قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي في اليابان
أرجو من عزيزي القارئ، قبل أن يبدأ قراءة هذا المقال، أن يتوقف لحظة تأمل، ويتناسى من أي بلد عربي هو أو من أي قبيلة أو من أي طائفة أو لأي عقيدة ينتمي. ويستخدم كل ما أعطاه الخالق جل شأنه من حكمة ورزانة ورجاحة عقل، والتي تجمع بين ذكاءه الذهني المسئول عن جمع المعطيات ودراستها وتحليلها والتفكير في معالجة التحديات التي تعاني مجتمعه منها، وذكاءه العاطفي الذي يساعده على السيطرة على الانفعالات والعواطف وتوجيهها بحكمة وايجابية، وذكاءه الاجتماعي الذي يوجهه في التواصل مع اقرانه بلطف وظرف وأدب، وذكاءه الروحي الذي يسمو بالنفس ويجعلها تتساءل عن سبب وجوده، وما هي واجباته في الحياة الفانية، وإلى أين هو ذاهب بعدها. كما أتمنى أن يضع الأفكار التي ستناقش متوازية بجانب بعضها البعض، ويقارنها بميزان عقله، ورجاحة حكمته، ليقيمها، بدون معايير تقاليد مجتمعية مقيدة للتفكير، وبدون حكم مسبق.لقد لاحظت وأنا اتزلج على شبكات الانترنت بأن هناك شكاوي نيابية متكررة، من تدخلات بعض الدبلوماسيين الاجانب بالشؤون الداخلية لدولنا العربية الصغيرة منها والكبيرة. كما رجعت بي الذاكرة للانتخابات الأمريكية الماضية، وتصريح المرشح الجمهوري للرئاسة، مت رومني، حينما سؤال عن خططته المستقبلية للشرق الأوسط، فرد: سأجلس مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لأحدد السياسة الأمريكية المستقبلية في الشرق الأوسط. فهذا التصريح الصريح يعبر عن حقيقة مطلقة، بأن لوبي الحكومة الإسرائيلية في الولايات المتحدة، هو الذي يقرر السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، ولو حاول أي مسئول أمريكي أن يتحداه، سينتهي بهزيمة منكرة.ويلاحظ المواطن العربي ما يجري اليوم في المنطقة وهو حائر، وخاصة بعد الأمل الكبير الذي بناه البعض على طوفانات الربيع العربي. ففي كل جزء من وطننا العربي هناك أزمة شرسة، تحاول أن تفتت منطقتنا لدويلات دينية وطائفية صغيرة متحاربة، لا حول لها ولا قوة. وقد نستغرب مما يحدث، ولكن لو راجعنا تصريحات بعض المسئولين الاجانب، خلال الخمسة العقود الماضية، قد نجد الإجابة الشافية للأسئلة التالية: ما الذي خلق الأرضية الخصبة لهذه المجابهات الدامية؟ ومن الذي يدفع لهذه النزعات الدينية والمذهبية الممزقة؟ وفي مصلحة من تصب هذه الصراعات في النهاية؟يناقش المفكر الإستراتيجي الأمريكي، جورج فريدمان، الصدمة الهائلة التي تعرضت لها الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في كتابة، المائة سنة القادمة، بقوله: "بدأ القرن الواحد والعشرين، فجر العصر الأمريكي، بمحاولة مجموعة من المسلمين لإرجاع الخلافة، التي كانت يوما إمبراطورية إسلامية عظيمة، امتدت من المحيط الأطلسي وحتى المحيط الأطلنطي. فقاموا هؤلاء بضرب البرجين، لجر أمريكا لحرب، لإظهار ضعفها، ولكي يصعدوا من انتفاضتهم. وقد ردت الإدارة الأمريكية بغزو العالم الإسلامي، ولم يكن هدفها النصر، بل كانت تصبو لزعزعته بصراعاته القبلية والعرقية والطائفية، للوقاية من خطر تحقيق أهدافهم المتطرفة ضدها. ولم تعد الولايات المتحدة في الحاجة للفوز في الحروب، بل تحتاج، وببساطة، زعزعة استقرار العدو، لمنعه من بناء قوة كافية تهدد مصالحها." ويبقى السؤال: هل استغل المتطرفون في إسرائيل هذه الفرصة لبلورة وهمهم القديم، دولة صهيونية ممتدة من الفرات إلى النيل، بعد تمزيق وطننا العربي؟يبين الصحفي البريطاني، جوناثون كوك، في كتابه، اسرائيل وصراع الحضارات، كيف استغل المتطرفون في إسرائيل صدمة الحادي عشر من سبتمبر لتعميق التمزق العرقي والطائفي في منطقة الشرق الأوسط. فيرجع الكاتب هذه الخطة لأيام حكم بن جوريون قبل أكثر من ستة عقود، والتي شرحها الكاتب الإسرائيلي أوديد ينون، في مؤتمر المنظمة الصهيونية العالمية لعام 1982 بقوله: "علينا تحويل العالم العربي لموزيك مفكك من مجموعات عرقية وطائفية ضعيفة، يمكن أن تستغلها إسرائيل كما تشاء ... كما علينا تحويل مصر لنمر من ورق، والعمل على تحطيمها اقتصاديا، وتفكيكها بصراع بين الأقباط والمسلمين. وبإضعاف مصر الموحدة للعرب، ستستطيع إسرائيل تفتيت باقي دول المنطقة، من المحيط إلى الخليج، والسيطرة عليها، لحماية وجودها."وقد شرح رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق، أريل شارون، خطة إسرائيل قبل غزو لبنان، بقوله: "يجب أن تمتد إسرائيل خارج حدود الدول العربية والشرق الأوسط، ونحو شواطئ البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر. بل عليها، بسبب القلق الأمني والإستراتيجي في الثمانيات، أن تمتد سلطتها على دول كتركيا وإيران وباكستان ودول الخليج وأفريقيا، وبالأخص دول الشمال والوسط الأفريقي. ويعتمد كل ذلك على تفوقها التكنولوجي العسكري، وبالأخص على قرارها منع حصول دول المنطقة على السلاح النووي."وفعلا قام شارون بغزو لبنان بعد انتهاء مؤتمر المنظمة الصهيونية العالمية لعام 1982، وشرح أهداف الغزو بقوله: "فالتفكك الكلي للبنان، لخمسة حكومات محلية، هي سابقة يمكن تطبيقها على باقي العالم العربي، ليشمل مصر وسوريا والعراق والخليج. فبنفس الطريقة، يمكن تفكيك مصر، وبعدها العراق، إلى مناطق صغيرة، من الأقليات العرقية والطائفية المتحاربة، تبعا للمثل اللبناني، وهو الهدف البعيد المدى لإسرائيل في الجبهة الشرقية. كما ستتفكك سوريا لدويلات صغيرة، وبتقسيمات عرقية، كما في لبنان، ليكون هناك دويلة شيعية للعلويين، ومحافظة حلب كدويلة سنية، ومحافظة دمشق دويلة أخرى، بالإضافة للدويلات الشمالية. كما أن تقسيم العراق أهم من تقسيم سوريا، فقوتها أكثر خطرا على إسرائيل، ويمكن تقسيم العراق إلى أقاليم ضمن التوزيع الطائفي، كما كانت سوريا في عصر العثمانيين. ليكون هناك ثلاث دويلات حول المدن الكبيرة، البصرة وبغداد وموصل، وستفصل بينها المناطق الشيعية في الجنوب عن الشمال، الذي سيسكنه السنة."وأكد جوناثان كوك بأن غزو العراق هو جزء من هذه الخطة لتمزيق المنطقة وإضعافها لحماية إسرائيل من خطر ما يسمى بالإرهاب، ولضمان استمرار النفط للسوق الحرة، حيث علق يقول: "في كتابي هذا، أدحض وجهة النظر التي تدعي بأن الحرب الأهلية الطائفية في العراق هي نتيجة قرارات خاطئة غير مقصودة، بل هو تقسيم مقصود ومخطط له قبل الغزو من فئة تريد تحقيق أهدافها الخفية." ويعتقد الكاتب بأن هذه الإستراتيجية تم التخطيط لها خارج البيت الأبيض، كما عارضتها بشدة إدارة الجيش الأمريكي، ورئيسها كولن باول. حيث أكد ذلك أفرايم ألفي، رئيس المخابرات الإسرائيلية، بقوله: "هجمة الحادي عشر من سبتمبر، معجزة هانوكا اليهودية، التي ستعطي الفرصة لإسرائيل لكي تعاقب أعدائها. لقد خلق هذا الهجوم حتمية الحرب العالمية الثالثة، بتجمع عوامل الإرهاب الإسلامي في شكل واضح ومتميز، وأدى لحيرة كل حاكم، وكل دولة في منطقتنا. ويجب على كل واحد منهم أن يكون صادقا مع نفسه، لكي يقرر كيف يحدد وضعه في الحملة الجديدة على الإرهاب. وبعد غزو أفغانستان، فهناك مثلث إيران والعراق وسوريا، فكلهم داعمين للإرهاب، ويطورون أسلحة الدمار الشامل." وقد نجح المتطرفون في إسرائيل من تحقيق أهدافهم بكل جدارة بعد غزو العراق، كما لعبوا دورا هاما في تمزيق الجسد الفلسطيني. وقد علق الأكاديمي الفلسطيني كرما نابلسي على هذه الخطط بقوله: "يعيش الشعبين، الفلسطيني والعراقي، بالمنظور الإسرائيلي لما يسمى بمجتمع الفوضى المتعمدة، الذي تصبو إليه إسرائيل في المنطقة، وهو المجتمع المتقطع والعنيف والمحطم، والذي لا حول له ولا قوة، ويحكم من قبل ميليشيات متحاربة، وعصابات، ومتزمتين دينيين، والمتطرفين والمنشقين في قبائل مذهبية، وبعض العصابات المتعاونة مع العدو." ويبقى السؤال بعد ما حققت إسرائيل وحلفائها أهدافهم في تمزيق المنطقة، هل فعلا حققوا السلام والأمان لشعوبهم؟لقد أرهق لوبي الحكومة الاسرائيلية الشعب الأمريكي، واستنزف ميزانيته الفدرالية، بالدفع لموجهات وحروب في المنطقة بعذر بأن الولايات المتحدة منارا للحرية، وقد عبر عن ذلك الدبلوماسي المخضرم، هنري كيسنجر، في كتابه، الدبلوماسية، حيث قال: "في القرن العشرين، لم تؤثر دولة على العلاقات الدولية، بشكل حاسم، وفي نفس الوقت بشكل متردد، كالولايات المتحدة. كما لم يكن هناك مجتمع مصر على التدخل، وبدون إذن، في الأمور الوطنية للدول الأخرى كالمجتمع الأمريكي، بل استمر في الإصرار بأن قيمه هي قيم عالمية، يجب أن تطبق بحذافيرها على جميع الدول. كما لم تكن هناك أمة أكثر برغماتية في التعاملات الدبلوماسية اليومية، وأكثر ايديولوجية في ممارسة قناعاتها الاخلاقية كالولايات المتحدة، وبالإضافة لم تكن دولة أكثر منها ترددا في التدخلات الخارجية، وحتى حينما كانت ملتزمة بقوة لحلفائها."وقد وعى الرئيس الأمريكي بارك أوباما لخطورة هذه اللوبيات، كما استوعب ما عانى منه أمن واقتصاد بلاده من تدخلاتها في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة بعد اكتشاف كميات هائلة من الطاقة الأحفورية في الولايات المتحدة، والذي سيجعلها دولة مصدرة للطاقة. وقد كتب الصحفي الأمريكي، وليم باف، بجريدة اليابان تايمز في الثالث من شهر يونيو، يقول: "حينما صرحت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأن السياسة الخارجية الأمريكية ستنتقل محورها من الغرب الأوروبي والشرق الأوسط إلى اسيا، فسر بعض المعلقين الأوربيين ذلك بأن الولايات المتحدة قد تراجعت للعزلة الدولية التي عاشتها منذ تأسيسها وحتى الحربين العالميتين .... وقد تنجح الولايات المتحدة في تحركها نحو العزلة الدولية، فقد كانت دولة أفضل وأكثر سعادة حينما كانت تهتم فقط بأمورها الداخلية وتتوقف عن الاعتقاد بأنها دولة فرض عليها القدر طبيعة استثنائية متميزة .... فهي منغمسة اليوم في عداوات الشرق الاوسط، الغير بناءة، مع مسئوليتها عن كثير من القتل والرعب ... والخطر البارز اليوم ضد الاوربيين الغربيين والأمريكيين هو العداء الانتقامي كرد فعل للحروب التي خاضها الغرب في الدول الاسلامية. وعلى الغرب الاستفادة من الدرس بان يتجنب خلق اعداء جدد، وقد تفهم ذلك الجيل الاوربي الجديد، بعكس الجيل الامريكي حتى الان."تلاحظ عزيزي القارئ بأن الولايات المتحدة قد وعت للتحديات التي تتعرض لها منطقة الشرق الأوسط بسبب الصراع العربي الاسرائيلي، وتفهمت كلفتها على الأمن والاقتصاد الأمريكي، لذلك بدأت حكومة الرئيس بارك أوباما ببدل جهودا كبيرة لتهيئة الأجواء لمحادثات سلام إسرائيلية فلسطينية، وخاصة بعد أن قررت الادارة الامريكية تجنب الحروب في الشرق الأوسط، والاهتمام الأكبر بالتحديات الجديدة في الشرق الأسيوي. وتذكرني وقائع الشرق الأوسط بمقولة لفون رون، صديق بسمارك: "لا أحد يقطف ثمار شجرة اللاخلاقيات بحصانة، أي بدون ثمن." وقد دفع الغرب ثمن كبير لسياساته في الشرق الأوسط، وتبقى الأسئلة المطروحة لعزيزي القارئ: ما سبب إصرار رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بدء محادثات السلام من جديد؟ فهل حس بخطر الانسحاب الأمريكي من المنطقة، مع قرب انتشار عناصر القاعدة لعقر داره؟ أم تفهم خطأ الوهم الصهيوني بإسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل، وقرر أن يحدد حدود بلاده قبل فوات الاوان؟ وهل أعتقد بأنه حان الوقت للقبول بالأمر الواقع، أي بدولة إسرائيلية صغيرة، تضم بها الكثير من العرب الإسرائيلي الجنسية، ومجاورة لدولة عربية فلسطينية، لتعيش بسلام وأمان، وتلعب دورها في خلق سوق شرق أوسطية حرة، تتاجر بمنتجاتها فيه، وتحقق الاستقرار والتنمية لشعبها؟ أم ستخيب أمنية الرئيس نتينياهو، لتتكرر تجربة جنوب أفريقيا في إسرائيل؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان