فضاء الرأي

جدوى الفلسفة زمن الجائحة

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

" للاشتغال بالفلسفة، يجب ألا نعاني أبداً من النبوءات المتشائمة... الفلسفة موجودة لجعل الناس يدركون أن المستقبل مفتوح ، وأن أكثر إبداعات الإنسان إثارة للإعجاب لها حدودها ، مما يزيد من الشعور بمسؤوليتها أمام كل موقف ملموس جديد"[1]

يبدو أن تناول وظائف الفلسفة المعاصرة هو شيء غريب وخارج السياق وغير مجدي بعد الهجوم الكبير الذي تعرضت له الميتافيزيقا وتزايد معاول الهدم للأنساق والقول بتصدع الذات والكف عن إصدار الحكم على فكر البشر بمعيار النجاعة وحرصه في دور ضعيف وترويج لعقلانية التبرير ولمعقولية التوضيح.

لقد تم ترجيح وظيفة التفكيك بالمعنى الواسع والسلبي للكلمة على وظيفة التأسيس بالمعنى الايجابي وتم استجلاب الريبية والانعزالية والتشاؤمية من التراث القديم وركن البعض للحفر في الأعماق وبين الطيات والتنقيب عن الأصول والبحث الجنياولوجي في علاقة السلطة والرغبة بالمعرفة واشتغل الآخرون بتحطيم الميراث وتفكيك التمركز والتفريق بين السياقات والاستعمالات للأقوال وفصل الأفعال عن القائمين بها.

لكن لو عدنا إلى كتاب غادامير المعنون الحقيقة والمنهج فإننا نجده يحصر اهتمامات الفلسفة بثنائية الفهم والتأويل في دوائر اللغة والتاريخ والفن وضمن أفق تدبير المعنى حول أشكال الحياة والبحث عن الهوية المشتركة أما ريكور في ثلاثية الزمان والسرد فإنه ينتقل إلى تناول الفلسفة التاريخية ضمن إطار الفلسفة التحليلية دون مبارحة الفنومينولوجيا ودون التخلي عن منهجية الفهم التاريخي ولكن بتطعيمها بالنظرية السردية والفلسفة التحليلية للفعل وفلسفة الحق وفلسفة الدين وفلسفة الذهن والإيتيقا ونجد أيضا أن الفلسفة تقحم نفسها في المجالات الأخرى وتطرح السؤال فيها ويمكن أن تفكر أو تضفي المشروعية على أسسها.

لقد اتصفت فلسفة ريكور بأنها فلسفة المنعطفات الواسعة تستمد قوتها من حوارها مع العلوم والأدب والفن ومن تحركها على أرضية أنطولوجية كان دشنها أرسطو وسبينوزا وأعاد تهيئتها بصورة أساسية هيدجر عندما صعد بالمنهج الفنومينولوجي من التخفيض ثم البناء ثم التفكيك وانتهي إلى حالة التجاوز والاستقبال.

من المعلوم أن التفكيك استراتيجية اتبعها هيدجر وطورها بشكل جذري دريدا في الهوامش والأثر ووجهها ضد النسق والأصل والمنطق والعقل وفي المقابل التأسيس هو سنة فلسفية حميدة ترجع إلى كانط وهيجل وهوسرل وتنشد التنظيم والبناء والعقلنة والتنوير وتم العزوف عنها من طرف الوجودية والشخصانية وضمن القرار العام الذي انخرطت فيه مدرسة فرنكفورت والتزم به مفكرو الخارج منذ أحداث 1968.

بيد أن بول ريكور أعاد الاعتبار إلى هرمينوطيقا الذات وتمسك بالدور التاريخي للفلسفة في الالتصاق بالواقع ومحاولة فهمه وعقلنته وأصر على استدعاء كل التراث الفلسفي من أجل تحيينه وتوظيفه في قراءة الوضع البشري وتشريح الأزمة التي تعاني منها البشرية والتصدي للأسقام التي ألمت بالحضارة الكونية.

لقد كان حواراته مع كانط وهيجل وهوسرل وهيدجر صاخبة ومثيرة وتتراوح بين الاعتراض والتخلي من جهة والاستدعاء والاستئناف والاستثمار من جهة أخرى ضمن حركية تقوم على الاستيعاب والتجديل واعادة البناء والتوسط وتشييد الجسور بين الجبهات المتباعدة والأطاريح المتناقضة وابرام المصالحات.

غير أن الحديث عن الوظائف للفلسفة يبدو غريبا وخاصة وقد جاء في صيغة الجمع وليس المفرد وسلم بذلك دون مواربة فنحن نعلم أنه منذ الاغريق الفلسفة هي معرفة للمعرفة وتحمل غائيتها في ذاتها وتند عن كل توظيف درءا للشبهات والاستغلال والسفسطة والاستخدام المنفعي ، زد على ذلك لقد نبه هيدجر من الحكم على الفلسفة من زاوية مبدأ المردودية والقيمة المعولمة للنجاعة فقد تخسر الرهان بالمقارنة مع العلم والتقنية ولن تعثر لنفسها على مكان سوى بين رفوف المكتبات وستكتشف بأن بضاعتها كاسدة ومفلسة.

كما أن وضعها إلى جانب التفكيك يعرضها للخطر ويفقدها كل وظيفية خاصة اذا كنا بصدد وجود باسره في حالة تفكك وكانت آلة التفكيك قد أقرت العزم أن تعمل على تفكيكها هي نفسها في مستوى هويتها المخصوصة واقتلاعها من جذورها الميتافيزيقية وإسقاط أزواجها المفاهيمية وتقليم أظافرها المنهجية.

أما الحديث عن التأسيس فهو أشد الأمور غرابة وأكثرها إثارة للجدل لأن الفكر الفلسفي يعيش في زمن مضاد للتأسيس ويعترض على محاولات تأسيس الهوية والذات والأخلاق والسياسية على الأنطولوجيا.
هنا تبرز عدة مفارقات حول مصير التفلسف الآن وهنا في علاقة بالراهن بين الحاجة العاجلة للاستئناف من جهة والحرص الشديد على تجنب تكرار الأخطاء والابتعاد عن اعادة انتاج الفشل وتعطيل التحديث من جهة ثانية سواء عبر اسناد وظائف جديدة للفلسفة تنتمي إلى دائرة التبرير والتزويق والمرافقة وال والاستعراض أو من خلال استدعاء الوظائف التقليدية على غرار التحديد والتوضيح والتمييز والجمعنة وهي وظائف تبدو مقبولة في نظر تاريخ الفلسفة ولكنها غير مجدية من جهة التفلسف الحر والفكر الخلاق.

فما الداعي من تناول وظائف الفلسفة المعاصرة؟ ولماذا انخرطت في إستراتيجية التفكيك؟ وهل يمكن أن تعيد عملية التأسيس؟ وكيف يكون النسق الفلسفي المجال الأبرز للرد على التفكيك واستئناف التأسيس؟

ما تسعى إليه هذه المحاولة الفلسفية زمن الجائحة هو تجنب التفكيك التخريبي للحياة الفلسفية الذي تمارسه بعض المعاول العدمية وتفادي كذلك التأسيس الدغمائي للعبارة المعرفية التي اقترنت بالتمركز الاثني والعقلي والصوتي والتي انتهت الى التمييز العنصري والاقصاء غير المبرر وتدشين تجربة فلسفية مختلفة تجعل التفكيك استراتيجية ايجابية لتخطي الأزمات وزرع الأمل في الحياة.

كاتب فلسفي

[1] Karl Jaspers, initiation à la méthode philosophique, traduit de l’allemand par Laurent Jospin, éditions Payot&Rivages, Paris, 1966- 1994, pp26-27.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف