اللبرالية العقائدية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
تربى أغلب ممثلي الوسط الثقافي و السياسي العراقي في القرن الماضي تحت عباءة الفكر اليساري و الماركسي بسبب جاذبية هذا الفكر حينها و خصوصا ما اعتبروه الاهتمام بالانسان و حريته. لم يكن الامر مثيرا للاستغراب، فقد انحاز الى هذا الفكر في النصف الاول من هذا القرن أغلبُ و اشهر مثقفي و فناني العالم من الذين كانوا في نفس الوقت انسانيين كبارا.
على أن هذا الأمر، عالميا ثم محليا، لم يستمر، ففي الثمانينات من القرن الماضي، و حتى قبل سقوط الاتحاد السوفييتي، اقتنعت اوساطٌ واسعة بأن الامر ليس كما تم تصوّرُه و السعي إليه، إذ بإسم الانسان تمت ابادة الانسان و قهره و استعباده، فبدأت تتضح تحولات واسعة نحو الفكر اللبرالي لدى جمهرة واسعة من يساريي العراق و كانت تُطرح في اللقاءات افضليات هذا النظام.
كانت قد سبقت ذلك تحولات بين مثقفي اوربا و خصوصا بعد اتضاح كامل ابعاد القمع الستاليني و ما تبعها من قمع لمحاولات التحديث في هنغاريا و في جيكوسلوفاكيا فيما بعد.
الافكار حول اللبرالية في بلد يفتقر الى تقاليدها و تقاليد المجتمع المدني كانت بالضرورة مضببة و مكيفة وفق أهواء و ميول راسخة، و كانت درجة هذا التحول تتراوح بين الحماس الشديد و الاقتراب المتحفظ. إذ فيما الجميع تقريبا متفقون على افضليات التعددية الحزبية و السياسية و الفكرية ( و هي جوانب من اللبرالية و لا تحيط بها كلاً)، إلا أن بعضهم رأى أن لا يسمح لنفسه مرة أخرى أن يقع في فخ التقييم العقائدي للانظمة اللبرالية و أن لا يقوم باستبدال انحياز مطلق بانحياز مطلق مضاد بعد تجربة تأليه النظام السوفييتي التي بلغت حدا لدى البعض، جعله يعتبر حتى منتقدي سيارة المسكوفج عملاء للامبريالية. و هكذا حاول البعض التخلص من نمط التربية السياسية التقليدية الشرقية و العراقية التي سادت في اواسط القرن الماضي. و لكن الى اي مدى تحقق ذلك و هل المهمة بهذه السهولة؟
فالتربية العقائدية مترسخة و انطوت، و لا تزال، على قدر كبير من ملامح العلاقة الابوية التي تستلزم نوعا من راعٍ كلي الجبروت معصومٍ عن الخطأ، يسير المرء وراءه بنوع من التبعية تغنيه عن التفكير، فيعلق عليه الآمال بسلبيةٍ مطلقة و ترقبٍ خَمول، متلازمٍ بالضرورة مع نوع من الثنائية الراسخة كالخيرِ و الشر و الاسودِ و الابيض.
طبَعَ الأمرُ هذا السياسةَ بطابعه، فهي به نوعٌ من انواع الدين: ففي جانبٍ الايمانُ كلُّه و في جانبٍ الكفرُ كله. و اذا ما كانت التيارات الاسلامية قد قامت باحتلال مركز الصدارة السياسية في تكفير خصومها في فترة متأخرة، نجد أن ماركسيين أصوليين قد قاموا بالامر نفسه بشكل ابكر، و كان انحيازهم مطلقا و أعمى.
ثم ما لبث هؤلاء الذين بقوا على الفكر اليساري و لم يتحولوا الى اللبرالية في العراق أن مروا و خصوصا بعد 2003 بتحاولات مشوهة، فمن تقديس الفكر اليساري و الحزب اليساري و النفور من كل نقد له و اعطاء الحزب و القائد صورة ما فوق طبيعية تسمو به فوق البشر، الى صناعة مزيج من اليسار و الفكر الديني الطائفي، قدس رجال الدين و طالب باعطاءهم دورا في الحياة السياسية و قاوم كل صياغة تدعو الى العلمانية أو فصل الدين عن الدولة حتى نظريا ثم قام بإعادة كتابة التاريخ القريب فبرأ المسؤولين من رجال الدين من الدماء التي تسببوا بارقاتها بفتاواهم المشهورة.
هذه التحولات اي تحول الماركسيين و بعض منظماتهم الى ذيليين لرجال الدين كانت شاملة للوطن العربي بأكمله، و تطلب ذلك انشاء نوع من التوليفة الفكرية التي سيكون من الطريف (معرفيا) الخوض في تفاصيلها و في حجج المدافعين عنها، ابرز ملامحها الادعاء بما هو مشترك بينهما فيما يعتبر عدءا للامبريالية! و ليس من الصعب اكتشاف أن هذا العداء للامبريالية لدى التيارات الدينية هو في الاعم الاغلب عداء للحداثة و للحريات العامة و حقوق النساء.
أما التيار الذي تنصل عن فكر اليسار و الماركسية كليا و اعتنق اللبرالية، فإن قسما منه قد سار في طريق اللبرالية العقائدية؟ يقوم هذا النوع من الزحاف الفكري على نقل الإطار و حشوه بمفاهيم جديدة مع الابقاء على كل مضار العقائدية و تحجرها.
و يتضح الفرق بين اللبراليين العقائديين و اللبراليين الناقدين اشد ما يتضح في قضية الموقف من السلطة و المجتمع في الغرب.
الإخلاص للعلم يحتم بذل جهد اكبر في فهم ظاهرة ضخمة كظاهرة السلطة عن طريق تفكيكها بدلا القبول بها كلا أو رفضها كلا، عبادتها أو تكفيرها، و هي من خصائص الولاء الأبوي الذي لا يستلزم أي عمل فكري.
أما تفكيك السلطة فقد كان، و ليس بوسعه إلا ان يكون، عملا فكريا دؤوبا يتضمن نبذ الكثير من رواسب الانحيازات الكبيرة.
و هكذا انقسم المثقفون المسلمون بأفضلية اللبرالية في موقفهم من طبيعة السلطة في بلدان الغرب و الشكل الاجتماعي هناك الى قسمين: الاول الذي تجنب الوقوع في الفخ العقائدي و فَصَل الاتجاهات و الظواهر هناك عن بعضها و قييمها منفصلة و الثاني دعا الى تمجيد السلطة و المجتمع و اعتبار كل تمظهراته مدعاة للاعجاب.
المجتمع الغربي لا يزال حتى الآن يتمتع بديناميكية كبيرة وهو في حالة تطور و صعود و لا تزال الكثير من مظاهره تمثل الماضي الذي يسعى هو لتجاوزه من خلال قوى اجتماعية فيه تقوم بنقده و تحليلة و اقتراح بدائل محددة و تمارس لاجل ذلك دورها النقدي الذي يتجاهله اللبرالي العقائدي الذي يأخذ الظاهرة في حالتها السكونية و ليس في حركتها.
و على الضد مما كان متوقعا، بدا الفكر العقائدي و الموالاة الأبوية اشد رسوخا مما ظُن في أول الأمر. فالخروج من العقائدية اليسارية نحو الانفتاح اللبرالي الناقد ليس بالامر السهل، إذ المقصود هنا هو بنية الفكر و ليس محتواه. و جرى هنا ايضا تمجيد انظمة ليبرالية بعينها أو قادة بعينهم و نحا التفكير اللبرالي العربي بشكل عام و العراقي بشكل اشد الى تمجيد اليمين دون "اليسار" أو "الوسط" و القوة دون الدبلوماسية و الحسم بأي ثمن دون النفس الطويل و سادت الارادوية. و بهذه الملامح المضافة تعسفيا تقاربت العقائدية اللبرالية مع الفكر الطائفي و القومي المتطرف.
كانت العقائدية اللبرالية مناقضة لطبيعة الاشياء، و متناقضة داخليا. فإذا ما كانت الانظمة الشمولية تعيش على انعدام النقد، فإن بديلها التاريخي قام و يقوم اصلا على هذه الآلية، و لا يمكن للتداولية أن تستقيم بدون نقد، و هذا الاخير ليس له أن يكون بدون حرية التعبير، و لكي يتملص اللبرالي العقائدي من هذه المتلازمات لجأ الى الانتقائية و هي اشد الامراض الفكرية فتكا و اكثرها مورابة.
و التفكيك هو غير الانتقائية. التفكيك هو عملية فكرية بحتة تقوم على فهم الظاهرة متعددة الوجوه من خلال دراسة اوجهها المتعددة ثم، و هذا الاهم، اعادتها الى ارتباطاتها الكلية. يشبه هذا تشريح الجسد، فحين يدرس المرء وظيفة القلب على انفراد انما لكي يعيده الى ارتباطاته بأجهزة الجسم مرة أخرى.
أما الانتقائية فإنها تقوم على استلال الحدث من سياقاته و ارتباطاته و تسخيره لخدمة هدف فكري معد مسبقاً يتوافق مع الثوابت الراسخة و يتناقض مع الشك، المهمة الرئيسية للمثقف.
و المثقف الشكاك هو المثقف الحقيقي، ديدنه ان يسعى الى تفنيد كل فكرة و اجراء طارحا على نفسه كل وسائل الطعن بها حتى يعجز عنها و يقبل بها في حوار أو مونولوج مع الذات.
و منذ نشوء الرأسمالية لم ينشأ معها اوتوماتيكيا و فورا ما رافقها من أدوات عمل مثل الديمقراطية و التعددية و حرية التعبير، بل إن هذه الاشكال نشأ بعضها ضعيفا و مشوها و لكنها تكاملت حتى بلغت صورتها الحالية و لما كانت حتى هذه الصورة ليست نهائية فإن السعي الى الافضل و الاحسن لا يتوقف و من هنا نشأ أن هذا التطور كان مُصاحباً دائما بدور المثقف الحر الناقد و ليس المادح.
ليس اطراء ما هو ايجابي في انظمة الحكم الغربية هو اطراء لطبقة رأس المال. هذا نتاج العقلية الشرقية ـ الابوية التي تعودت ان ترى كل ما هو ايجابي على أنه هو من هبات السلطة (اعتبر بعض "المثقفين" العراقيين في المانيا اطرائي لبعض منجزات الفن التشكيلي و المسرحي في عراق السبعينات و الثمانينات دفاعاً عن النظام السابق!!). ما موجود الان في المجتمعات الغربية هو محصل لصراع سلمي بين قوى اجتماعية مختلفة، استطاع بعضها فرض رؤيته على شكل قوانين و انظمة. الحاصلُ المتحقق هو نتاج قوى اجتماعية مختلفة. هذا يضفي على المجتمعات و الانظمة حيوية و يوسع من دائرة المهتمين باستقرارها.
تبعا لذلك تتقلصت دائرة الساعين الى التغيير النوعي في الانظمة السائدة في الغرب مقارنة بالستينات و السبعينات، ما هو مطروح بشكل رئيسي هو نقد يسعى الى التحسين و تعميق الديمقراطية مع كل مستلزماتها. و تتحول مصالح بعض الفئات الاجتماعية الشعبية في كثير من الاحيان الى مصالح الامة. فحتى المستغلين يعرفون انهم لا يستطيعون العيش بالطريقة القديمة و أن هناك محددات و رقابة يحاولون الافلات منها.
و كانت من مزايا الانظمة التي قامت على ذلك ان عزلت المادحين حتى زالو و اضمحلوا كمنظومة منتفعة. فقد صاحبَ القائدَ السياسي الاوربي المعاصر ادراكٌ بأن المصلحة الجمعية اهم من المصلحة الفردية له كحاكم ، كما عرف ان ما اطلقته الانظمة اللبرالية ليس له حدود ، فالحرية لا يمكن ان تقف عند حد فنقول انها استنفذت، طالما تعلق الامر بإدراك المثقف لها، رغم ان المحاولات لم تتوقف لاعادة تعريف الحرية و تعريف حدودها.
دافعت اللبرالية عن مفهومها للحرية و لكنها في مسيرة دفاعها تبنت بعض افكار خصومها و هذا امر تعرفه الفلسفة. ففي نقض النقيض الهيغلي و الماركسي فإن النتاج النهائي لصراع الاضداد يحمل معه صفات الشيء و نقيضه.
و مع ذلك فإن الافراط في الحرية قائم الآن في المجتمعات الغربية ما يهدد بأسس هذه الحرية، و هو امر جدلي، فالحرية لها شروطها أي قيودها. و هذه الصيغة تكشف مدى التناقض الداخلي بين الحرية و مستلزماتها. و هنا يأتي تعريف ماركس لها بأنها ادراك الضرورة. الحرية و القيود امران متناقضان و لكن الفلسفة في مقولاتها تجيب دائما على ذلك بالجمع بين الامر و نقيضه باعتباره قانونا للحركة. فهي تناقش في آن معاً: الحرية و الضرورة، الظاهر و الجوهر...الخ.
الى مَ سوف يقود "الافراط" في الحرية و "الافراط" في النقد و هل سوف تقود في نقطة ما الى تغيير نوعي؟