الاعلام وعقدة الحكم في العراق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الاعلام اما وسيلة لبناء المجتمع، او وسيلة لتدميره، بديهية لايمكن الحياد عنها او تجاهل مضمونها لما للاعلام من دور بارز وفعال في صياغة واقع المجتمع.. وقد اتخذت الحكومات العراقية منذ تسنم "عصابات" ذات ايدولوجيات فكرية مقيدة مقاليد الحكم في البلاد هذا المنبر المهم كوسيلة لنشر افكارها المتطرفة بل وتمريرها على الجماهير لبناء مرتكزات واسس متينة ومن ثم تقوية اركانها وبسط هيمنتها المطلقة على مقدرات شعبنا، ولتدمير كافة الافكار والنظريات المناهضة لسياساتها الهوجاء، وقد استطاعت "عصابات" الحكم في العراق النجاح والى حد كبير في هذا المجال الحيوي والذي يدخل في سياق توجيه المجتمع وشرائحه المختلفة الوجهة التي تناسب افكارها ومناهجها، والذي يدفعني الى تسميتها بـ"العصابات" كونها لم تمثل يوما ارادة الجماهير الحقيقية اذ اعتلت كرسي الحكم تحت قوة السلاح.. فمنذ اعلان الدولة العراقية استقبلنا الملك وولي أمرنا تحت تهديد السلاح البريطاني حتى حمل عليه قاسم ليتسنم الحكم تحت تهديد السلاح ايضا "بغض النظر عن ايدولوجية قاسم عمن تلاه"، ومن ثم عارف والبكر وصدام فكلا منهم رفع السلاح بوجه سلفه ليجلس على كرسي الحكم..
فالاعلام اذا بوسائله المرئية والمسموعة والمقروءة، لم يكن كماكنة دعائية فحسب، بل اتخذ كسلاح في حروب ايدولوجية خطيرة ضد جميع التيارات الفكرية المناهضة لفكرة وايدولوجية الحكم في العراق، على الرغم من استخدام هذا المنبر لاغراض دعائية بحتة تهدف بالدرجة الاساس تغطية الاعمال والنشاطات اللاشرعية والممارسات والاساليب المتطرفة المتبعة ضد طبقات وشرائح المجتمع بالشكل الذي ادى الى حالة من التعتيم المطلق على الجماهير في سبيل عزلهم داخل اطار مجتمع حددوا ملامحه وواقعه الخاص، حيث لم يسمح فيه الا لغربان الحكام ان تنعق في المنبر الاعلامي في كل صباح ومساء، مما ادى الى السيطرة الفعلية التي يمكن وصفها بانها اشبه بالمطلقة على الشعب العراقي وتهجينه بشكل لايسمح معه لأي تمرد على&الواقع المشحون بالخوف والارهاب الفكري من الظهور الى حيز الوجود في أي حال من الاحوال..
فمؤسسات الاعلام العراقية وعلى مدى اكثر من خمسين عاما لم تكن سوى ادوات طيعة بأيدي السلطة توجهها كيفما تشاء وكيفما تقتضي الظروف وبالشكل الذي لايؤثر على اركان السلطة وتدعيم الرهبة منها في نفوس الجماهير، ويمكن تحديد اعوام منتصف السبعينات من القرن المنصرم بصورة تقريبية حيث بدايات انهيار الجبهة الوطنية التي كانت تضم تحالفا لحزب البعث مع الحزبين الديمقراطي الكوردستاني والشيوعي العراقي، كبداية لأنطلاق أولى شرارات الارهاب الفكري مع اعلان وفاة اخر منبر اعلامي حر "ان صح التعبير"، فخلال تلك الحقبة الزمنية الغابرة وانتهاءا بالسنوات الثلاث الاولى من القرن الحالي سيقت مؤسسات الاعلام العراقية لخدمة البعث الالزامية تحت لواء وزارة الاعلام التي يترأسها أحد قياديي البعث ايضا، والتي لم تتجاوز عن كونها جهاز سلطوي بحت يتم من خلاله السيطرة على المنابر الاعلامية "على وجه الخصوص" ودمجها مع الاعلام الحزبي لعصابة الحكم بحيث يتم توجيهها حسب التعليمات والتوجيهات الصادرة من البعث وزمرته، مما ولد حالة من التطرف الفكري في المفاهيم العامة بل وحتى البديهيات المعتبرة، حيث لم يؤخذ بنظر الاعتبار الاهتمام بهذه المؤسسات ولا بكوادرها بصورة يضمن تطورها وعدم انحرافها عن مجالاتها الحقيقية، الابما كان يضمن مصالح اصحاب السلطة التي لاتتجاوز عن كونها محصورة في اطار ضيق، بحيث حرم الاعلاميين بمختلف اختصاصتهم من ابسط حقوقهم في ممارسة نشاط حر في هذا المجال الا من خلال سياسة واحدة ونهج واحد هي سياسة البعث ونهجه.
وبعد ان شهدنا نهاية لحكم البعثيين وانهيار نظامهم القمعي، ليفرض علينا نظام "جديد" تحت قوة السلاح الامريكي، فكان يتحتم على المعنيين بشؤون هذا البلد الذي شهد ولادة جديدة، ازالة كل اثار القمع والارهاب، بما فيها الارهاب الفكري، وتبني سياسات من شأنها اعادة الحياة الى المؤسسات الاعلامية واعادة بناءها وفق اساليب علمية متطورة وفتح المجال امام كوادرها لخلق حالة من الابداع والتوازن الفكري المنطقي الذي يسمح لكافة الشرائح والطبقات التعبير عن رأيها، وبالتالي نجعل من المنبر الاعلامي وسيلة لبناء المجتمع لالتدميره.
السؤال هنا بعد مساحة "الفوضى" التي اطلق عليها جزافا اسم الحرية والديمقراطية وما الى ذلك من تسميات براقة والتي شهدناها خلال الاعوام العشر الاخيرة، هل تحرر الاعلام والاعلاميون من هيمنة السلطة؟
قد تكون الاجابة على هذا السؤال معقدة بقدر تعقيدات العملية السياسية في العراق بل مرتبطة ارتباطا وثيقا بهذه التعقيدات، فمن بين أعقد افرازات العملية السياسية في العراق في ظل مساحة الحرية او الديمقراطية او الفوضى او سمها ماتشاء هو بروز عدة مراكز للقرار أي بمعنى أدق وجود أكثر من ربان لسفينة العراق.. فالغريب ان العراق لديه مقعد واحد في منظمة الامم المتحدة لتمثيله وفيه عدد من الحكام يتحكمون بمقدراته وشعبه، فمن يمثل هذا المقعد من هؤلاء الحكام، ولنكن أكثر جرأة ولنسمي الاسماء بمسمياتها، "مع حفاظنا للألقاب" فالمالكي يتحكم بجزء من العراق والبارزاني يتحكم بجزء آخر والحكيم والنجيفي والصدر والطالباني ووو... كلا يتحكم بجزء من العراق ليصبح رئيسا لجمهورية الجزء الذي يتحكم به، والاغرب من هذا هناك مسؤولي دوائر ادارية صغيرة في العراق اصبحوا يديرون نواحيهم دون الاعتبار لمصلحة البلاد العليا، وعلى سبيل المثال "لاالحصر" شلال عبدول قائممقام طوزخورماتو "عفوا" رئيس جمهورية طوزخورماتو الذي بات يصرح وكأنه وبلدته جيران لبلد اسمه العراق، فكيف الحال بأقليم او محافظة.
فظاهرة تعدد مراكز القرار وتعدد السلطات وتعدد رؤساء "الجمهوريات" كان له أثره في تنوع ماركات وسائل الاعلام ايضا وبالتالي تعدد ايدولوجياته الفكرية التي يجب على الاعلامي الايمان بها اذا رضي الانتماء اليها، فعمليا وسائل الاعلام هي التي تتحكم بتوجهات الاعلاميين في بلد كالعراق مازال يرزح تحت افكار القائد والرمز والمنقذ وكان الله في عون العراقيين.. اذ كان الاعلام توجهه سلطة واحدة في السابق، اما اليوم فهناك عدة ماكنات اعلامية موجهة "ضده" ليعيش المواطن العراقي في دوامة من الصراع الفكري قي خضم حروب ايدولوجية تعبث بعقائده وتوجه ذهنه نحو ايدولوجيات الحكام الجدد، ليبقى الاعلام وسيلة لتهجين الشعب العراقي وارضاخه لأمور لايرضى بها..
لكن يجب ان نستدرك هنا، ان مساحة الفوضى "التي نوهنا عنها" فتحت ايضا بصيص من أمل لأعادة المسار الى طبيعته عبر مؤسسات اعلامية محايدة "رغم انها محدودة" فسحت المجال امام عدد من الاعلاميين للتعبير عن رؤاهم الخاصة بعيدا عن قيود السلطة والمتسلطين لتكون افكارهم متنفسا للشعب العراقي للتعبير عن تطلعاتهم المكبوتة، بل ونبراسا عسى ان تستنير به دفة حكامنا الجدد ليعودوا الى جادة الصواب، حينها فقط نستطيع ان نتذوق طعم الحرية.