من أمريكا مع التحية (1): البحث عن الحقيقة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
أعود لأمريكا بعد أن غبت عنها أكثرمن ربع قرن.. أتيت إليها في المرة الأولى طالبا صغير السن قروي الثقافة المحلية.. لا أتحدث حينها سوى لغتي البدوية القروية العربية ولهجتي الجنوبية ذات الجرس الموسيقي الجاف والقوي الصاخب.
في المرة الأولى.. كشاب صغير السن، كانت أحلامي أصغر من سنوات عمري.
ولم أكن في ذلك الوقت مزودا بفكر تربوي وإجتماعي يحفزني على التخيل عبر أفق أوسع من تلك الثقافة المحلية التي تجعل من الوظيفة غاية يجب التوقف عند محطتها الأولى وعدم البحث عن حلم أو طموح أكبر.
عدت الى وطني وقدمت ما استطعت من عمل حسب ظروف الواقع.. وكنت بكل تأكيد املك القدرة على تقديم الأكثر.. لكن القلم وسحره في ظل عدم القدرة على العطاء العملي بالطريقة التي أؤمن فيها، جعلني أختار التقاعد المبكر، برغم أنني لم أستكين ولم أخضع لظروف العمل التي لم تقسرني عن ممارسة عشقي الجنوني لمداعبة القلم وكتابة خواطري الفكرية والأدبية التي كنت أنشرها في الكثير من مواقع الكتابة وخاصة إيلاف منذ بداية إنطلاقتها.
&شعرت بشيء من الجنون عندما توقفت عن الكتابة لمدة ست سنوات ولم أعد أقوى على العيش بدون مداعبة الحروف التي تترجم افكاري وأحاسيسي، وعدت للكتابة بعد التقاعد المبكر ونشرت كتابين في فترتين متقاربتين وكلاهما تم نشرهما عن طريق بيسان للنشر بيروت.
الآن.. أعود لأمريكا التي غادرتها قبل ربع قرن.. أعود هذه المرة مرافقا وليس طالبا، أبحث عن مكان يسترخي فيه عقلي المنهك وجسدي المرهق.. وروحي التواقة لطبيعة خضراء وثلج ومطر.. أحمل جرحي الكبير معي أينما ذهبت.. أضمه بحنان وحب لأنه ليس ككل الجروح، ولا يشبهه سوى جرح نزار قباني حينما قال ( حزني بنفسجة يبللها الندى.. وضفاف جرحي روضة معشاب ).
&وعادة الناس أن تذهب إلى من يداوي جراحها إلا أنا فأحتضن جرحي مثلما تحتضن الأم وليدها ولا أريد لهذا الجرح المغروس في حناياي أن يفارقني مهما كان ألمه يفوق قدرة الإنسان على التحمل.
وأريد.. من هنا، من أمريكا ألتي أحببتها منذ أن وطأت قدماي أرضها قبل ربع قرن، أن أكتب بوحا جديدا تنعكس فيه صورة هذا الواقع الذي أتمنى أن أراه كما هو وليس كما قد يراه إسقاط اللاوعي فيني.. !
أريد أن أكتب من وحي هذا الواقع الذي يبدو لي كما أراه منذ الأيام القليلة التي أعيشها في عودتي الأخيرة : أنه نفس الواقع الذي عرفته قبل ربع قرن في عشقه للحياة والنظام والتزامه بقيم الحرية التي لولاها لما أصبحت امريكا قوة عظمى تسيطر على كل العالم بثقافتها التي تبهر كل عقل أيا يكون جنس ودين ونوع ذلك العقل.
اذا سهل الله أمرنا وهو ما نرجو الله أن يحققه لنا.. سنقضي سنوات في أمريكا، وسأحاول بكل ما أملك من معرفة وفكر وخبرة أن أتأمل هذه المرة بعقل من خاض معترك الحياة وسبر أغوارها وطاف عبر سماءها وبحارها بحثا عن الحقيقة. وتأكد لي أن معرفة الحقيقة بكل اشكالها والوانها شيء من المستحيل.. لكن الأهم :
أن يسعى كل منا إلى التعرف على وجه من وجوه الحقيقة المتعددة وعندما نجمع كل الوجوه.. نكون معا قد وصلنا إلى المعرفة الأقرب للمعرفة المثالية. وكلما إرتفعت نسبية معرفتنا للأشياء والأمور التي نجهلها : كنا أقرب أن نكون أهلا للعيش في الحياة كعشاق وليس كمحترفي بغضاء وكراهية.
ليس المطلوب منا في هذه الحياة أن نكون كاملين.. ولا أن تكون الحقيقة كاملة في قبضة إدعآتنا.. وإنما الأهم أن نسعى دائما للكمال الذي ندرك أنه لن يتم.. ولمعرفة أوجه الحقيقة التي ندرك أيضا اننا لن نتمكن من معرفة كل تفاصيلها.. ومادام أنهم يقولون أن الشيطان يكمن في التفصايل : فمن العيب أن نغوص في تفاصيل الحقيقة مثلما هو معيب أن نبقى عائمين على سطحها.. ولنغوص في الجوهر الناصع لكل وجه من أوجهها المتعددة كي نبني تمثالا للحقيقة من معارفنا التي جمعناها بحثا عن الكمال الغائب فيها !
&