قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
بحزن شديد تلقيت نبأ رحيل الفنان سعدي المالح عن عمر ناهز الثلاثة وستين عاماً. أعلن لنا النبأ الكاتب الوفي عبد الجبار العتابي. وقبلها بأيام تلقينا نبأ رحيل الفنان المذيع والشاعر أحمد المظفر وقبله بأيام تلقينا رحيل الفنان مكي البدري ومن قبله قاسم مطرود ومنذر حلمي ورافع الناصري وعبد الستار ناصر وعبد الباري العبودي ومحي الدين زنكنه صادق علي شاهين وسعود الناصري في ميتة فيها الكثير من التعب والعذاب والمعاناة وكل الراحلين والقائمة تطول يشتركون في رحيل قبل الأوان وعذابات ما قبل الرحيل. وعبد الجبار العتابي في كل كتاباته عن الراحلين يؤرخ حياتهم وينعاهم بحزن يضيفه على حزنه وعلى أحزاننا، وهو بكتاباته يدق جرس الإنذار ويدق ناقوس القيامة.. ليست قيامة الدنيا بل قيامة المبدعين العراقيين في الوطن العراقي المنهك حتى الخراب ودون سواهم!&"كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام"&هذا ما ورد في القرآن الكريم.. ولكن الفناء في ألاية الكريمة لم يكن قد ذكر فناءً مبكراً أو قبل أوانه. فكل أحبائنا الراحلين عن هذه الدنيا يرحلون مبكرين ويتعبون مبكرين ويشيخون مبكرين ولحظة رحيلهم لا نجد سوى القليل في وداعهم!&"تعيرنا إنا قليل عديدنا فقلت لها أن الكرام قليل"!&عندما رحل عنا إبراهيم جلال أبان العهد المباد وفي أيام الحصار رحل لأنه لم يكن بحوزته حبة دواء القلب فتفاجأ بالألم وصرخة الألم فدهمه الألم الساكت. كنت قلت له في الهاتف عدني أن لا ترحل لأن عندي من جميل الحديث أريد أن أسرك به، وعدني ولم يف بوعده.&الراحل أحمد المظفر خرج من إتحاد الأدباء منتشيا بسهرة كل يوم لا يعاني من ألم وخلال يومين أو ثلاثة أغمض عينيه الغمضة الأبدية ولا أحد في الوطن وفي العالم يعرف سر الموت العراقي أو سر موت المبدع العراقي، أو لا أحد يريد أن يعرف ذلك السر ولا حتى أن يتقرب منه!&أشعر وكأن عبد الجبار العتابي يملك قائمة المبدعين العراقيين فهو مؤرشفهم للتاريخ، وفيما هو يؤرشف حاملا القائمة يأتيه في الغفلة ملك الموت وبدون أن يدري يشطب إسماً من القائمة وأخال ملك الموت يلعب معنا لعبة الحياة والموت ويضحك غير آبه ولا مبال بما يحصل لنا.&الوقت صيفا ودرجات الحرارة ترتفع والإنسان العراقي يصبح لزجا جسمه من العرق والغبار والحواجز وإخراج الهويات من جيب القميص وإعادتها مطوية رطبة وصور بقايا الناس مقتولة في المجاري والمياه الآسنة وقرب بيوت الصفيح العشوائية في الفضائيات وجوازات السفر التي لا يسمح لها في السفر ولا تختم عليها التأشيرات.&والأعمار بيد الله!&كانت الأحزاب الراديكالية تقول لنا "باق وأعمار الطغاة قصار" كذبوا.. والله كذبوا.. كل الطغاة عاشوا أزماناً وعبثوا ونهبوا وتمتعوا بالحياة وبالنسوان وشذوا بالغلمان وسافروا بذات الجوازات التي يملكها المثقفون غير الصالحة للإستعمال فيما هم يسافرون بلا تأشيرات سفر ويمشون على سجادة حمراء وتنتظرهم فيلات مؤثثة وخدم وحشم فيما هم لا يقرأون ولا يكتبون، ولذلك فإن ملك الموت غير معني بهم.. ملك الموت يختار المبدعين كي يتألق أمام السماء أنه ينتقي الأحسن كي يحصل على "العافرم"!&أبناء الوطن المبدعين الذين طال إهمالهم يرحلون ويشطبون من القائمة والباقون يعرفون بأنهم على القائمة لا يستطيعون تحديد موعد السفر وهم كثيرا ما يخدرون أنفسهم كي لا يتذكروا هذا الموعد الأسود المرير المفاجئ.&حكاية المبدع والمبدعين اليوم تدور وسط هياج وصراخ وأصوات مفخخات وإهتزاز بنايات وصياح أطفال مشردين يبيعون الماء وعلب الكلينكس ويحملون البضائع الثقيلة في الأسواق المكتظة بالبشر كما هم في يوم الحشر، ونساء محجبات يمدن أيديهن من رادء الحجاب مشدودات الأصابع بالقفازات في درجة حرارة يعبر عنها العراقيون بمثل يصعب ذكرة وهم يطلبون الصدقة في وسط ممرات بين أكداس سيارات تطلق منبهات الصوت وسط مكبرات الصوت التي تطلب من السيارات التنحي جانبا لمرور مواكب المسؤولين ومكبرات الصوت التي تطلق الأصوات إيذانا للصلاة. الدولة مشغولة بالإنتخابات وتنافس الأصوات خمسة وتسعين بالمائة مقابل سبعة عشرين بالمائة وأسماء وصور وأغان وناس يدبكون وآخرون يلطمون ونواح الأمهات عند المراقد المقدسة.. وسط كل هذا الضجيج وتلك الأدعية يشطب ملك الموت أحلى الأسماء ويصر أن يقطفهم من شجرة الحياة قبل إكمال مشروعاتهم الثقافية ومتعة العمر وتجاربه المتنوعة. حتى أنهم لم يملكوا الوقت لكتابة مذكراتهم الجميلة.&كل مبدعي الدنيا يبقون متذكرين ماضيهم وأيامهم الحلوة ويكتبونها سوانا.&كل مبدعي الدنيا يسافرون سوانا!&كل مبدعي الدنيا لهم معجبون يتابعون تألقهم سوانا!&كل مبدعي الدنيا يحضرون المهرجانات والإحتفاليات سوانا!&كل مبدعي الدنيا يفرش لهم المسؤولون الفرش الحمراء سوانا!&فنحن لا نقوى حتى على المشي فوق أسفلت الشوارع المحفورة!&أمام أعيننا فتحت أبواب الهالة الجديدة، الفضائيات الخليجية الباذخة التي تبث من وراء الحدود، وإذا بهواة الثقافة في الخليج يطلون علينا ويكبرون وتقدم لهم هدايا الإبداعات وجوائزها أمام أبصارنا ويكبرون يكبرون في الواقع وفي الحلم ولهم طائراتهم الخاصة ومصممي أزيائهم ومجملي سماتهم ويشيخون ولم ينتبه ولا يريد أن ينتبه ملك الموت لأسمائهم فهو على ما يبدو قد أرسل في سمائنا وحسب.&الأنكى من ذلك والأصعب أنه لولا عبد الجبار العتابي الذي يرصد ويعارك ملك الموت لما عرفنا نحن البعيدين عن أوطاننا في أوطاننا الجديدة البعيدة عن أحبابنا الراحلين، أنباء رحيلهم.&أصارحك أخي عبد الجبار العتابي وأصارح ملك الموت من خلالك أنني عندما نفذت فيلمي "بغداد خارج بغداد" كل الممثلين كانوا يسألونني عن إجراءات الهجرة واللجوء وشروطها. كلهم يريدون الهروب ليس من أرض الوطن بل من سمائها حتى يفوتوا الفرصة على ملك الموت من أن يخطف أرواحهم ويتركهمم أجسادا نائمة في الظلمة الموجعة.&تعتب على من أيها العتابي الجميل ونعتب نحن على من؟! خبرني بالله عليك نعتب على من؟!&لماذا منذ عقود من السنين وملك الموت يلاحقنا ولا يعرف سوانا!؟&قبلا وقبل عقود من السنين كان رحيل المبدع حدثا يقف عند قبره الشعراء وينشدون "لغز الحياة وحيرة الألباب أن يستحيل الفكر محض تراب" وقبل عقود كان رحيل المبدع حدثا يهز ضمير ووجدان الوطن فيمشي خلف نعشه في شارع الرشيد عشاق التقدم وعشاق الأبداع. اليوم لا يستطيع الموكب أن يجتاز شارع الرشيد فلم يعد ثمة شارع للرشيد يمشي فيه حاملو نعوش الراحلين قبل أوانهم.&من يسمع القصائد المأساة ومن يقرأ سورة الفاتحة لحنا سرمديا مموسقا ومن يبكي؟ لا وقت للبكاء! عودوا إلى منازلكم قبل حلول الظلام فقد أغلقت المسارح أبوابها وتهدمت صالات السينما أو أغلقت أبوابها. عودوا إلى بيوتكم أيها المبدعون قبل حلول الظلام وتطلعوا إلى شاشات قنوات الفضاء وأرصدوا الثعالب التي تبدو نائمة كي تخدع العصافير لتنام فتنقض عليها تحت جنح الظلام.&الأمراض الغريبة وفايروسات الحروب ينثرها ملك الموت من سمائنا على أرضنا دون سوانا!&العوز والقهر وغياب الحرية أسيجة يطوق بها ملك الموت هواء الوطن من سمائنا على أرضنا دون سوانا!&الأصوات والأبصار يكم بها ملك الموت عيون وأفواه المبدعين من سمائنا على أرضنا دون سوانا!&الآباء في وطننا يتأملون أبناءهم فيغمرون ليلهم بالنسيان ثمالة أو نوما حتى لا يستفيقون على الحقائق الدامية والمستقبل المجهول!&الصباح ليس صباحا والليل مدلهم وسياجات الوطن حرقت نخيلها وأشجارها الباسقة فدهمنا غبار التصحر وتراب الحصى المتكسر تحت مجنزرات الدبابات!&يستعصي على العراقي وهج التنفس وتستفزه حرقة العيون وكلهم يصرخون ولا يسمع صراخهم لأنهم يصرخون كما في حلم الكابوس فالدولة مشغولة بالنهب وهي الرشوة الوحيدة التي تسكت الإحتجاج وتؤجل الإنقسام والتشظي!&وسط هذه الحياة الذابلة يحيا المثقفون العراقيون ويرحلون دون أن يعرف بهم أحد سوى ملك الموت وعبد الجبار العتابي.&هل تتذكر عبد الجبار العتابي أيها الجميل من شطب إسمه من القائمة ومن المتبقي وكم عدد الباقين، وهل تشاهد ملك الموت عندما يشطب إسم المبدع من قائمتك أم هو يأتيك في غفلة النوم وغفوته.. ما هذه المهزلة يا ترى ما هذه المهزلة.. حقا أية مهزلة نعيشها اليوم؟! دولة خاوية من الفكر ومن الجمال.. دولة خاوية من صوت الموسيقى ومن نشيد الإنشاد.. دولة خاوية تعمل قوى محلية وأخرى أقليمية وثالثة دولية بدون ضمير على تشظيها وإلغاء معنى الحياة فيها فصار الناس لا يتذكرون ولا يحزنون. رحبل المبدع هو خبر يضيع وسط الأخبار فتطوى صفحة الجريدة ويفرشها العراقي على ألأرض ليضع فوقها صحون التشريب فيتدفق السمن على وجوه الراحلين وهو لا يعرفهم.. هي مهزلة يا ملك الموت.. هي مهزلة أيها النذل.. هي مهزلة أيها الوضيع.. ألم تجد غيرنا نحن &- الطيبين &- من أبناء العراق كي تمحو أسماءنا وحيواتنا قبل الموعد الحق وقبل الأوان تاركا وحوش الغاب واللصوص يشدون ربطات عنقهم الحريرية وجوبون الشوارع تتبعهم الحمايات فيخبصون شوارع الإسفلت فتخافهم وأنت في السماء ايها النذل لتلاحقنا قبل الأوان متسليا في رحيلنا وموتنا ونسياننا.&إنني أرى في صورتك يا ملك الموت صورة وصوت وإسم كل الذين طبعت صورهم على يافطات إنتخابات مافيات الدولة العراقية الجديدة خارج خارطة الكون وخارج خارطة المعقول!&كل هؤلاء هم ملوك الموت وهم رسل السماء للوطن العراقي الجديد وبإمتياز ووعي إذ لم يعد بحوزة السماء ما يكفي من الرسل والأنبياء، فأرسلت السماء لنا كل هؤلاء المبعوثين يأتون في صورة ملك الموت ويخطفون أرواح مبدعي العراق قبل الأوان.&سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا&k.h.sununu@gmail.com