فضاء الرأي

تصفير المشاكل مع صُنّاع المشاكل

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

رحّبت قطر بإعلان العُلا (الذي أعُلن على هامش اجتماع الدورة الـ41 للمجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، في 5 يناير الماضي) وشددت على أن "وحدة الصف الخليجي وإعادة لحمة شعوب المنطقة على قائمة مساعي الدولة، طالما كانت أولوية لديها".

لكن توقيع الاتفاق والترحيب القطري بمخرجاته، كانت نتائج تعبر عن منطلقات متباينة ورهانات غير متطابقة.

الحرص الخليجي على اتفاق يعيد المياه الخليجية والعربية إلى مجاريها كان نابعًا من تضافر دوافع التاريخ والأواصر المشتركة ومصالح الشعوب العربية ومستقبل المنطقة وغيرها من الدوافع الموضوعية الراسخة، وعلى ذلك كانت النتائج المرجوة من الاتفاق من جنس الدوافع الحاثة عليه، فمن يتحرك انطلاقًا من دوافع الانتماء المشترك، والمصالح المشتركة، والمصير المشترك، ستكون آماله موزعة بعدل على كل سكان المنطقة.

لكن "التوقيع" القطري على الاتفاق (كما التهليل بمخرجاته) كان نابعًا من دوافع أخرى غير الدوافع التي جعلت المملكة العربية السعودية تستدعي أخواتها إلى العلا، بكل ما يعنيه الموقع من ثقل تاريخي ورمزي، وكانت الحسابات القطرية مصوبة نحو أهداف أخرى غير التي جعلت الأقطار الخليجية تذهبُ إلى الاتفاق مقتنعة بصواب الرؤية السعودية الرصينة.

قمة قادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية أكدت على الأهداف السامية لمجلس التعاون، التي نص عليها النظام الأساسي، بتحقيق التعاون والترابط والتكامل بين دول المجلس في جميع المجالات، وصولًا إلى وحدتها وتعزيز دورها الإقليمي والدولي والعمل كمجموعة اقتصادية وسياسية واحدة للمساهمة في تحقيق الأمن والسلام والاستقرار والرخاء في المنطقة.

وجاء البيان الختامي مكرسًا لهذه الروح الإيجابية "المتجاوزة" لعثرات الماضي من قبل طرف واحد، وناظرة إلى المستقبل بعين الحليم الرصين، ولذلك خلا البيان الختامي من 3 أهداف رئيسية صرح بها وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، خلال مؤتمر صحفي عقب القمة، وأساسها عدم التدخل في شؤون الدول، ومكافحة الإرهاب، ومحاربة الكيانات والجماعات الإرهابية. خلوّ البيان الختامي من هذه الأهداف المفصلية لم يكن يعني أن أقطار الخليج كانت غافلة عن كون الخلاف الخليجي عائد في جزء كبير منه إلى ممارسات قطرية متصلة بهذه الأهداف، لكن ذلك كان يحيل إلى اتفاق العلا كان اتفاقا عالي السقف، استراتيجي الأهداف، ملتمسا للشقيق أكثر من عذر.

لكن السؤال الذي يطرحُ بعد أشهر من الاتفاق، مفاده هل كانت قطر تريده فعلا؟ وهل قدمت، بالفعل والممارسة، ما يدلّ على أنها كانت فعلا في مستوى التنازلات الخليجية؟ وهل التزمت حقا بمخرجات الاتفاق، حتى وإن خلت من بنود تدين قطر مباشرة؟

مفيد التذكير بأن الأقطار الخليجية نجحت خلال سنوات المقاطعة في التوفيق بين تطوير اقتصادياتها ومستقبل مجتمعاتها وتنمية بلدانها، وبين اتخاذ إجراءات صارمة ضد العبث القطري الخادم للمشاريع التركية والإيرانية والإخوانية.

وكان ذلك النجاح دليلا على أن سلامة الجسم الخليجي وإن أصيب منه عضو بالتعفن. كانت العائلة الخليجية متماسكة ومزدهرة رغم عقوق أحد أولادها، بل إن ذلك العقوق زاد من إصرار الأقطار الخليجية على النجاح، فكانت المشاريع الاقتصادية والتنموية السعودية والإماراتية والكويتية والبحرينية والعمانية تتقدم بنفس النسق الذي تتقدم به العقوبات، وبنفس المسار الذي يزداد فيه التورط القطري مع التحالف الأيديولوجي المعادي للأنظمة العربية، وبنفس الإصرار القطري على الاستثمار في المنظمات الإرهابية وبؤر التوتر في سوريا وليبيا واليمن والعراق وقطاع غزة.

ففي الوقت الذي كانت فيه السعودية تسابق الزمن من أجل تحقيق رؤية 2030، كانت قطر تستثمر في مشاريع حركة حماس والميليشيات الإرهابية في ليبيا ومجاميع الإرهاب في سوريا، والجماعة الحوثية في اليمن.

السؤال السالف ذكره (هل كانت قطر تريد فعلا مصالحة خليجية؟) وتباين المشاريع الذي أشرنا، هي عناصر تحيلنا إلى أن قطر كانت مجبرة بحكم أثر الأزمة إلى البحث عن فتح كوة في جدار الرفض الخليجي، وإلى أنها تأثرت فعلا بالضغوط الأميركية وبالوساطة الكويتية التي حاولت دفع قطر إلى العودة إلى البيت الخليجي.

تزامن ذلك من إيمان العقل السياسي السعودي، بأن مصالحة خليجية حقيقية ستخدم مصالح الشعوب الخليجية والعربية وترفع من منسوب النجاح الخليجي وتحوله إلى نجاح مشترك.


كان الأمل الخليجي معقودا على أن تلتزمَ قطر بالاتفاق الذي هللت بتوقيعه، بما يعودُ بالفائدة على سكان المنطقة وبما يسمح للدول الخليجية بالتفرغ لتحقيق طموحاتها الاقتصادية والتنموية، لكن الدوحة، باعتبار ارتباطاتها المتشابكة، خانت الآمال الخليجية والعربية، وبدأت تجاوزاتها وحبر الاتفاق لم يجف بعد. واصلت قناة الجزيرة ادعاءاتها وحملاتها على الأقطار الخليجية والعربية، وكان مدخلها في ذلك تعلّة الذود على الحريات.

وكان التصويب على دولة البحرين من خلال حملة إعلامية وسياسية منظمة. اشتكت البحرين من التعديات القطرية، وشددت على التزامها باتفاق العلا، وبالتزاماتها صلب مجلس التعاون، لكن ما بدا واضحا أن الاستفزازات القطرية لمملكة البحرين لم تكن موجهة للبحرين فقط، بل إن هدفها كان اختبار التماسك الخليجي والصبر السعودي بعد اتفاق العلا، وكانت الحملة الإعلامية على البحرين، لوحدها، تتقصّدُ أيضا إفراغ الاتفاق من بعده الخليجي الجماعي، ومحاولة شق الصف الخليجي باستهداف طرف واحد دون غيره.

وكان التصويب على البحرين بالتزامن مع تصريحات دافئة تجاه السعودية، يعني في أبعاده العميقة أن الدوحة تقضم من الالتزام القطري تجاه رباعي المقاطعة، والتسويق للاتفاق على أنه ضرب من مصالحة ثنائية مع الرياض.

لم يكن هذا التكتيك القطري غائبا عن فهم القيادات الخليجية التي قرأت جيدا الصلات الدنيئة بين الحملات الإعلامية على البحرين، بواسطة الجزيرة، وبين العلاقات القطرية مع إيران. يمكن تلمس تلك الصلات من خلال تركيز قناة الجزيرة على قضية المعارضة البحرينية وأوضاع السجون، وهي ملفات نفخت فيها قناة الجزيرة إلى درجة تحولت معها القناة إلى منبر للمعارضة الشيعية التابعة لإيران.

فندت الداخلية البحرينية الادعاءات القطرية حين أكد بيان صادر في شهر مايو الماضي على وجود "منهجية منسّقة بين قناة الجزيرة القطرية الحكومية كطرف أساسي وأشخاص يديرون منظمات تدّعي العمل في مجال حقوق الإنسان، في حين أنهم محكومون وهاربون من العدالة وبعضهم متورط في قضايا إرهابية".


المفارقة الأكبر في الخيانة القطرية لاتفاق العلا أن قطر التي وقعت اتفاقا يشدد في أحد بنوده على التعاون في مجالات مكافحة الإرهاب والأمن العابر للحدود، أصرت بعد أيام قليلة من توقيع الاتفاق على أنها لن تغير علاقاتها مع إيران وتركيا (وهي التي توفر الدعم الأكبر لجماعات الإرهاب والتطرف بشقيه الشيعي والسني)، حيث أكد وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني بعد يومين من توقيع اتفاق العلا على أن "العلاقات الثنائية يحكمها بشكل أساسي القرار السيادي والمصلحة الوطنية"، مؤكدا أن الاتفاق "لن يكون له تأثير على علاقتنا مع أي دولة أخرى".

استثمار قطر في علاقاتها مع تركيا وإيران على الرغم من عودتها إلى الحضن الخليجي منح دول داخل الرباعي الفرصة للتحرر من أي التزامات تجعلها تضع الرباعي أولا ومصالحه، وشجعها على صياغة استراتيجياتها المصلحية ضمن خطها الوطني لا العودة لمسلمات الرباعي المفترضة، لذا لا يمكن نقد توجهها نحو توثيق علاقاتها الاقتصادية مع إيران بينما تسمح لغيرها كقطر من توثيق علاقاتها الاقتصادية مع إيران وتركيا.

وما حدث هو أن اتفاق العلا ومخرجاتها والتطبيق القطري لها، أثر كثيرًا على الاستراتيجيات اللاحقة بعد الاتفاق، وغيّر الكثير من الاستراتيجيات والخطط، وجعل كل دولة تبحث عن مصلحتها، وهذا ما أضر ويضر ليس بالرباعي فقط بل بقطر أيضا، فالتقارب المصري التركي يحيد القطريين في ملف الإخوان في تركيا، ويثمر عن خسارة الدوحة للكثير من قواعدها البوقية التي تتعالى على مصر والرباعي العربي. أيضا الهرولة التركية والإيرانية تجاه السعودية والأمارات تضعف من الموقع القطري واللعاب التركي يسيل لأسواق أكبر من سوق واقف.

من جانب آخر، كان واضحا أن اتفاق العلا عالج أعراض الأزمة مع قطر، وتجاهل الدواعي الأيديولوجية العميقة للخلاف مع قطر. الدوحة لا يمكنها الفكاك من ارتباطاتها الأيديولوجية المتشابكة والمعقدة مع الإخوان ومع تركيا ومع إيران، وهي تشابكات تحكمها المصالح الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية، مضافا إليها أسباب أخرى تخص الهندسة الداخلية للحكم في قطر، وهي أسباب تحيل إلى صلة العائلة الحاكمة في قطر بجماعة الإخوان المسلمين. لم تعد قطر قادرة على الانضواء في محور عربي يؤمن بالاعتدال وبدور الدولة صاحبة السيادة على مجالها، وهو عجز تكّون من خلال تراكمات تاريخية وسياسية جعلت من الدوحة غير قادرة وغير راغبة في صوغ خطاب سياسي عقلاني متماسك، يؤمن بمبدأ عدم التدخل في شؤون الآخرين، ويؤمن بأن للدول حدود طبيعية وجب احترامها ويؤمن أيضا بأن الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان يكون أولا وأساسا بإرسائها في الداخل قبل العويل والنواح عن غيابها عند الآخرين.

يكفي أي متابع للسياسة القطرية أن يتابع المحتوى الإعلامي الذي تبثه قناة الجزيرة لكي يتبين مسار السياسة الخارجية القطرية، وإذا كانت القناة مازالت مواصلة في غيّها الإعلامي وحملاتها المغرضة ضد الأقطار التي دأبت على استهدافها، فإن السياسة القطرية لم تخرج بعد، ولن تخرج، عن مسارها العدائي حتى وإن جملت بعض مواقفها بتصريحات مغازلة للجار الأكبر (المملكة العربية السعودية).

الثابت أخيرا أنه يستحيل صوغ علاقات طبيعية مع بلد تكبله ارتباطاته الخارجية عن شق أي طريق نحو أشقائه. لا يمكن أن ينجح مبدأ تصفير المشاكل مع بلد دأب على صنع المشاكل والاقتيات منها. وهذه قناعة بدأت تجد رواجا لدى أطراف خليجية كثيرة، تتجاوز الموقف البحريني، بما يطرح أسئلة كثيرة عن جدوى المصالحة الخليجية ومآلاتها ومستقبلها.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف