فضاء الرأي

"حد الطار".. السينما السعودية تبلغ مرحلة النضج

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

قبل ما يقارب العامين شاهدت "المسافة صفر"، الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج السعودي عبد العزيز الشلاحي، وفيه توافر مزيجًا صار معتادًا من المواهب الشابة الآتية من مختلف الدول العربية: اهتمام ضخم بالتقنيات والاختيارات الأسلوبية، تأثر واضح بالسينما العالمية، ومحاولة لخلق حكاية مشوّقة يمكن أن يكون لها بعض القراءات الأعمق قليلًا من ظاهر أحداثها. فيلم كان خطوة أولى مقبولة وإن شابها الكثير من عثرات البدايات.

اليوم يعود الشلاحي بفيلمه الثاني "حدّ الطار"، فيلم افتتاح المسابقة العربية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ليقطع من خلاله &- وبسرعة مثيرة للانتباه &- خطوات كبيرة في مشوار النضج، ويحقق نجاحًا واضحًا في أصعب تحدٍ قد يخوضه أي فنان شاب: العثور على صوته الخاص، ليروي من خلاله حكايات تهم صانعها ومحيطه.

الحد والطار.. مقارنة دائمة
"حدّ الطار" عنوان ذكي، يحمل أكثر من تفسير لفظي يرتبط بعلاقة الشد والجذب بين بطلي الفيلم: دايل ابن السيّاف وشامة ابنة الدقاقة، بين شاب امتلك والده قيمته بين الناس من قطعه الرقاب تنفيذًا للحدود الشرعية وفتاة تحب أمها لكن لا تريد أن تصير مثلها منبوذة من مجتمعها فقط لأن عملها هو نشر البهجة بدق الطبول والغناء في الأفراح. إذن فهي المقابلة بين "الحدّ" و"الطار"، ولا ننس أن دق الطار (أي الدُّف) يراه البعض إفسادًا يستحق حدًّا.

المخرج عبد العزيز الشلاحي والمؤلف مفرج المجفل يدركان جيدًا أن جوهر حكايتهما هو أفكار التناقض والمقارنة، وفيلمهما يضعنا من اللحظات الأولى في خضم التفاصيل الدقيقة للعالمين المتقابلين: عالم الجلد الذي يُشدّ ويحاك على "حدّ" خشبي فيغدو دُفًا، وعالم السيف الذي يُشحذ كي يقطع الرقاب. بل ويأخذنا صناع الفيلم إلى مقارنات أصغر وأقل صخبًا، فالسيف نفسه قد يُستخدم كأداة للبهجة والرقص في الأفراح، وقطع الرقبة قد يكون عنوانًا للحب، كالرسائل التي يخفيها دايل داخل رأس دمية يهديها لابنة شامة، فتقطع الحبيبة &- حرفيًا &- رأس العروس كي تقرأ رسالة حبيبها!

مقارنة أخرى يستدعيها ذكر الدمية هي مقارنة الأبيض والأسود، فكما يُمثل دايل وشامة قصور المجتمع في تقييمه للبشر ووظائفهم، اختار المخرج أن يمثلا أيضًا تناقضًا عرقيًا بين رجل أبيض وامرأة سمراء، وكما أن المجتمع يرى احترام السيّاف واحتقار الدقاقة شعورًا بديهيًا، تتعامل الفتاة الصغيرة ببراءة مؤلمة مع فعل تلوين وجه أي دمية تقتنيها بالأسود لأن ألعاب الأطفال لها لون واحد فقط: أبيض لامع كحدّ السيف.

الجرأة والجودة والقيمة
نلمس هنا قدرًا ضخمًا من الجرأة الفكرية في فيلم يُسائل ثقافة المجتمع بصراحة، بل ويصطدم بمنظومة الأحكام الشرعية وإقامة الحدود. صحيح إنه لا يجاهر بعداء المؤسسة، بل ويُظهر رغبة القائمين عليها في إقناع أهالي الضحايا بالتنازل عن الحد بل وقبول ديّة مخفضة إنقاذًا لحياة المتهم، لكنه يقولها بوضوح لا يقبل الشك: إن افترضنا قبول تمتع السيّاف بمكانة وتقدير ممن حوله، فلا ينبغي أن ينال الفنان ما هو أقل، وهو موقف كاف لنصف الفيلم بالجرأة والشجاعة وتحدي التابوهات.

إلا أن وصف الجرأة لم يستخدم تاريخيًا في موضع إيجابي كليًا، بل كان دائمًا ما يوظَّف في الشد على أيدي أفلام سيئة، فيُقال ما معناه "تُحسب للفيلم جرأته رغم عثراته الفنية". لذا فمن المهم التأكيد على أن الطرح الفكري الجرئ هو فقط أحد مصادر القوة في "حدّ الطار"، قوة تُكملها الجودة الواضحة في رسم دراما متشابكة بين شخصيات من لحم ودم، بشر رماديون أبعد ما يكونون عن نمطيات الأبيض والأسود.

دايل العاشق المتيّم الذي ينحاز عند المحك لحبّه قبل كل شيء هو في الوقت نفسه شاب فاشل اجتماعيًا، متعثر دراسيًا، ضعيف أمام عمه، وعمله سيافًا ليس فقط وسيلة للترقي الاجتماعي لكنه فرصة أخيرة لامتلاك وظيفة شريفة تناسب قدراته المحدودة. وشامة المرأة القوية صاحبة الموقف هي أيضًا أضعف من أن تواجه تحديات امرأة مثلها، نكتشف لاحقًا أنها ماكرة تتلاعب حتى بمشاعرها الشخصية بحثًا عن صيغة تفاهم مع عالمها المحيط. شخصيتان دراميتان من العيار الثقيل أجاد فيصل الدوخي وأضوى فهد تجسيدهما برهافة وفهم عميق لتعقيد الشخصية، وإمساك بالتفاصيل الصغيرة يشي بمهارة المخرج في توجيه ممثليه.

بين الماضي والمستقبل
دوافع متشابكة تخلق شبكة من العلاقات داخل حارة تخبرنا اللافتات أن زمنها هو مطلع قرننا الحالي، بينما ينفي كل شيء آخر هذا التاريخ القريب، فالحقيقة أن المجتمع السعودي ظل طويلًا يعيش عصرًا متأخرًا عما يقوله التقويم: أحكام مجتمعية صارمة وتزمت آت من عصور قديمة وإن ركب أفخم السيارات وأمسك بأحدث الهواتف. واليوم يتغير كل هذا، ويأتي الفيلم السعودي تلو الآخر ليخبرنا بالكثير، ليس فقط عن جيل من الموهوبين الشباب المتعطشين لتقديم حكاياتهم الأصيلة التي تجمع بين الخصوصية الشديدة والقدرة على التواصل مع العالم الواسع، لكن ليؤكد أيضًا أن هناك رغبة حاكمة للدولة بدخول المستقبل بأفضل صورة ممكنة، عبر تحرير العقول ومنح الفرصة للأصوات أن تعلو وللماضي أن يُحاسب وللأفكار أن تُطرح ليشتبك معها الجميع سعيًا لمستقبل أفضل.

لن نتفرع أكثر حتى لا نبخس صناع "حدّ الطار" حقهم من التحية، فقد أتوا إلى القاهرة حاملين آمال صناعة تتفتح، مسلحين بفيلم ناضج تمامًا، يجمع بين الرؤية الثاقبة والقدرة صياغة تلك الرؤى في صورة دراما شيّقة محكمة الصنع. قد يكون لك عليها بعض الملاحظات هنا أو هناك، لكن تبقى جودتها أوضح وأعمق أثرًا، ليكون أقل ما يجب علينا أن نحييهم ونحتفي بهم.

*المقال نشر بالتزامن في جريدة القاهرة الورقية

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
ما هو الاردن وما هو فلسطين؟؟
Omar -

سؤال بسيط ولكن للاسف فان الايجابه الدارجه عليه غلط .. ..فلسطين او فلستين هو اسم اطلقته الامبراطوريه البيزنطيه على الاقليم الجغرافي لوادي نهر الاردن ويشمل ضفتي النهر .. والدوله التي قامت عليه بعد زوال الاحتلال العثماني هي الدوله الاردنيه بقيادة اسره قادمه من الجزيره العربيه وكانت وما زالت موسسات هذه الدوله الاردنيه تضم افراد من كلا الضفتين ... فالحقيقه المنسيه ان اراضي دولة الاردن اليوم نصفها محتل من قبل الصهاينه فاقليم فلسطين لا يقزم بضفه واحده بدون جباله وسهوله وباديته وصحرائه وساحله ... فمن الطبيعي والغير شاذ ان يكون كل فلسطيني هو اليوم اردني كما هو مثلا حال كل حجازي ونجدي هو اليوم سعودي او كما كان حال كل جزيري وعراقي وشامي يوما اموي ثم عباسي ...الخ فالدول قد تتغير اسمائها اما الجغرافيا فاسمائها عادتا تبقى راسخه. .. ..ثم مثلا لا سمح الله لو لاسباب معينة او نتيجة لحرب تم احتلال منطقة جنوبي النهر من الضفه الشرقيه قل مثلا منطقة معان والكرك وتهجير ابنائها واقامة كيان هجين فيها فهذا لا يعني ان الشعب شمال النهر من الضفه الشرقيه مثلا قل الشعب الاربدي او الرمثاوي يصبح هو الشعب الاردني حصرا اما الشعب المعاني والكركي فهو شعب غريب فيما تبقى من الدوله .. عوضا عن ان اهالي الجنوب من كلا الضفتين اقرب لبعضهمها جغرافيا واجتماعيا وعشائريا من قربهما لاهالي الشمال. .. ..كذالك علينا الاعتراف بان عبد الناصر لم يكن رسول من عند الله بل دكتاتور ومنافق كبير وخائن لرفاقه و بطل هزيمة ال 67 وهو الذي كان اللاعب الابرز في تغذية عملية الفصل ما بين الضفتين .. وايضا لا ننسى ان الجبهات والحركات الثوريه التي قامت في الاردن لم يكن هدف اعضائها هو الانفصال عن الدوله الاردنيه بل كان الهدف هو تحرير ما اغتصب واقتطع منها .. فلا يصح الاستمرار في تقديس هذا الفصل او التصالح والتعايش معه نتيجة الاعتياد عليه او نتيجة بعض المصالح الضيقه لبعض الاقليات العرقيه او لبعض القيادات الانتهازيه ...الخ.. ..يتبع ..

ما هو الاردن وما هو فلسطين؟؟
Omar -

اخيرا علينا ايضا مراجعة التراث القديم و التمييز ما بين التلموذ البيزنطي و التوراة والتمييز ما بين التلموذ الاموي العباسي والقران .. فالكثير من نصوص ايات القران الكريم تبين بوضوح ان اسرائيل هو احد ابناء نوح والاب الاكبر لابراهيم عليهم جميعا السلام.. وبما ان الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي العالمي اليوم لا يسمح بالاستمرار باللعب بورقة الجوكر الصهيوني لذالك لا يوجد بديل سوى العمل على قيام دوله ديمقراطيه في ظل نظام دستوري ملكي اردني تضم الضفتين من الصحراء الى الساحل كخطوة اولى يترافق معها توسيع للديمقراطيه في المنطقه باكملها .. وقد حان الوقت لكي يتوسع ويكبر ما اسس له الكبيران زايد ومكتوم ويتطور من ديمقراطيه مشيخيه الى ديمقراطيه شعبيه ومن قبائل عشائريه الى احزاب سياسيه .. ليس من مصلحة الديمقراطيين في العالم ان يصيب الامارات ما اصاب الكويت سابقا .. . وعوده لموضوع الاردن فانا شخصيا لست ضد دخول الاحزاب التقليديه مثل حماس او الليكود الى برلمان هذه الدوله الاردنيه .. فالديمقراطيه علاج فعال لانسنة البشر وتحضير المواطن..

وأنا أيضا أحتفى بهم ..
فول على طول -

كل التحيه لصناع هذا الفيلم وكل التحيه لمن عمل به ...نعم هو صرخه أولى فى واد مظلم ولكن ربما تكون شراره النهضه الحقيقيه للانسان السعودى . السعوديه ظلت مغلقه ومقفوله عن العالم تعيش فى القرن السابع حتى تاريخه ولكن كانت الميديا الحديثه هى أول حجر يرمى فى هذه البركه الساكنه بل الميته ولكن الشكر كل الشكر والتقدير لسمو الأمير الشاب محمد بن سلمان الذى اخترق جدار الصمت وركب الأهوال وتحدى الماضى السحيق بكل عواراته ومساوئه وبدأ هدم هذا الماضى العفن ..على الشعب السعودى كله أن يقف خلف هذا الشاب الواعدوالمتفتح ..انتهى - الشعب الذى يحترم السياف ويحتقر الفن هو شعب يمشى بالمقلوب مثل الذى استبدل رأسه بقدميه ويمشى معتدل القامه حاسبا نفسه فى عداد البشر ..عملية تحرير عقول السعوديين والخليجيين بل المسلمين هى عمليه صعبه جدا ولكن المجد للانترنت والميديا الحديثه وكل المجد والتقدير للحكام الجدد مثل سمو الأمير محمد بن سلمان ولا ننسي أولهم حكام الامارات . لابد لليل أن ينجلى ولابد للقيد أن ينكسر اذا الحاكم أراد الحياه لشعبه .