كتَّاب إيلاف

الحفر في دهاليز التاريخ

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

في مجتمعات "اللا دولة" وبغياب قانون متفق عليه لتفاصيل الحياة، يتقزّم المجتمع وينكمش إلى "ملجئيات" تحتضنه وتوفر له الأمان الذي يفتقده بغياب الجامع الوطني، تلك الملجئيات الجزئية تكمن في نظام العشيرة وقائدها، والدين والمذهب ومجموعة المخلصات الغيبية ورموزها، والملجأ الأخير هو المال الذي وصفه المفكر العظيم علي بن أبي طالب بأنه وطن في الغربة وفقدانه غربة في الوطن: " الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة".

وفي ثلاثي الملجئيات الفكرية (العشيرة والدين والمال)، يهرب ويلجأ النازحون إلى دهاليز التاريخ في واحدة من محاولات ( تسخين الجمجمة ) كما يطلق عليها المصريون في تحشيشاتهم سواء الفكرية أو الدخانية، والتاريخ كما هو متداول ومعروف مجرد تسجيل أحداث من زاوية الشاهد وثقافته ومدى قرّبه وبعده عن الحدث، بل ومدى تعاطفه أو معاداته لتفاصيله وشخوصه، ولذلك نرى اختلافات حادة في توثيق أو تأْريخ ذات الحدث ومن قبل مدونين عاصروه أو كانوا جزءاً منه ومن تفاعلاته.

وتبقى عملية البحث عن الحقيقة في تلك الأوجه للمدونات التاريخية للأحداث، أسيرة رؤى مختلفة وأمزجة متناقضة، بل ومواقف معادية أو متحالفة مع الحدث وعناصره وأسبابه ومسبباته، وهي بالتالي تحتاج إلى أدوات ووسائل غاية في الدقة والمهنية والتحقيق، لأن الحفر في التاريخ بمعاول مثلومة، ربما تقودنا إلى دهاليز معتمة، أو تفاجئنا بأحداث تعيد ذاكرتنا إلى ما لا يشتهيه البشر، وعلينا أن نتذكر دائمًا أن التاريخ ليس صفحات مقدسة أنزلتها الملائكة من عند الرَّب إنما هي أحداث وثّقها بشر مثلنا، تتحكم فيه الغرائز والعواطف والحب والكره والانفعالات، وهو في الآخر يكتب من خلال زاويته التي ينظر منها إلى الأحداث، على خلفية معلوماته أو مشاعره تجاهها، وكيف يراها حسب تلك الميول، ومن هنا ندرك أن التاريخ ليس كتاباً مقدساً لا يخضع لتلك العوامل، وهو بالتالي كما يراها كاتبها في تلك اللحظة التي وثّقها، ولذلك علينا أن نتوخى الدقة في قراءة تلك الأحداث والاهم قراءة صاحبها الذي دونها؛ لذلك أرى أن الطريق الأقصر في بناء مجتمعات حديثة بعيداً عن دهاليز أولئك الذين سجلوا تلك الوقائع تحت ضغط أمزجتهم، سواء أكانت تلك الصفحات معتمة أم مضيئة، أن نؤسس بنائنا على العلم الحديث والاستنتاجات بثقافة نقدية لكل ما سطره الأولين في توثيق الأحداث التي أنتجت هذه المجتمعات لكي نصل إلى مجموعة معطيات نبني على أساسها مجتمعاتنا الحديثة، وكلما تعلمنا أكثر، تعلم أبناؤنا وبناتنا أكثر، دونما العودة الببغائية والصنمية إلى التاريخ وصفحاته، فمن يبني حاضراً جميلاً لن يحتاج العودة إلى الماضي لكي ينظر إلى المستقبل.
kmkinfo@gmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
صنمية وتحجر
باسل الخطيب -

البعض ما يزال ينظر للتاريخ نظرة صنمية متحجرة من دون دراسة واعية متناسيا طبيعة التغيرات وما تفرضه من تجديد وتطور وهو ما يتنافى مع العقل والمنطق بل وحتى جوهر الدين

الحفر في دهاليز التاريخ
د. سفيان عباس -

الحفر في دهاليز التاريخ احسنت الاختيار لوحدة الموضوع مبدعنا الكبير ....الاحداث التاريخية وما ادارك ما الأحداث التاريخية التي تبتعد وتقترب من صلب الحقيقة حسب الاهواء والميول وثقافة المدون ... قلما نجد تحقيقات تاريخية نقلية بأمانة البيان ...خصوصا منها الموروثات الشعبية والاساطير المذهبية والدينية التي خضعت بالضرورة الى المناقلة المزاجية للمدونين ورجالات الدين ورؤساء القبائل الذين لا يفقهون من أمر الامانة التاريخية الثابتة في صحتها ومدى تأثيرها على عقول بني البشر في قابل الأيام ...فأن التحريف بالحذف والاضافة على المعطيات التاريخية بات شائعا تتخللها الخرافات والبدع حتى انها طالت الأصل والجوهر الديني سواءً في الكتب المنزلة او السنن النبوية ولعموم الأديان والمذاهب ... دون ان يعلم هؤلاء الدجالون ان فعلهم هذا يذكي عناصر الخرافة وهي آفة الآفات الآكلة للأديان ومذاهبها وما اعتادت عليه شعوب الأرض من ممارسات تربوية صحيح تواترها ...فالمحقق التاريخي الصادق في مدوناته عن فعاليات ونشاطات الامة اصبح عملة نادرة لا نجده على المسرح الإنساني الا ما ندر ... موضوع يستحق التقدير في السباكة البلاغية والابعاد التوعوية عن ماهية الخزعبلات التاريخية ..دمت مبدعا

وجهة نظر مغايرة
عمار محمد سليمان -

هل العلة في "الملجئيات"؟ العشائر من وجهة نظري هي من استطاعت ضبط إيقاع المجتمع على مر الزمان.. ولهذا السبب كانت هي من ضمن الأهداف التي من المهم ان يتم استهدافها بغية تفتيتها وزرع السلوكيات الغريبة بين افرادها.

ذكرئ دهاليز الانفال
卡哇伊 -

٣٢ سنة على ذكرئ دهاليز الانفال من قبل الدولة العراقية و الكيان العراقي عوض الكويت بحوالي ٤٢ بليون دولار بينما الكورد لم يحصلوا على فلس واحد بل قطع الشيعة ميزانية كوردستان تماما . اي حقد دفين ؟؟ اي استهتار عنصري ؟

الحفر في دهاليز التاريخ
طه جزاع -

من أجمل ما قرأت لقلمك العذب . مقال مكثف يلخص قضية مهمة جداً في بناء المجتمعات المعاصرة . لكن ذلك لن ينفع مع ساكني كهوف التاريخ ( المقدس ) فهم سعداء في كهوفهم ، وحتى لو اتيحت لهم الفرصة على شكل دعوة مثل دعوتك المتنورة هذه ، فإنهم سيضعون عصابة على عيونهم خشية رؤية نور الحقيقة ! . سلمت وسلم قلمك التقدمي الحر .

عندما نهزم ونحن احياء
محمد العبيدي -

كلام وقال جميل.. عندما تهزم الحكومات الشعوب نفسيا واجتماعيا واقتصاديا، فما عساها أن تفعل هذه الشعوب سوى الهروب للماضي بايجابياته وسلبياته، فلا بد أن يشعر الإنسان بالأمل، فإن لم يكن الأمل حاضرا سيتعين عنه بأمل من الماضي يعيش لتحقيقه وان كان من وحي الخيال...أنصاف الشعوب من خلال توزيع عادل الثروات وسيادة القانون على الجميع، وعدم كبح الحريات، هي أهم ركائز الحضارة وأهم ركائز بناء النفس البشرية.. تحياتي

تصدرون المرتزقة
احمد -

اعرف بان لديكم مرتزقة شاركوا في قتل ابناء جلدتهم وثم عفى عنهم بارزانى / ولكن لم اكن أتوقع بان يشارك مرتزقتكم في قتل ابناء ليبيا ... مع الجيش التركي - البرزانى . تبا لكم

بحث اكاديمي رائع
محمد صالح -

عاشت الايادي مقال اكاديمي رصين جدير بالقراءة

ليس التاريخ فقط
فول على طول -

يجب فحص أى كتاب وأى نصوص وخاصة الكتب قالوا أنها من السماء وليس التاريخ فقط .لم تنزل أى كتب من السماء والكتاب الذى لا يفحص لا يستحق القراءة كما قال سيدنا سقراط رضى اللة عنة وأرضاة منذ قرون طويلة . هل كل من يدعى أنة جاءة كلام من السماء نصدقة ؟ بالتأكيد لا ..لا يجب التصديق دون فحص النصوص واستخدام العقل والمنطق والعلم ..وأيضا فحص أقوال وأفعال من جاء بهذة النصوص ويطبق هذا الفحص على الجميع حيث أن الجميع بشر مثلنا ويجب رفع هالة القداسة عن الجميع وأولهم الأنبياء أو من قالوا عنهم أنهم أنبياء ..الحق فوق القوة والعقل فوق الجميع . ومن تختلف أقوالة عن أفعالة وعن العدل والمنطق يجب حذفة من التاريخ وحذف كل تعاليمة . انتهى .

الماضي التليد
وميض الخليل -

تحية و أحترام أستاذ كفاح ... من يعجز عن بناء حاضر معاصر للحداثه و عصري بمكوناته كدولة و مجتمع يبقى يشتر ماض مزور و أحداث مختلقه أوجدها وهم عظمة الماضي التليد

أصنام التاريخ
شاكر الجبوري -

يحتاجنا التاريخ لمعاتبته لأنه ترك لحفاة تقرير مصير مجتمعات متجانسة.. أقحمونا في جزئيات لتفكيك المواطنة فخسرنا التاريخ و كرهنا الحاضر فتلاشى المستقبل.. العراقيون أكثر من غيرهم يعيشون الغربة في بلدهم لأن الحاكم اعتبره بالأمس ملكا شخصيا قبل أن يتحول الى دكان طائفي اليوم.

لاتهجو اولياء نعمتك
sarsam -

"وفي ثلاثي الملجئيات الفكرية (العشيرة والدين والمال)، يهرب ويلجأ النازحون إلى دهاليز التاريخ في واحدة من محاولات ( تسخين الجمجمة ) كما يطلق عليها المصريون في تحشيشاتهم سواء الفكرية أو الدخانية،" يامعود انت خزمتجي لدى العشيرة والدين والمال فهل تقصدهم ؟ هل تمهد لما بعد الاستغناء عن خدماتك ؟ سبق وان مررت بتجربة خدمة العشيرة والدين والمال في عهد المقبور صدام ولك خبرة بالانتقال المتدرج المخفي لاعلاقات لي مع المشرفين عليك من حمايات القادة لكنت اوصلت ملاحظتي التنبيهية الى اصحاب العشيرة والدين والمال ولكن قد يحقق الكورونا مانحن عاجزون عن تحقيقه ومزيدا من - صدمنة - الشوارب بدهنها بالاسود القاتم .

دهاليز مظلمة
نجوی ساله يي -

شعب العراق ( العرب طبعا) يحبون البقاء في الدهاليز المظلمة .فهم من يختارون ويقررون البقاء والضياع في الدهاليز المظلمة ولا يحبون التجديد والتطلع إلى مستقبل مشرق . متمسكين بشعر من عصر الجاهلي . والتفاخر بحضارة لا صلة لهم بها . متمسكين بشعارات البعث الوهمية( وحدة العراق) ومعاداتهم للكورد . فلا مستقبل مشرق لهم ان استمروا لمعادلة الكورد حسب الشعارات الوهمية وحسب كلمات الأغاني التي يجعلهم بان يتخبلوا بان عراق بلاد عظيم .

التأويلات المزيفة
يوسف سرحوكى -

التاريخ يكتب حسب رؤية والمنفعة للجهة التي تريد الديمومة لمصلحتها وأن كانت تلك المدونات تضاد الحقيقة ولاتمت بالواقع صلة ورغم ذلك وجود جهات تدعم ذلك التاريخ بفرز تأويلات خاطئة مزينة باكسسوارات مذهبية او قومية او فئوية بابهى صورة ليكون من قبل المتلقي القبولية وركوب الموج مع من وصلوا بالوطن الى الا وطن حتى فقد المتلقي الشعور الانساني اتجاهه . تحياتي استاذ كفاح المبدع

البحث عن مصداقية التاريخ
Vian Najar -

مقال رائع وصادق أؤيد كل كلمة جاءت فيه ...نعم كتابة التاريخ في الغالب كانت لعبة ولاتزال بيد المزيفين والغير صادقين وإنه أثر بشدة على مجمل المتلقين رغم عدم مصداقيته . برأي كل من تأكد من ذلك عليه التشبث بالبحث والتعمق فيه لإزاحة الزيف عن التاريخ وإظهار الحقائق قدر الإمكان من خلال مصادر عديدة والتي تناقض بشدة مع ماقرأناه وماكتب في التاريخ . تحياتي

الحفر في دهاليز التاريخ
Medical -

مقال ✍ في منتهى الحقيقة، وخصوصا في السكشن الثالث..اتمنى لكَ اوقاتاً طيبة استاذنا القدير