شارع الذكريات (3): تأملات في السنين الأولى من حياتي
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لست أتذكر الكثير في السنين الأولى من حياتي فقد نشأت في عائلة صغيرة. كان جيراننا عائلة مسلمة من بيت العاني تتألف من الأب الذي اذكر انه كان مريض قعيد الفراش والأم التي كنت اطلق عليها "ماما الكبيرة"، معتبرا إياها كجدتي، وثلاثة أولاد. كان الأبن الأكبر مدحت - مدير شرطة، وصفوت في السنين الأخيرة في كلية الطب ثم اصبح طبيباً، وملحم الأبن الأصغر في السنين الأخيرة من الثانوية ثم غادر إلى المانيا لدراسة الطب.
كانت ماما الكبيرة تعتبر والدتي كبنتها وانا كحفيدها. لم تكن تقرأ أو تكتب، لكنها كانت تعرف الكثير من القصص. اكتشفت بعد سنين أنها هي التي ثابرت على تعليمي أن أتكلم وباللهجة العراقية المسلمة. كنت مع والدتي نقضي الكثير من الوقت في بيت ماما الكبيرة، خاصة أن والدي بسبب عمله الصحفي، لم يتواجد في بيتنا كثيراً، ماعدا يوم عطلة الجمعة. كنت احب ماعون التمن الذي تطبخه ماما الكبيرة وادعي انه احسن من طبخ والدتي. المفاجأة الكبرى كانت عندما علمت ان بين الحين والآخر كانت والدتي تمرر صحن الغز (الرز) من فوق الحائط الذي يفصل بين الحديقتين ليصبح ماعون التمن الذي احبه!قصة علاقتنا بعائلة العاني تعود لسنة 1948 قبل ولادتي - وكما كان يقول المرحوم سلمان دبي المعروف ب"ابن الرافدين" في برنامجه الأسبوعي الذي كان يبث من دار الإذاعة الإسرائيلية في الستينات: "هاي القصة تفضلوا اسمعوها":سمعت من والدي ووالدتي انه بعد شهر من زواجهم، القت السلطات الأمنية القبض على والدي، في أيار 1948. كان والدي يكتب المقالات الصحفية الجريئة التي كان يهاجم فيها حكومة صالح جبر ومعاهدة بورتسموث قبل وخلال الوثبة. ثم ما تبعها - حكومة محمد الصدر، خاصة بعد تولي الرجل القوي مصطفي العمري منصب وزير الداخلية. كان العمري قد اصدر تعليمات سرية لمتصرفي الألوية بتأييد مرشحي الحكومة. حذر والدي من تزييف الانتخابات بعد كل التضحيات التي قدمها الشعب العراقي في إسقاط حكومة صالح جبر وإلغاء معاهدة بورتسموث. علي سبيل المثال هناك مقال كتبه والدي بتاريخ 1 نيسان 1948 (يوم زواجه)، في جريدة الاستقلال، بعنوان " أيها المسؤولون إياكم وان تخونوا أبناء الشعب" . من ضمن ما ورد فيه:"أيها المسؤولون !.ها هو المحك الصادق لنزاهتكم وصدقكم وحيادكم ووطنيتكم، إن الشعب يتطلع إليكم، وهو واقف بالمرصاد ، يريد إن تكون الانتخابات حرة، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا خلفها، ولا يشوبها تدخل أو تزوير أو تهديد ووعيد، وهو بعد هذا يريد إن تحافظ الحكومة على الأمانة المحيطة بعنقها إحاطة السوار بالمعصم.أيها المسؤولونإنكم وقد صنتم الأمانة وحفظتم العهد، وأنكم وقد كنتم بمجموعكم هيئة وطنية، على رأسها سماحة الصدر يقتضى عليكم إن لا تخونوا الشعب !. "بعد أن اعتقل والدي بيوم كانت هناك محاكمة صورية أمام محكمة جزاء بغداد وفق مرسوم صيانة الأمن العام وسلامة الدولة. كانت التهمة هي التحريض ضد الحكومة وجيء بشاهد زور - شرطي حلف بالقرآن الكريم انه شاهد والدي في النجف يحرض الناس (مع العلم أن والدي لم يزر النجف طيلة حياته). عندما سألت والدتي الشرطي كيف تكذب وأنت قد حلفت بالقرآن، أجابها "شتريدين اسوي، امْروني گول هشكل واني عندي وولد" - ما معناه " ماذا تريدين أن اعمل، أمروني أن أقول هكذا، عندي أولاد" .المضحك المبكي، أنه قبل بداية المحكمة، كان محامي والدي قد اخبر والدتي بان تحضر حقيبة ملابس لأن الحكم سيكون بإبعاده إلى بدرة قرب الحدود الإيرانية. عندما سألته والدتي كيف هذا والمحكمة لم تنعقد بعد، أجابها أن الحكم مقرر!. كان المسؤول عن التحقيقات الجنائية / مديرية الأمن بهجت العطية المعروف بعدائه للشيوعيين واليساريين قد استدعى والدي بعد إصدار الحكم وقال له "أنت أبو شوارب - الأفضل أن تذهب إلى بدرة بدون ضجة لان بعد أيام سيكون حكم عرفي ومن يحاكم سوف يرسل لسجن نقرة السلمان في الصحراء" .في عشية 14 أيار، وقبل يوم من انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، اعلن ديفيد بن غوريون رئيس المنظمة الصهيونية العالمية ورئيس الوكالة اليهودية قيام دولة إسرائيل. وعلى اثر ذلك أعلنت الحكومة العراقية الأحكام العرفية وإرسال وحدات من الجيش العراقي للحرب. بدأت حملة جديدة من التضييقات والاعتقالات ضد يهود العراق وضد الشيوعيين. توسط البعض من أصدقاء والدي عند نوري السعيد، فأجابهم ليحمد الله انه لم يعتقل بعد إعلان الأحكام العرفية.سافر والدي إلى بدرة وكان يعيش في بيت مع مبعدين يهود آخرين كانوا قد حوكموا بتهمة الشيوعية أو الصهيونية أو أثناهما معاً!. حسبما تذكر والدتي، كان من ضمن المبعدين الأديبان مئير معلم (خال الأديب الإسرائيلي المعروف ايلي عمير) وسليم شعشوع وأستاذ في الجامعة لا تذكر اسمه ويهودي آخر يدعى يونا. كان البيت شرقي الطراز مكون من غرف أجّرها المبعدون. كان والدي الوحيد الذي رفضت وزارة الداخلية صرف مخصصات مالية له كباقي المبعدين من مختلف الفئات السياسية والدينية. كان عليه أن يحضر كل يوم، ككل المبعدين، إلى مركز الشرطة ليوقع ويؤكد وجوده.بعد حوالي الشهر، جاء مدير مركز شرطة جديد هو الابن الأكبر لهذه العائلة المسلمة التي ذكرتها. وبمرور الأسابيع، اصبح مدحت العاني صديقا لوالدي، ولم يُلزم والدي بالحضور صباحاً للتوقيع. كانت والدتي صغيرة السن (في أوائل العشرينيات) تزور والدي خلال سنة أبعاده، كل مرة لأسابيع. هنا كانت الشيمة العراقية بأحلى صورها، عندما اعتبرها الكثير من زوجات المسؤولين والموظفين كأختهم منذ البداية. فكانت تذهب معهم إلى النهر (نهر الگلال) لتغسل الملابس أو للنزهة وكانوا يتسامرون معاً. بعد مدة قصيرة انتقلت ماما الكبيرة من العمارة إلى بدرة لتعيش مع ابنها مدحت واعتبرت والدتي ابنتها التي لم ترزق بها. بدرة كانت مدينة صغيرة فكان الجميع يعلم أن مدحت مدير مركز الشرطة يعتبر والدتي كأخته. هكذا بدأت الصداقة بين العائلتين.بعد نهاية سنة الأبعاد وعودة والدي إلى بغداد بقى معتقلاً لشهرين إضافيين حتى اطلق سراحه. سكنت عائلتي في الكرادة حيث ولدت في أيلول 1949. وعلى ذكر بدرة، مر بذهن والدي أن يسميني "بدر" ولكن كما هو متعارف عليه، سميت على اسم جدي "خضوري" ولكن باسم "حديث" وهو خضر.بعد ما يقارب السنتين وهجرة غالبية اليهود الذين كانوا يقطنون في الكرادة إلى إسرائيل، انتقل أهلي إلى حي البتاوين. في نفس هذه الفترة انتهت فترة عمل مدحت في بدرة وانتقل إلى بغداد وعُين كمدير شرطة في السفر والجنسية. سكنت عائلة العاني أولا في منطقة الأعظمية ثم انتقلت إلى البتاوين. اتخذت لها منزلاً في الشارع المجاور لشارعنا هكذا اصبحوا جيراناً لنا (من الخلف) حيث يفصل جدار بين حديقتي البيتين. كان منزلهم احد بيوت اليهود الذين هاجروا إلى إسرائيل- كانت معظم هذه البيوت تحت سيطرة مديرية الأملاك المجمدة وتؤجر بثمن زهيد.نشأت في السنين الأولى من حياتي متبنياً ماما الكبيرة كجدتي وأولادها كأعمامي. أذكر بيتهم وسقفه العالي الذي كان حبل للجمباز مربوط به حيث كان الابن الأصغر سناً - ملحم يحب ممارسة هذه الرياضة. اصبح الابن الأوسط - صفوت، بعد تخرجه من كلية الطب، طبيب العائلة. أذكر عندما ولدت أختي كهرمان في صيف 1956(وانا أكبر منها قرابة السبع سنين) إنني نمت بجانب ماما الكبيرة في سطح بيتهم وتولت رعايتي في فترة وجود والدتي في المستشفى. ثم تكرر ذلك بعد ولادة أختي الصغيرة نيران في 1957. أتذكر كيف انقذها "عمو صفوت"، ربما من الموت، بعد أن أصيبت بالحصبة الألمانية وارتفعت درجة حرارة جسمها إلى حدود خطرة. في الستينات سافر صفوت إلى السويد ثم تبعه مدحت ووالدته. بعد زيارة قصيرة لمدحت وزوجته السويدية لبغداد في نهاية الستينات، فقدنا الاتصال معهم إلى أواخر الثمانيات ولهذا حديث أخر.كانت هذه العائلة المسلمة لنا اقرب تعويض لفقدان الأقارب بعد الهجرة الجماعية ليهود العراق. كنت اعرف أن كل أهلي (ماعدا خالي اسحق) قد هاجروا إلى إسرائيل وانا لم أتجاوز السنتين. لأكثر من عشرين سنة لم يكن لنا معرفة بما حدث لهم بعد مغادرتهم العراق وذلك لعدم وجود أي وسيلة للاتصال معهم. كانت لدينا بعض الصور التي التقطت قبل هجرتهم. بين الحين والآخر كنت انظر لصورة جدتي لولو(والدة أبي) ولأعمامي (اسحق ونعيم) وأتسأل هل سأراهم يوماً ما. كان والدي يتحدث بين الحين والآخر عن العشيرة الكبيرة التي لم ينضم إليها في 1951والتي تضم العشرات من الأعمام والعمات والأخوال والخالات وأبنائهم وبناتهم بالإضافة إلى جديه وجدتيه. بالرغم من علمي أن العراق والعالم العربي كان يعتبر إسرائيل ك "كيان عدو" زائل لا محالة في الجولة القادمة، "دولة لقيطة"، "دولة عصابات"، كنت شديد الاقتناع أن جدتي ليست من العصابات ولهذا لم استطع أن ادرك وانا صغير كيف اختفت هي وكل أهلي من حياتي ولماذا اصبحوا "أعداء" مع الشعب العراقي.كان جدي لأبي قد قتل وهو في الثلاثينيات من العمر في احدى الرحلات بين العراق وفلسطين عندما سقط من سطح الشاحنة عند نومه، حسبما ادعى شريكه. كان لجدي وشريكه شاحنة لنقل البضائع بين البلدين عبر الأردن وسوريا. ساد الاعتقاد بين العائلة أن وفاة جدي لم تكن حادثة عرضية بل كان قد دُفع عمداً. أذكر أن والدي الذي ولد في 1925 كان يقول لنا انه عندما توفي والده كان هو ابن الثانية عشر وأن أخاه الصغير نعيم لم يتجاوز السنتين حينذاك. على هذا الأساس فان جدي توفى في 1937. جدتي التي كانت بنت العشرينيات حينذاك لم تتزوج أو ترتبط مع احد حتى بعد هجرتها إلى إسرائيل حيث توفت وهي في التسعينات من العمر.أمّا من ناحية والدتي فقد كانت عائلتها صغيرة نسبياً. كانت تحكي لنا عن أولاد أخيها حسقيل الذين كانوا يعيشون في البصرة والذين هاجروا إلى إسرائيل مع والدتهم (كان خالي حسقيل قد توفى في أوائل الأربعينيات). لم تكن لدينا أي صور لهم ماعدا صورة واحدة لبنت خالي أوديت. أمّا أولاد الخال - كامل، بدري، سامي، صباح، فلم اعرف عنهم غير بعض الروايات الطريفة التي كانت تقصها علينا والدتي. هاجر كذلك أولاد خالي ناجي (شلومو ونزهت) مع والدتهم. كان جدي لأمي والخالان حسقيل وناجي قد توفوا في سنتي 1940-1941. أما جدتي لأمي فلدي صورة معها وانا رضيع ولا اذكرها فقد توفت وانا ابن السنة قبل الهجرة الجماعية.ولإتمام هذه القصة، لأقفز من الخمسينيات لأوائل السبعينيات. عندما زرت إسرائيل لأول مرة في 1972، بعد خروجي من العراق، التقيت بكل من كان حياً من أقاربي. عندما حطت الطائرة، التي أقلتني من لندن، في مطار اللد، وانفتح باب الطائرة ونزلت السلم، كانت هناك سيارة شرطة تقف قرب الطائرة. ارتجل منها شرطي وضابط برتبة كولونيل وتقدموا إليّ وللحظة رجع خوف بغداد من الشرطة والجيش. ثم تكلم الشرطي باللهجة العراقية اليهودية: أنا شلومو ابن خالك وقال لي الضابط: أنا ابن خالك سامي. وتعانقنا وانا لست مصدق عيناي. ركبت السيارة معهم إلى قاعة الدخول واكملوا لي التأشيرات ثم خرجت إلى قاعة الاستقبال لأرى العشرات من أهلي ومن ضمنهم جدتي وأعمامي وأولاد خالي. كان لقاءاً مؤثراً للغاية، لكن المفاجأة الكبرى كانت خارج القاعة حيث اجتمع اكثر من مئاتي شخص من أقارب والدي ووالدتي !! وبدأوا يعرفوني على انفسهم - أسماء وأسماء...... من يذكر والدي وهو في منتصف العشرينيات، كنت تجسيدا له، في نفس العمر تقريباً - ولهذا حديث آخر.التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف