السينغال، أو النموذج الديمقراطي الذي يجب أن يحتذى
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
تبرهن السينغال يوما بعد يوم أنها مثال يحتذى في الديمقراطية التي أرسى دعائمها الرئيس الأسبق "ليبولد سيدار سنغور". فليس حدثا عاديا ما شهده هذا البلد الإفريقي المسلم والمتمثل في تعيين امرأة على رأس الحكومة للمرة الثانية في تاريخ البلاد إثر إنتخابات رئاسية ناجحة بشهادة جميع المراقبين فشل خلالها رئيس البلاد السابق "عبد الله واد" في خلافة نفسه ولم يستقتل في الحفاظ على كرسي السلطة مثلما هو حال نظرائه في البلاد العربية ومن ذلك بلدان ما يسمى بـ"الربيع العربي".
والحقيقة أن هزيمة رئيس في السلطة في انتخابات حرة ونزيهة بات مشهدا مألوفا في داكار. فمغادرة "واد" لكرسي الرئاسة سبقتها خسارة لـ"عبدو ضيوف" أمام "واد" نفسه، وسبقها أيضا تخلي "سنغور" المسيحي عن السلطة لـ"ضيوف" المسلم في تداول سلمي أبهر العالم وجعل السينغال البلد الفقير من الموارد الطبيعية، بخلاف أغلب بلدان القارة السمراء، محل احترام وتقدير من قبل الجميع شأنه شأن بلدان إسلامية أخرى، غير عربية، على غرار ماليزيا وأندونيسيا وباكستان خلال فترات متقطعة.
في السينغال إذن، لا يعشق الحكام كراسيهم على غرار نظرائهم في شمال قارتهم، ولا يستميتون في الحفاظ عليها. وفيها أيضا تسامح ديني منقطع النظير، حيث ترأس البلاد مواطن من الأقلية المسيحية وسلمها طواعية وعن طيب خاطر لمسلم باعتبار أن كليهما سينغالي لديه ذات الحقوق وعليه ذات الواجبات دون اعتبار للمعتقد الذي يبقى مسألة ذاتية شخصية لا دخل للدولة فيها. فلا يوجد بين السينغاليين المسلمين من كفَر سنغور، لأنه مسيحي، ورفض توليه لمقاليد الأمور في البلاد، وذلك بعكس ما يحصل في دول شمال القارة حيث يكفر المسلم المسلم ويستبيح دمه، وينصب البعض الآخر أنفسهم دون تفويض من أحد متحدثين بإسم الإسلام ومدافعين عنه وموزعين لصكوك الغفران على هذا ومانعين لها عن ذاك.
وفي السينغال أيضا مساواة حقيقية بين المرأة والرجل، حيث تصل المرأة في هذا البلد الإفريقي إلى أعلى المراتب بكفاءتها ودون حاجة إلى المحاصصات "التعيسة" على غرار تلك التي اعتمدت في انتخابات 23 أكتوبر الأخيرة في تونس وأفرزت تلك التركيبة المثيرة للسخرية في مجلسنا التأسيسي الموقر شأنها شأن نظام الإقتراع على القائمات الذي جعل عديم الكفاءة نائبا عن الشعب لمجرد تستره بقائمة لحزب يحظى بشعبية واسعة. فـ"أميناتا توري" لم تكن رئيسة الحكومة الأولى في داكار فقد سبقتها إمرأة أخرى إلى ذات المنصب أوائل هذا القرن هي "ماديور بوي"، ومن المؤكد، بالنظر إلى طبيعة سكان هذا البلد النموذج، أن "توري" وزيرة العدل السابقة لن تكون الأخيرة التي تترأس حكومة بلادها من خلال الكفاءة، وبرضا الجميع، لا بالمحاصصة.
يحصل هذا، والسينغال بلد مسلم راسخ في إسلامه الصوفي المعتدل المنفتح، محافظ على هويته، معتد بذاته، متمسك بتقاليده، يحترم رموزه ولا يسيء إليهم مثلما هو شأننا. لم تؤثر فيه لا ريح نجد الجافة وطبيعتها القاحلة ولا حتى عقيدتها القاسية، ولا نسيم الغرب العليل الذي تنتشي به الأنفس المريضة وتنساق خلف إغراءاته. هو بلد التسامح بامتياز مندمج في محيطه الإفريقي والإسلامي فاتح ذراعية للغرب دون عقد ولا رواسب نفسية قد تجعله في صدام مع الآخر، لا يسيء إلى جيرانه ويتقدم وإن بخطى بطيئة بسبب ندرة الثروات.
السينغال بالفعل هي نموذج يحتذى لدول ما يسمى "الربيع العربي" التي رسخت حكومات ما بعد الثورات فيها، ذات التوجهات الإسلامية، أعمدة حكمها على الحقد والبغضاء والكراهية وتقسيم المجتمعات إلى أن وصل الأمر بشعوبها إلى التقاتل والغدر ببعضها البعض، وباتت النفس التي حرم الله، بفعل الخطابات التحريضية لأئمة وفقهاء السلطة الجدد، مستباحة لمجرد الإختلاف في التوجهات السياسية، وأصبح بديهيا أن يصعد خطيب في منبر ببيت من بيوت الله ويدعو إلى قتل فلان وسحل علان، وأن يطل سياسي على جماهيره ويدعو إلى استباحة أبناء جلدته ومعتنقي عقيدته وسفك دمائهم وانتهاك حرماتهم لمجرد أنهم انتقدوا أداءه في الحكم ودعوا إلى استبداله.
ففي قارتنا التي كثيرا ما نصرف أبصارنا عنها باتجاه الجارة الشمالية العجوز، ولا نعير اهتماما لشؤونها رغم أنها عمقنا الإستراتيجي ومستقبلنا التنموي، علامات حضارية مضيئة وجب الإنكباب على تجاربها والتمعن فيها بتواضع لاستخلاص الدروس والسير على المنوال. ومن ذلك السينغال التي أصبحت مثارا للإعجاب من القريب والبعيد وهي أولى من غيرها بضخ السيولات المالية التنموية قروضا هبات ورقاعا وودائع من قبل المانحين من الصناديق والدول، لأنها سائرة على الدرب القويم بخلاف غيرها ممن مازالت فئات من شعوبهم تعتبر المطالبة بتغيير الحكومات الفاشلة جرما لا يغتفر.