إسلام ما بعد الإسلام السياسي
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
ما أراه أن أسطورة "الإسلام السياسي" قد انتهت بعد الّذي جرى في مصر، و هذا لا يعني أن الإسلاميين سيختفون من السّاحة في المدى المنظور، بل إنهم سيستمرون إلى أمد ما كجزء من المشهد السياسي و الديني القائم دون أن يكونوا قادرين على الوصول إلى السلطة أو حيازة قناعة غالبية المواطنين من شعوبهم بمشروعهم، فقد شعر أكثرية المصرييّن أن "غمّة" الإخوان قد انزاحت بما يشبه المعجزة عن سمائهم و لن يخدعوا بها مرّة أخرى، تماما كما ينتظر كثير من التونسييّن انزياح نفس "الغمّة"، و ستنزاح قريبا.
لقد شاءت الحكمة الإلهية أن يصل الإسلاميون إلى السلطة ليدرك النّاس بشرية أفكارهم و برامجهم و سلوكياتهم، بعد أن ظنّوا لعقود طويلة أنهم أقرب إلى "الأولياء الصالحين"، و أن مشروعهم سيجعل الملائكة يمشون بين النّاس في الأسواق، و أن بركتهم ستشمل جميع العصاة، و أنهم سيجترحون المعجزات على أنواعها، و ليقفوا على حقيقة أنهم يحملون ذات الأمراض التي يحملها غيرهم، على أن غيرهم لم يزعم عصمة أو تقوى، و لم يجعل نفسه ناطقا باسم الله و لو نفى.و ربّما تشكّك البعض في نهاية الإخوان المحتومة، خصوصا عندما تنقل الجزيرة على نحو مضلّل مجترّ مظاهرات ميدان رابعة العدوية مباشرة من القاهرة، لكنّ الحال لا يعدو أن يكون للعارف سوى رقصة دّيك مذبوح، فالمصريون نخبا و شعبا و جيشا لن يسمح بأن تعيش بلادهم مجدّدا الكابوس نفسه مرّة أخرى..لن يسمحوا لهذه الوجوه المرعبة و هذه القلوب القاسية و هذه الأرواح الشرّيرة و هذه العقول المغلقة الصدئة و هذه الفتن المظلمة أن تقود قاطرة البلاد في الاتّجاه المعاكس للتاريخ و الجغرافيا. و تبقى خاتمة الإخوان في تونس محلّ شكّ و تساؤل و تحليل، و على الرغم من حضور السيناريو المصري في أذهان كثيرين بين الرغبة و الرهبة، فالثابت أن المصير في ماهيته سيظلّ واحدا، لكنّ سبل تحققّه قد تتعدّد، و من هذه السبل أن تعبر البلاد إلى ديمقراطية حقيقيّة يجعل منها استثناء مغاربيا على غرار الاستثناء اللبناني مشرقيا، يزيح التونسيون من خلاله الجماعة بالانتخاب، و أن تشهد الجماعة نفسها تغييرات عميقة في قيادتها و فكرها بما يجعلها وطنية ديمقراطية فعلا، لا سلفية إخوانية كما هي الآن.و سيكون من فضائل صعود الإخوان و سقوطهم السريع المدوّي استعادة عامّة المسلمين للإسلام دينا خالصا و عقيدة روحية صافية، بعد أن قام الإخوان باختطافه عقودا و تشويه معانيه و تحريف وظائفه، فبعد اندحار الإسلام السياسي و افتضاح أساطيره المؤسسة، سيعود المسلمون متساوين كأسنان المشط و سيرجعون في فتاوى دينهم إلى مرجعياتهم الدينية العلمية الشرعية التي لم يكن للإسلاميين بها صلة، و سينخرطون في حركة حوار الأديان و الحضارات بجدّية، و يحاربون النزعات الدينية التقسيمية و الطائفية، وسيدافعون على اجتهادات و تأويلات التسامح و المحبّة و السلام لا اجتهادات الحقد و الكراهية و الحرب و الاقتتال.لقد شكّل الإخوان المسلمون بمختلف تنظيماتهم و تجاربهم و جماعاتهم، طيلة العقود الثمانية الماضية، حاجزا عرقل تطوّر الفكر الإسلامي في الاتجاه الصحيح، و عاملا سلبيّا عطّل أي محاولة اجتهادية تجديدية لإعادة بناء العقل الإسلامي بعد سقوط الخلافة، و في الوقت الذي كان من المفترض أن يتواصل مسار حركة الإصلاح التي قادها مفكرون إسلاميون أفذاذ ابتداء من جمال الدين الأفغاني و محمد عبده، وانتهاء بالكواكبي و الثعالبي، ارتهن الإسلام السياسي حركة الفكر الإسلامي إلى حلقات أكثر انغلاقا و تطرّفا و عنفا و إرهابا.و لم يخف على مؤمن أن تجربة حكم الإخوان القصيرة في تونس و مصر، و تجربتهم الطويلة في السودان و أفغانستان، قد ألحقت الضرر بالإسلام أكثر ممّا أضرّت به أعتى العلمانيات و أشدها عداء للدّين مثل الأتاتوركية و الستالينية، فالمشاريع السياسية التي تتخذ من الدّين مرجعية عادة ما تفضي إلى حركة احتجاجية سلبيّة إزاء هذا الذّين، فوضعيّة التديّن في الدول الدينية غالبا ما بلغت حضيض النفاق و الرّياء، فيما ازدهر التديّن خالصا لوجه الله في تلك الدول التي جعلت من الدّين قضية بين العبد و ربّه و الوطن مسؤولية جميع مواطنيه على اختلاف أديانهم و ألوانهم و لغاتهم و انتماءاتهم.و يشعر المصريون اليوم، و التونسيون غدا، بأن مساجدهم قد عادت لله بيوتا خالصة لعبادته لا يذكر فيها غير اسمه جلّ و علا، بعد أن استولت عليها منذ الثورات جماعات تزعم امتلاك الحقيقة و تمثيل الشريعة و احتكار الطريقة، و بأن اللّحى الطويلة و البقع السوداء الموسومة على الجباه و الجلابيب القصيرة لم تعد بالضرورة علامات الورع و التّقى، و بأن الخطابات السياسية المزدوجة التي يطلقها أناس يزعمون أنهم أكثر خوفا من الله و قربا لم تعد مقنعة لأحد في حد ذاتها ما لم تصدّقها أعمال صالحة و أخلاق رفيعة راقية.و سيكون الإسلام الروحاني العرفاني الإنساني أكثر حظوة و تأثيرا و جاذبية في أوساط المؤمنين السالكين، و سيساهم هذا الإسلام النقيّ المتعالي في إعادة بناء العلاقة المضطربة بين الدّين و الدولة في عالمنا العربي الإسلامي، على نحو يطهّر العقيدة الجامعة الشاملة من الأهواء الفردية و الاختلافات السياسية و الصراعات الحزبية، و يوجّهها لأداء رسالتها الروحية الرقراقة الصافية القائمة على الحبّ العظيم وحده، للّه تعالى تقدّس اسمه و لسائر خلقه أجمعين.التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف