كتَّاب إيلاف

ما عاد المعلم رسولاً

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

أتذكر جيدا السؤال المهم أيام الطفولة والمدرسة الابتدائية الموجه لنا دائما من الأهل والأقارب والجيران الذي لا يحتمل الترك والهروب منه، حول مهنة المستقبل المثيرة للرغبة والاختيار، وكان الجواب سريعا وتلقائيا: معلم. وكانت هذه التلقائية في الجواب لها معنى ودلالة عميقة، فالمعلم كان في زمن بساطة الحياة ، والقبول بالرزق البسيط صوت العلم والمباهاة ، والقدوة في السلوك والمكانة ، وكانت الأحياء تميّز البيوت الراقية اجتماعيا عندما تطلق عليها لقب (بيت المعلم)،بينما أصبح المعلم اليوم في عقل الطلبة في آخر قائمة المهن تذكرا واختيارا، بل صار تندرا أن يختار الشاب هذه المهنة ،فالحلم هو أن يكون مطربا أو رياضيا ليحقق الشهرة والمال،لأن الأوطان ما عادت تجعل من المعلم رسولا يبشر بالحرف ، ولا مبجلا بالقيام والاحترام ،بل صار أفقر الناس مالا، وأكثرهم شفقة وتهميشا ،واضعفهم رأيا وحكمة . سبحان الله مغير الأحوال والنفوس ومقلب القلوب!

لم يعد المعلم العربي يتكلم بالعربي الفصيح كما كان زماناً، وما عادت القسمة والطرح إلا معادلات للجحود من الجميع، فلا الحكومة تعترف بأفضاله وحكمته لأنها مشغولة بصراعات السلطة والمال، ولا المجتمع يحميه من النفايات السامة التي تفرزها المنظومات الاجتماعية الجديدة. الكل جاحد بحقوقه ودوره، وكأن التعليم أصبح هاجساً لموت الحقيقة، ونبراساً للجهل، وشتيمة مجتمعية، ودراما للاستهزاء في وسائل الإعلام، وماعاد المعلم رسولاً كما يقول الشاعر أحمد شوقي، وإنما صار في خبر الزوال والجحود!

ما أكثر الكلام اليوم عن مأساة المعلم! وإن كان ما يقال عن مهنته هو أحياناً باطل يراد به جملة من الحقوق، وليس حقّاً واحداً، وقد بلغت به المأساة والعقوق بأفضاله إلى الحد أن سلبت حقوقه الإنسانية، وجرفت كرامته! ونادراً ما نسمع اليوم في ضجيج الحياة المتهاوية، وتعاسة العيش، وانحدار القيم، من يعترف له بأفضاله التربوية، بل إن ما يحدث هو العكس؛ حيث أصبحت إهانة المعلم ثقافةً سائدةً، ومنهاجاً دراسياً في العقوق، وتربية وطنية لإضعاف ولائه الوظيفي، وكيمياء لبث سموم ثاني أوكسيد الكاربون، وفيزياء لجاذبية احتقار المهنة، وتربية فنية لإعادة رسم صورة المعلم النمطية باللون الأسود.

في الماضي قال أسلافنا: (من علّمني حرفاً صرت له عبداً)! ونحن لا نريد من أحد أن يكون عبداً حتى للمعلم الأول أرسطو، وكل ما نريده هو أن لا يكون أول سهم يرميه التلميذ على من علّمه الرماية، وأن لا يكون أول بيت شعر في هجاء من رعاه وأمسك بيده ودلّه على الطريق، وأن لا يكون أول قرار مجحف يصدره السياسي على من علمه أبجديات الحرف، وصنع مجده، ووضعه حاكماً على البشر، وإياك أن (تضع قدمك حتى على ظلّ المعلم)، كما تقول الحكمة الكورية، لأن إعادة قتل الموتى هي أقصى ما بلغه العقوق!

هل نسينا ما قيل عن المعلم الذي أوشك يكون رسولاً؟! ونسوا أيضاً أن أفضل صفة كانوا يطلقونها على الفيلسوف والمصلح والرائد هي صفة "المعلم"! منذ أطلقوا على أرسطو لقب المعلم الأول وعلى الفارابي الذي ينافسه على هذا اللقب ابن رشد وابن سينا لقب المعلم الثاني، وقال فيصل الأول قولته الشهيرة: (لو لم أكن ملكاً لكنت معلماً).

لكن المهنة أصبحت اليوم ثقافة مهانة، وعواقبها تزكم أنوفنا بسبب الإهمال وعدم الإنصاف والاحترام، لأن التعليم أصبح بضاعة فاسدة، وحاضنة للجهل والأمية العلمية، وتفقيس لأجيال تفتقر للعلم، والولاء للمدرسة والأسرة والمجتمع والوطن، أجيال مهمومة بصناعة الغش والغيبيات، والتنابز على المعلم بالألقاب المهينة والتطاول عليه، فما عادت مؤسسات التعليم اليوم تختصر بهاء احترام المعلم (قم للمعلم وفِّهِ التبجيلا). ما عادت هذه المؤسسات تأبه بدروس العلم ونظريات أينشتاين، وميل الكتل والأجسام للانجذاب والتحرك نحو بعضها بعضا، لأن الانجذاب العلمي صار من الماضي، وصرنا اليوم أكثر انجذاباً لطقوس الغيبيات وأخبار الفن الرديء والطبخ والتنجيم والسحر وقصات الشعر والبوتكس والتنفيخ.
كنا زماناً، نبحث عن القدوة، ولا نجدها إلا عند المعلم، ونبحث عن النصيحة والمساعدة، حيث يكون المعلم هو الحكيم الذي يرسم خارطة حياتنا، بينما حال المعلم اليوم يندى له الجبين، خيالاً وحضوراً، لأن طلبته يعطفون عليه بالمال عندما لا يتمكن من دفع إيجار البيت، ويعطونه الإكرامية عندما يمتهن سائق تاكسي بعد العمل، ويعطفون عليه عندما يشاهدونه بائعاً للخضراوات والفواكه!! وهكذا حال الأيام نداولها بين المعلمين، وحال طلبة آخر زمن!

مرة سئل مؤسس سنغافورة: ما سر تقدم الدولة، قالها بصريح العبارة: (المعلم.. المعلم، والتعليم)، حيث راتب المعلّم في حدود 47 ألف دولار في السنة، بينما أوطان أخرى تجعله بمقام (الملك والوالدين) كما في كوريا الجنوبية، وراتبه الشهري 3000 دولار شهرياً، وفي اليابان سئل الإمبراطور الياباني، ذات مرة، حول هذه المسألة، فقال: (إن دولتنا تقدّمت، في هذا الوقت القصير، لأننا بدأنا من حيث انتهى الآخرون، وتعلّمنا من أخطائهم، وأعطينا المعلّم حصانة الدبلوماسي، وراتب الوزير). وفي إندونيسيا ينظر إلى المعلم باعتباره (الإنسان النبيل)، وأصبحت مهنة التعليم، تـصنَّف ضمن أكثر ثلاث مهن شديدة الاحترام. وفي بريطانيا يقدر متوسط رواتب المعلمين بنحو 31 ألف جنيه إسترليني في العام، ويحظى المعلّم في هولندا بالرعاية والاهتمام، ومتوسّط راتبه الشهري نحو 4500 دولار أميركي شهرياً، وهو يتقارب في ذلك مع راتب المعلّم في سويسرا.

وهكذا هي منزلة المعلم في أوطان الازدهار؛ كهرباء تضيء ظلمة الزمن، بينما المعلم العربي مهدور الكرامة، فلا هو (ملك) بالاسم مثل زميله الكوري، ولا هو (وزير ودبلوماسي) بالراتب مثل زميله الياباني، ولا هو (الأنسان النبيل) مثل زميله الإندونيسي، ولا هو (الفيلسوف والمصلح) مثل أرسطو والفارابي وابن رشد وابن سينا، فهذا المقهور راتبه لا يكفي أسبوعاً واحداً، ومهنته أصبحت موضعَ تنَدُّر الجميع، ورسالته ما عادت إلا نُواحاً عل الماضي وتفريطا بالجمال، فقد خلعوا عنه النبل والقدوة وحكمة العلم والأبوة ورسالة النبوة.

فأي أوطان تعيسة وجاهلة هذه التي تجعل مهنة المعلم مقترنة بالفقر والحرمان، وشتيمة للتندر المجتمعي والإعلامي، وتغمض عينيها عن مطالب المعلم في تحسين حياته ورفاهيته، وتصر على عقوق من علمها تهجي الحروف الأبجدية!!

ما زلت أتذكر القراءة الخلدونية للصف الأول الابتدائي في العراق عندما كنا نقرأ في (زمن المعلم) فقرة معبرّة نحفظها عن ظهر قلب: دار... دور.. في دارنا نوري.ومع الأسف ما عدنا نقول اليوم في دارنا نوري، بل صرنا نقول في دارنا حمير!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
المعلم في خبر كان
فراس -

يالله على هذه المقالة الجميلة التي تنصف أشرف مهنة واقدسها وهي المعلم .كلام الكاتب مثير في أسلوبه الذي يجسد واقع المعلم في بلدان العربان .لقد قتل الرمز والقدوة في حياتنا .واصبح التعليم جثة هامدة .لاننا قتلنا المعلم كقيمة علمية وإنسانية وأصبح أفقر الانسان ،وأكثر تندرا من المجتمع والسلطة كما قال الكاتب .لايمكن الحديث عن تطور بلداننا الا بإعطاء المعلم حقوقه الحقيقية ،وإعادة الأمل لمهنته وجعلها في اول قائمة للمهن .شكرا للكاتب وهو يصرخ في وجه السلطات المشغولة بالمال وحب السلطة .

قم للمعلم تبجيلا
حارث محمد -

المعلم في بلداننا مظلوم ومنتهك كرامته .ولم تهتم به السلطات العربية من الناحية المادية .انا شخصيا اقدس اساتذتي لأنهم اعطوني الكثير من العلم .واقدس مهنتهم .لقد تم تشويه سمعة المعلم إعلاميا ومجتمعيا .نحتاج اليوم ثورة في القيم لتغيير الصورة السلبية عن المعلم شكرا لإيلاف لطرحها هذا الموضوع .وشكرا للكاتب القدير البياتي

المعلم المظلوم
د.محمد الرماحي -

قرأت المقالة الجميلة والمعبرة للبياتي عن المعلم ،فقد انصف المعلم بطريقة مقنعة وبأسلوب جميل ولغة عصرية ،وذلك لشعوره بأن المعلم مظلوم في بلداننا رغم دوره التعليمي والتربوي في بناء الأجيال .ويتفق مع ظم خبراء التربية على أن المعلم هو العنصر الأهم في العملية التعليمية، وأن إصلاح أحواله يعني إصلاح العملية التعليمية برمتها، كما يرى خبراء تربويون أيضا أن العناية بالجانب المادي للمعلم العربي هو الأولوية الأهم ، إذ أن العصر الحالي يتسم بسيطرة المادة وتقييم أي مهنة وأهميتها بما تدر من عائد، وهو يتسم أيضا في نفس الوقت بتردي الحالة المادية للمعلم، وهو ما يؤثر على نظرة المجتمع لأهميته ومكانته، ويؤثر عليه نفسيا أيضا إذ يؤدي إلى شعوره بالإحباط وعدم الأهمية، ويدفعه إلى عدم احترام مهنته واللجوء إلى مهن أخرى بجانب عمله الأساسي، في محاولة لتحسين وضعة المادي وهو ما يؤثر في نهاية المطاف على الوقت الذي يمنحه لتلاميذه وطلابهشكرا للكاتب القدير الذي جعل المعلم بمنزلة الانبياء ورمزا للحياة والتطور و نهضة الأمم .

المعلم المظلوم
معلم عربي -

المعلم العربي يعيش من قهر إلى قهر ومن ظلم إلى ظلم أكبر وقمع مقصود وهناك من يحاربه علناً وبالخفاء لاحتجاجه لنيل مطالبه الحياتية وبالقانون وبما يكفله له الدستور .المعلم يعطي ويضحي في تقديم العلم والمعرفة لمنهاج يتم تدريسه للطالب في المراحل الدراسية من الأساسي إلى الثانوي ، ويقدم أيضاً النصح والإرشاد للطالب وهو داخل مدرسته وصفه.لكن هناك قمع واستبداد تعليمي واجتماعي وسياسي ضد مهنة المعلم .نحتاج إلى إعادة قيم التعليم الأصيلة ،وثورة ثقافية لإسقاط الجهل والتجاهل في بلداننا .محبتي للكاتب القدير الذ ي انصف المعلم وانصفنا بمحبة وتقدير

المعلم خط أحمر
داود الكويتي -

ما قاله الكاتب المتميز في أسلوبه الصحفي قد انصف المعلم المهدور حقوقه وكرامته وخلاصة ما اريد قوله بأختصار شديد :انصفوا المعلم حيا أو ميتا ..سلطة ومحتمعا وإعلاما ...المعلم خط أحمر

احزان المعلم العربي
معلم متقاعد -

مهنة التعليم من أشرف المهن وأقدسها في المجتمع، فالمعلم يتولى مسؤولية عظيمة، وهي تغذية العقل بالعلم والمعرفة، وتنشئة الأجيال ليخدموا أنفسهم ووطنهم . احتل المعلم في الماضي مكانة مرموقة في المجتمع وتمتع بشخصية مهيبة بين طلابه، لكن تلك الصورة المشرقة تبدلت في وقتنا الراهن بسبب تغير الأمور في عصر الانفتاح والعلم والمعرفة، فلم يعد له تلك الهيبة، ولا تلك المكانة، وأصبحت تلك المفردة (المعلم) مفرغة من أي معنى مهم، لا تشكل رادعاً لترهيب الطالب لا في المنزل ولا في المدرسة . لماذا اختلفت الصورة، وتدنت قيمة المعلم في المجتمع، وكيف ومتى سيسترد المكانة اللائقة برسالته النبيلة؟ أسئلة عديدة تطرح نفسها .وقد أجاب عليها كاتب المقال بصراحة وبرؤية ثاقبة. أعيدوا للمعلم مكانته الراقية وهيبته العلمية والاجتماعية .

كلام الحقيقة
ندى -

يتعرض المعلم في السنوات الأخيرة لحملات ممنهجة من الإقصاء والتهميش ضمن مخطط تغريبي مفضوح، فتحطيم المعلم يعني هدم الأجيال وجعلها منسلخة من هويتها مبتعدة عن ثوابتها لا تخضع لعرف أو قانون ولا تحمل أي وازع ومنه ضياع الأمة ككل.رغم ما وصل إليه مستوى التعليم من انحطاط و مع كل ما طفا على السطح من سلبيات فإن ذلك لن يغطي أبدا على حسنات المعلم الذي عمل دوما بجد وأمانة ولا يشهد عنه إلا العطاء والإتقان وقدم تضحيات جسام لا ينكرها إلا جاحد جاهلشكرا لإيلاف وللكاتب

أي تربية و اي تعليم
ناصر -

اذا كانت القبول في معاهد وكليات التربويه والتعليم في العراق كانت بتزكيه حزبيه ..! والطلبه ايام البعث تجبر بان يقول ( قيام قادسية صدام ، جلوس الفرس المجوس) اما اليوم وفي كثير من المحفظات تعلم الاطفال او تجبر بلبس الحجاب واللطم ...!ترى اي قيمه اعطية للمعلم واي تربية تحصل الاطفال من هؤلاء المعلمين..!لقد شوه كل شئ المعلم والدين والقوميه والوطن ، نحن لسنا سوى شعب مشوه والمستقبل اكثروا تشوها .

المعلم والإعلام
بكر خليل -

يبدو أن وسائل إعلام عديدة في بلادنا وجدت في رجل التعليم مادة دسمة للتحقير والإساءة ،وتمرير خطابات لا تخلومن العدائية وسوء النية .المسألة التي ما كانت لتكون كذلك لولا تواترها وتكرارها ، وإلا لكنا اعتبرناها حادثا عارضا وغير مقصود.في الواقع تلك الإساءات لها انعكاسات خطيرة ،لأن السلطة الرابعة التي يعرف الجميع قدرتها الكبيرة على التأثير وتشكيل الإتجاهات والمواقف وصناعة الوعي الجماعي …تعمل بذلك على ترسيخ وتجذير دونية المدرس في المنظور الإجتماعي،وتصويره في غير الصورة الحقيقية ، وتسفيه جهوده ورسالته ،في الوقت الذي نتحدث فيه عن إصلاح التعليم ومحورية دور المدرس فيه .يصعب في الحقيقة حصر كل تلك الخطابات الإعلامية المنتقصة من قيمة المدرس واعتقد ان الكاتب المحترم قد أشار إلى الموضوع بشكل بسيط ،رغم أن مقالته المثيرة للإعجاب قد وضحت بشكل عميق الكثير من القضايا الحقيقية والمهمة التي شكلت تراكما فكريا لواقع المعلم في بلداننا .

العلم والمعلم عند الذين أمنوا
فول على طول -

العلم عند الذين أمنوا هو العلم الشرعى الذى لم يعتريه التحريف لا من فوق ولا من تحت ..وينفقون على هذا " العلم " مليارات الدنانير كل عام مع أنه لا يقدم شيئا بل بالعكس كل انتاجه هو الارهابيين فقط ومع ذلك مستمرون فى ذلك ..بل يطلقون لقب " علماء " على من يعمل بالعلم الشرعى مع أنهم يقومون بتدوير بضاعه قديمه عمرها 14 قرنا ولا جديد ..ويشكل العلم الشرعى نسبة 70 بالمائه من مناهج التدريس فى بلاد الذين أمنوا ..ومصر مثلا تعطى الأزهر - الشريف جدا - 17 مليار جنيه كل عام ومثلهم لوزارة الأوقاف والدعوه بينكما ميزانية الصحه والتعليم معا لا تتعدى مليارين جنيه ..تعليم العلم الشرعى تناكحوا وتناسلوا ومثنى وثلاث ورباع وملكات اليمين الخ الخ لا يترك بقيه للعقل المؤمن . أنت تنفخ فى الهواء الطلق . ربنا يشفيهم ويشفيكم جميعا يا بعدا .