أصداء

عمامة بلا فقه، إسلام بدون الله!

-
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

في آخر حضور عابر لي لإيران كنت أبحث بيأس عن المحال القديمة التي درست فيها علوم الفلسفة و الشريعة. كانت إيران تبالغ كثيراً في الاهتمام بصورتها الخارجية، فالشوارع بدت لي اشد نظافة بكثير عما كانت عليه من 15 عاماً و أكثر. كان اصدقائي يتحاشون الوقوف معي طويلاً كأنهم يهربون من جُذام, فكل واحد منهم بات معاشه مرتبط بمؤسسة لا يؤمن بها لكنه يغالي برموزها.

وجدتُ في تأمل واجهة البنايات و الجديد من الحدائق و بعض الزيادة في الحشيش الأخضر في الطرقات، عزاء لي في صدود اصدقاء الأمس. و كنتُ ساهما عن حديث فكاهي يدور بينهم حول من يسمون أنفسهم أصحاب القضية حيث يعتقدون أن (السيد) هو الامام المنتظر أو هو الشفيع لهم يوم القيامة!

لم تكن معركة (الزركَة) بعيدة عن المُخيلة آنذاك، جماعة اطلقت على أنفسها جُند الله كفّرت مرجعية النجف و رأت في التصفية الجسدية لها ضرورة عقائدية لإصلاح المذهب الشيعي الذي وقع في براثن أداء دور حراسة المشروع الأمريكي بدعم الانتخابات مهما كان شكل الاداء الحكومي، و حينما تم تصفيتهم, تصاعد صوت حركات انتقامية تثأر من سكونية المرجعية من خلال ابتداع مفاهيم جديدة على المجتمع العراقي: هذا يقول إنه اليماني الموعود المُمهّد لظهور المهدي, و آخر يقول أنه مرجع المقاومة الذي سيقوم بقصف الكويت و السعودية، فيما آخرون طرحوا أنفسهم آيات جديدة لله تنافساً مع فقهاء النجف لكن بدون طرح لعلم أصول الفقه الذي هو مدار تقييم مدى مستوى مدعي الفقاهة!.

و التسهيل في الحقيقة جاء من حوزة النجف نفسها حينما طرحت المرجع الأعلى للفتوى الدينية عبارة عن شخص مجهول العلمية، لا أحد حتى الآن قدّم توثيقاً لمدى صلاحيته لهذا المنصب. لكن أي أثر لهذا النقاش مادام لم يعد لتلك الاسئلة من إثارة في نفوس الشباب اليوم فقد بالغت محاضرات ومطبوعات بعض شوارع العاصمة في هجاء الله و القرآن، و تحولت كتب الدين إلى نكتة للسابلة. فالعلمانية في العراق أصولية مقلوبة. و ما تبقى منهما هو فقط عنواين لسهولة تقسيم المناصب و الرواتب.

قال لي صديق غداً حينما تصل إلى النجف سوف أريك مكتب الحزب الشيوعي المفتوح قبال مكتب آية المرجع السيسستاني، و كيف تُباع كتب إبطال كون القرآن مُعجزة بقرب مكتبة محسن الحكيم. لكن إياك أن تفكر بنقد الحوزة.

نعم ياصاحبي فالإله أعزل لكن وكلاء حمايته مُدججّون بسلاح الأحزاب.

لم أنس أنه في رمضان الماضي اتصلت بصديق لي بجامعة بغداد كي أبارك له الشهر الكريم, فكان صوته لا يُكاد يُسمع, و لما طالبته بأن يرفع صوته اعتذر بأنه يخشى أن يعرف زملائه أنه صائم!!. فمَن يريد معرفة حقيقة التضامن الشعبي للدين عليه ان يتحدث عن الدين في الكلية و الجامعة و مقاهي بغداد كي يحصل على أكثر من سُخرية. لعله في غياب المُثل الاعلى الاخلاقي لم يبق من حل سوى الانهماك بالجنس او العمليات الانتحارية، إنها علمانية غير بنائة و إسلام بلا مقاصد معنوية.

صديق آخر يعمل الآن في إحدى ثالث كتلة سياسية في بلاد ما بين الاحتلالين، خاطبني: لماذا كل هذه الصدمة حينما علمت بشيوع متابعة الفضائيات والافلام الجنسية و انحباس الكهول قبل الشباب ساعات طويلة في غرفهم الخاصة؟!

بقيتُ محتاراً:

(إذا كان الأمر كذلك فلماذا كل هذا الصخب في هجاء المذهبي في القنوات الدينية و الاهتمام لتكفيراتها ؟ و لمَ كل هذا الاهتمام بزيارة الحسين مشياً على الأقدام؟!)

مايهم الآن هو الفقه فقط وحينئذ لا يبقى من الدين سوى القشور و الطقوس كرابطة آيديولوجية لضبط الجماعة داخل العملية السياسة القائمة(الفقه الاخلاقي: ص267. و "البناء و الانتماء,ج2, ص432)، و هي الملاحظة التي كان الشيخ محمود البيساني رائداً فيها بأن كل عمل من هذا النوع يعني الابتعاد عن الإيمان و بالتالي ظهور إسلام بدون الله.

بدا لي شارع انقلاب في مدينة قم الإيرانية، أطول بكثير من ذلك الشارع الذي مشيت فيه حافياً سنوات طويلة، الشارع الذي لم اشعر بطوله حينما كنتُ حافياً, لا أجد القدرة على بلوغ نصفه و أنا أرتدي حذاءاً إيطالياً فاخراً, (هل أنت مجنون ؟! هذا الشارع يمتد الآن من قم و حتى بغداد).

كنتُ متوجهاً إلى بلادي لكن استوقفني عبدالخالق الركابي و هو يبكي بحرقة على كهرمانة التي تركت نافورتها حينما ذُعرت و هي تشاهد أربعين لصاً يتقافزون من الجرار التي تحتها، مسكينة هي الآن تتلقى العلاج في شماعية خضير ميري, هنا قطع حديثه أحمد سعداوي و هو يصفق الكف بالكف (راحت البنية.. فرانكشتاين البغدادي هذي الأيام يتغذى على عقول المجانين علّه يصيبه شيئاً من الحكمة و يكون قاتل تسلسلي مُنظم).

قلت له يا سعداوي مَن هو السليم و مَن هو المشوه في هذه المعادلة؟ فقد يكون فرانكشتاين هو المُعفى الوحيد الذي بقى من هذا الحُطام!.

من الطائرة يبدو العراق صغيراً بحجم ليمونة تُعصر بكفين عملاقتين: أمريكي عالمي و إيراني عربي, تُغير الطائرة الإماراتية مسارها صوب سدني الاسترالية بعد ليلة كابوسية طويلة، اقترب من المحيط الهادي لكن أذني لازالت تسمع نبض ذلك الذي لم يعرف الهدوء يوماً, يُعاني من ضغطة القبور المتحركة فوقه من عمامة اللاهوت الطارئة، حيث الادعاءات العريضة و زعماء السياسة الصبيان حيث النرجسيات المُنتفخة, الطيارة ابتعدت كثيراً الآن لكني لازلت اسمع حشرجة أنفاس بلادي, تغني ترنيمة أحد أشهر المجانين:

كعصفورةٍ في كف طفلٍ يضمها _تذوقُ حياض الموتِ و الطفل يلعبُ

[المقال جزء مختصر, لفصل من كتاب مخطوط, لم يُقدَم للطباعة بعد]

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف