قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لم أشعر بحماس، حين أخبرني رئيس تحرير مجلة العربي التي كنت أعمل بها، أن عليّ الاستعداد للسفر إلى كردستان، ففي ذلك الوقت، كانت تلك المنطقة تشهد خلافات حادة وصلت الى درجة الاشتباكات المسلحة بين قوات الحزبين الكرديين الكبيرين، الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني، وكانت المنطقة قد حصلت على حكم ذاتي في أعقاب انتفاضتها على صدام حسين عقب غزوه للكويت، لكنها سرعان ما انقسمت الى حكومتين، واحدة في أربيل والأخرى في السليمانية.لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فمناطق قريبة من دهوك كانت هي الأخري تشهد في نفس توقيت تلك الرحلة أيضا، اشتباكات متواصلة بين القوات التركية وجماعة عبد الله أوجلان المتمركزة هناك. وكل تلك الاشتباكات تجري، بينما كانت قوات صدام تفرض حصارا صارما على المنطقة.لم يكن الأمر مريحا بالمرة، أذكر أن أحد الأصدقاء حين علم بتلك الرحلة، نصحني وزميلي المصور، بكتابة وصيتينا، وذكرت ذلك في الاستطلاع الذي نشرته مجلة العربي، أذكر الآن أيضا، أني ترددت كثيرا، لكني سافرت في النهاية لائذا بشجاعة زميلي الى دمشق، ثم الى القامشلي، حتى قطعنا نهر دجلة في قارب صغير، بينما كنت أحمل تساؤلاتي وتوجسي، داخل صدر مقبض.لحسن الحظ كان اللقاء الأول صبيحة الوصول الى أربيل، مع فلك الدين كاكائي الذي كان وقتها وزيرا للثقافة في حكومة الحزب الوطني الديمقراطي، الآن أدرك إن تلك البداية ربما كانت مقصودة، لامتصاص حفيظة القادم لأول مرة الى كردستان، بينما تحتشد في ذهنه أقاويل عن الطباع الحادة التي يمكن أن يكتسبها بشر ظلوا يقاتلون في الجبال على مدي عقود طويلة، فالود الذي لمحناه في ملامح هذا الرجل، والتواضع الذي أدهشنا، وبهاء البساطة التي غمرنا بها، كل ذلك كان كفيلا بإزاحة المخاوف، والانطلاق بعدها في ربوع كردستان العراق، بشعور من بات في حضرة أصدقاء ومعارف وأهل.الان بعد أن مرت سنوات طويلة على تلك الزيارة، أقول أنه يندر أن يجالس المرء شخصا مثل فلك الدين كاكائي، وينساه بسهولة. فلا تزال الذاكرة عالقة بتفاصيل تلك الأيام التي إلتقيناه فيها بمكتبه المتواضع في أربيل. تلك الزيارة التي أخذتنا الى كردستان المنقسمة والمتقاتلة، جاءت في العام 1999، وكانت لاجراء استطلاع صحفي مصور لمجلة العربي الشهرية الكويتية، وتمت بتنظيم بالغ الدقة من المثقف العراقي البارز فخري كريم.وقتها كانت المنطقة قد بدأت تتعافى لتوها من دمار شامل، لم يترك جدارا في مبانيها إلا وشوهه، وفي كل شارع كان مشهد القذائف يصافحنا، في جامعة دهوك التي كانت تلملم جراحها، أوفي كل فندق نزلنا فيه، وكانت الانارة مقطوعة به، أو حتى على الطرق التي كانت بصمات آثار جريمة الأنفال باقية عليها، كل شيء كان يوحي بالمأساة التي شهدتها تلك المنطقة، وخرجت من رمادها لتواصل الحياة.في مكتبه بأربيل، ذهبنا إليه، أتذكر الآن كم كان هذا الرجل ودودا، وكم كان مثقفا رائعا متابعا لكل ما يدور في الساحة العربية، ظل يحدثنا طويلا عن مكانة مجلة العربي لدي الأكراد، وراح يسرد لنا حكايات عن المجلة منذ تأسست في 1958 قبل استقلال الكويت، عن مقالات رئيس تحريرها الأول الدكتور أحمد زكي، ورئيس تحريرها الثاني الدكتور محمد الرميحي، ورئيس التحرير الذي ذهبت في عهده الى كردستان الدكتور سليمان العسكري، حدثنا أيضا عن بلاد دخلتها العربي، وأشار علينا بزيارة بيوت في أربيل تحفظ مكتباتها بجميع أعداد المجلة على الرغم من صرامة العقاب الصدامي.وأجريت معه مقابلة، وفي المساء دعانا لزيارة مبنى صحيفة " خه بات" التي كان يترأس تحريرها، كان المكان بالغ التواضع، المكاتب متهالكة، وأعداد هيئة التحرير محدودة، وحتى الاضاءة كانت باهتة، لكنها كانت فرصة لتبادل الأحاديث بعيدا عن تفاصيل العمل اليومي. عرفت عندئذ مالم أكن أعرفه، عن الوشائج التي تربط الأكراد والمصريين، كان مذهلا أعرف أن أمير الشعراء أحمد شوقي، وعبد الباسط عبد الصمد والعشرات من اعلام مصر، لهم أصول كردية.والآن بعدما علمت بنبأ وفاته، أتذكر ذلك الود الذي غمرنا به، والرعاية التي أحاطنا بها طيلة تواجدنا في أربيل ودهوك، وحتى بعد أن ذهبنا الى السليمانية ثم عدنا منها الى أربيل.وأحتفظ بذلك الخطاب المكتوب بخط يده، وبلغة عربية بديعة، الذي أرسله الى رئيس التحرير فور عودتنا من كردستان ليطمئن على الوصول. لتكتمل تلك الحلقة الودودة من ذلك الرجل الباذخ النقاء. مضى على تلك الأيام نحو 14 عاما بالتمام، إنقطعت الأخبار، وتباعدت المسافات، لكن خبرا على موقع إخباري أعاد فجأة الى الذاكرة تفاصيل تلك الأيام، لتبدو وكأنها جرت بالأمس، عدت الى الدفتر الذي دونت به ملاحظات الرحلة، رأيت أمامي من جديد، أشخاصا تبدو ملامحهم متجهمة، لكن قلوبهم الرهيفة غمرتنا بود حقيقي، جبت بصحبتهم معظم المدن والأقضية، ذهبت الى زاخو والسليمانية وجمجمال ودهوك وحلبجة، وأربيل. ورأيت العيون المتوجسة تهب الطمأنينة للضيوف، أسماء كثيرة قابلتها، بيوت كثيرة استضافتنا، قلوب رحبة إحتضنت أيامنا هناك، لك الود يا كردستان ، ولك الرحمة أيها الراحل الطيب.=========
bull; اعلامي وروائي مصري