها على تلقين المؤمن في أن يُظهر توحيده في العبادة، وحاجته وإفتقاره إلى إعانة الله عز وجلْ في عبادته وسائر أعماله، وأن يعترف بأنه وجميع المؤمنين لا يعبدون غير الله، ولا يستعينون بأحد سوى الله، بل يعبدونه وحده، ويستعينون به.
أما إستبدال الكاتب لـ (إهدنا الصراط المستقيم 1 : 6) بـ (إهدنا صراط الإيمان)، فهو يغير إرادة المؤمن بطلب الهداية إلى أقرب طريق يوصله إلى مقاصده في أعماله وملكاته وعقائده، ولم يحصره بطريق الإيمان فقط، وهذا لا يفي به قول صاحب كتاب (الإيجاز) عندما يقول : (إهدنا صراط الإيمان)، لأن معنى هذه الجملة طلب الهداية إلى طريق الإيمان، ولا دلالة فيها على أن ذلك الطريق مستقيم ولا يضلّ سالكه.
bull;وقد أوجز صاحب كتاب (حسن الإيجاز) سورة الفاتحة، فلم يأخذها كاملة فبتر منها (صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين) فهو يراها غير ملزمة، وعليه فإنه لا داعي لمعارضتها، فما أورده يكفي لإكتمال الصورة حسب نظريته بالإيجاز ؟!!.. مما يدل على جهله بدلالة وجود طريق مستقيم، سلكه الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، ووجود طرق أخرى غير مستقيمة سلكها المغضوب عليهم من العاندين للحق والمنكرين له بعد وضوحه.
والضالون، الذين ضلوا طريق الهدى بجهلهم وتقصيرهم في البحث عنه، وفي إقتناعهم بما ورثوه من آثار آبائهم، تقليداً على غير هدى من الله، ولا برهان، كما فعل صاحب كتاب (حسن الإيجاز) الذي صدر عام (1912) في مصر، وكما يفعل في وقتنا الراهن نفرٌ من أناس يطلعون علينا في كل يوم بنظريات ما أنزل الله بها من سلطان.. لما تحتويه وتنطوي عليه من لغطٍ يتناول أقدس مقدساتنا بالبهتان!!
وليس هناك من يتصدى إليهم، بسبب إختلاط الحابل بالنابل، فلم نعد ندري، من مع من.. ؟!.. ومن ضد من.. ؟!
ولا غرابة في هذا فنحن نعيش في زمن أعتُبر فيه من يضحي بنفسه، من أجل فسلطين والقدس إرهابياً، بيد أن الذين يجلسون قبالة الصهاينة ليل نهار ليفاوضوهم، وهم يعلمون علم اليقين، أنهم إنما يفاوضون إرهابيين، قتلة، يسفكون الدماء!!..
* * *
bull;والأغرب من كل هذا وذاك أن كل الأطراف تستخرج من القرآن آيات تبيح لهم صلاح ما يقومون به، مع أنهم جميعاً يعرفون مقولة أحد صحابة رسول الله، الذي قال : ((لا تحاججونهم بالقرآن، وإنه حمّال أوجه))، لأنهم يؤولونه وفق ما يتطابق مع مصالحهم، حتى وإن إقتضاهم الأمر أن يحرفوا الكلم عن مواضعه.. وهذه السجالات القرآنية - بكل أسف - صارت مجالاً للمزايدات بين الذين يريدون أن يسيسوا الدين، ويُديّنوا السياسة، مثلما يحدث الآن في مصر وسواها!!
bull;في مقال سابق لي قلت : أن التعاليم السماوية غير قابلة للجمود ومن الممكن العمل على تطويرها، على أن لا يخل ذلك بجوهر العقيدة.. علق الدكتور محمود الدراويش بإستحالة ذلك، ولكنني في هذا المقال أدعو للحفاظ على كتاب سماوي يؤمن به مليار ونصف المليار من البشر، وقد اتخذوا منه نبراساً ومنهاجاً لحياتهم، ولكن هناك من يطبق القرآن بظروف موضوعية كانت سائدة منذ قرون خلت، بينما نحن نعيش الآن في عصر الديمقراطية والليبرالية والعولمة بل وحتى العلمانية، وكلها لا تصطدم بجوهر العقيدة اذا ما استُخدمت من أجل حياة الانسان. فالقرآن في كل تعاليمه يدعو الانسان الى الحب والعمل وإعمال العقل.. ولكن الذين يفسرونه وفق أهوائهم قد انحرفوا في تفسيراتهم وفقاً لما يريد الحُكام الذين فرضوا على وعاظ السلاطين أن يفسروا القرآن بتفسيراتٍ ما أنزل الله بها من سلطان.. ولهذا نجد أن المسلمين قد ضاقوا ذرعاً بالتفسيرات الدينية المتناقضة التي جردت الانسان من حقه في الحياة، فصاروا يواجهون بعضهم البعض بالسباب والشتائم والاتهامات والتكفير، وها هم الآن قد وصلوا الى مرحلةٍ يقاتلون بعضهم البعض في الشوارع والكل يتذرع بآيات القرآن!!..