فضاء الرأي

تونس بلد الإفلات من العقاب

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

خلال فترات الرخاء الاقتصادي تكاد تتلخص معارك ونقاشات حكومات الدول الديموقراطية حول مساءل تهم المواطن كالمشاكل الاجتماعية والصحة والبيئة والمشاريع الكبرى ومزيد إرساء العدالة الجباية والاجتماعية. اما حين تواجه هذه الدول أزمات كبرى مثل ازمة كوفيد19، فإنها تتحول الى حكومات حرب تزول فيها الاختلافات وتنتفي الصراعات والمناكفات السياسية لأن كل جهودها تجتمع حول هدف وحيد وهو انقاذ حياة مواطنيها.
في تونس ورغم الازمة الاجتماعية والاقتصادية والصحية والسياسية الخانقة التي تعرفها البلاد فقد تشكل وعي لدى غالبية الشعب التونسي، وهو بمثابة الحقيقة الغير قابلة للدحض مفادها ان هذه النخب بكل اطيافها ومسؤوليها في وادي والشعب في وادي أخرى وهو ما عكسه بلا شك ارتفاع نسب تشاءم التونسيين الى اكثر من 90 بالمائة. أي ان كل فئات الشعب التونسي مجتمعة، فقيرة ومتوسطة ومترفة، ترى ان البلاد تسير في الطريق الخطأ وهو مؤشر خطير يكشِف حجم تجذّر ازمة الثقة بين النخب والناخبين وامتداد حالات اليأس والإحباط الى الشرائح الغير الهشة التي يمكن، نظريا على الأقل، ان تُقاوم وتَمتص وقع الازمات.
الأخطر من ذلك هو تداعيات هذا المناخ الخانق على الأجيال المقبلة وإعادة تشكيل وعيها وعلاقتها وروابِطها بالدولة ككيان مُوحد جامع لكل الاختلافات الفكرية والثقافية والعقائدية الممكنة. ان ما نلاحظه هو تحول هذا الكيان في نظر الشباب الى كيان غاصِب ونافِر لا يتسع الا للفاسدين والمنحرفين وأصحاب النفوذ، وهي الطامة الكبرى لأننا بذلك خسرنا الماضي وسوف نُحطم حلم المستقبل.
ان هذه المقاربة هي نتيجة حتمية لتخاذل الدولة بتطبعها مع الفساد ومأسسة الافلات من العقاب لأن أي دولة في العالم تمتلك القدر النزير من احترام مواطنيها، سوف تُعجّل مثلا بمحاكمة علنية لاثنين من اكبر قضاة تونس و مُتواطئين معهم في قضايا فساد كبرى وتستُر على إرهاب وارهابيين، لكننا في تونس نكاد لا نفعل شيئا مما يوحي بأننا فعلا في دولة شبه مفيوزية.
حدث ذلك في دول غربية أخرى في التسعينيات حين توفرت الإرادة السياسة والوعي الشعبي لكن سياسيينا ونخبنا في تونس في اغلبها تفتقد الى الحد الأدنى من الشجاعة الفكرية والسياسية لضرب كارتلات اقتصاد الريع ومهربين تحولوا بعد الثورة الى اثرياء داعمين للحاكمين الجدد.
وفي أي دولة أخرى لها بعضا من المصداقية، سوف تقوم أجهِزتها على الفور بإيقاف وتتبع امنيين قاموا بسحل وتعذيب مواطنين وتسببوا في قتل أبرياء عزل، لكن هؤلاء يتحصّنون بالإفلات من العقاب امام مرأى ومسمَع كل السلط.
في الولايات المتحدة تم على الفور إيقاف الشرطي الذي تسبب في قتل المواطن الأميركي جورج فلويد وحصلت الفتاة التي وثّقت الحادثة على جائزة خاصة من جوائز بوليتزار وهي اكبر الجوائز الدولية في مجال حرية الصحافة. بعد بضعة أشهر فقط حُكم على الشرطي بأكثر من عشرين سنة سجنا، كما حركت هذه الحادثة المياه الراكدة في طريقة عمل الشرطة وعلاقة الشرطة بالسود من أصول افريقيا في بلاد العم سام.
في تونس الآن، قام عناصر من الشرطة بسحل وتعرية طفل في منطقة من اشد المناطق فقرا وتهميشا في تونس، ثم زُج به في مركز الإيقاف وسط المجرمين والمنحرفين وانهالوا عليه ضربا وشتما وركلا بأمر من النيابة العمومية ليطالعنا الناطق الرسمي باسم الداخلية بأن هذا "الشاب" كان في حالة سكر وقام بالاعتداء على عناصر الامن.
من حسن حظنا ان شخصا ما قام بتوثيق الحادث بالصوت والصورة، لنتبيّن ان عناصر من الامن قاموا بتعريته وسحله وانه لم يكن في حالة سكرا وكان طفلا قاصرا. بعد اكثر من شهرين ما تزال السلطة في تونس لم تتعرف على المعتدين ولم تقع محاسبة أي طرف. انها دولة الإفلات من العقاب.
امام كل هذه المؤشرات والمنزلقات الخطيرة التي أصبحت تهدد اصلا وحدة وتماسك الدولة التونسية ، تصاب الكيانات السياسية التونسية بمرض العصر وهو مرض التوحد. هو مرض للأسف يصيب الأطفال لكن في تونس وحدها تصاب أيضا كل الكيانات السياسية والمؤسساتية أي الحكومة والبرلمان ورئاسة الجمهورية بالتوحد في وقت اصبح فيه توحيد الجهود لمجابهة الكورونا وتداعيتها قدرنا المحتوم.
ان الصراع من اجل البقاء مهما كان الثمن والمغالبة البائسة تبقى بلا فائدة او جدوى خاصة و ان نظامنا السياسي و الانتخابي في تونس مُغلق و مُكبل أي بعبارة أخرى يمكن ان يستمر الامر في عطالة مؤسساتية دائمة الى الانتخابات المقبلة، وهو ما يعني افلاس وانهيار الدولة مما يعني ثورة أخرى سوف تأتي هذه المرة على الأخضر واليابس، في حين يحتاج الوضع الى التسلح بنوع من البراغماتية السياسية لحلحة الوضع.
فلا الرئيس قيس سعيد سوف يقبل بانقلاب رئيس الحكومة عليه، ولا رئيس البرلمان راشد الغنوشي سوف يسمح بتحول النظام السياسي من نظام شبه برلماني كما جاء به دستور الجمهورية الثانية، الى نظام رئاسي مطلق كما يطالب بذلك رئيس الجمهورية. وسط كل هذه اللخبطة السياسية يبقى المرور الى انتخابات مبكرة بمثابة إعادة انتاج للمشهد الحالي أي في نهاية الامر نحن ندور في حلقة مفرغة. السؤال الان من سيقوم بالخطوة الأولى؟ لأنها ستكون كما قال نيل ارمسترونغ" خطوة صغيرة بالنسبة للإنسان، وقفزة كبيرة للبشرية".

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
تونس تتخبط
محمد الهادي عبدلاوي -

تحليل عميق لخص هنات تونس الجديدة.

رحم الله المشعوذين
فول على طول -

بمناسبة الافلات من العقاب كنت أتوقع من الكاتب أن يكتب عن الهمج والرعاع فى مجلس الشعب التونسي الذين تعدوا بالضرب على النائبه عبير موسي والسكوت المهين لمجلس شعبكم الغير موقر ..كنا ننتظر أن ينتفض المجلس ويرفع الحصانه على الذين اعتدوا على النائبه عبير ويقدمونهم للمحاكمه مع أن العالم كله شاهد هذه المهزله أو على الأقل نرى مقالات من المثقفين من الذين أمنوا وأولهم التونسيين ينددون بهذا الفعل ولكن الغريب أن شيئا من هذا لم يحدث ..وبعد كل هذا يتحفنا السيد الكاتب بهذا المقال . ربنا يشفيكم يا بعدا . رحم الله المشعوذين .