بعد الانسحاب الاميركي من أفغانستان
هل الولايات المتحدة "عادت" فعلا كما وعد الرئيس؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
تساؤلات كثيرة وسجالات اجتاحت وسائل الاعلام العالميّة خلال الأسبوع الفائت إثر الانسحاب الاميركي السريع من افغانسان، حيث سارع الجمهوريون في كلا مجلِسيّ الشيوخ والنواب الأميركيين، الى توظيف المشهد سياسيًا واستغلاله منذ الآن للتأثير على الرأي العام في الانتخابات القادمة، لا سيما وانّ الرئيس الأميركي الحالي الديموقراطي جو بايدن كانَ قد قدَّم نفسه خلال حملته الانتخابية بوصفه خبيرا مُتمرسًّا في السياسة الخارجية، وكان شعار حملته حينها "الولايات المتحدة عادت" أي عادت الى الساحة العالمية .
أما التساؤلات حول تداعيات ذلك الانسحاب على القوى في موازين السياسة الخارجية فهي أشد عمقًا، وتفتح الباب على مصراعيه حول الدور الاميركي واستراتيجياتها في المنطقة برمتها، حيث يرى المراقبون أن تسليم افغانستان الى طالبان يهدف بالدرجة الأولى إلى تأديب إيران واخضاعها لتوقيع الاتفاق النووي وتنفيذ الشروط الأميركية والدولية بوقف تصنيع الاسلحة الباليستية والحدّ من نشاط أذرعها المتمثلة بالميليشيات "الشيعية" المنتشرة في لبنان وسوريا والعراق واليمن والمُصنّفة ارهابية والخاضعة بموجب القوانين الدوليّة للعقوبات الاقتصادية الصارمة. لذلك فإنّ كثير من المحللين يرون أنه في حال عدم انصياع إيران لذلك فإن التحالفات الاستراتيجية المشتركة بين القوى الكبرى ستوجه ضربة لإيران لتدمير بنيتها العسكرية بما فيها المفاعلات النووية.
على أيّة حال فإن الرئيس الأميركي قال إنه يقف "بشكل مباشر" وراء خروج بلاده بعد عقدين من السيطرة المباشرة والانفاق الهائل للأموال الطائلة متساءلا : "كم يستحق الأمر من أرواح أمريكية إضافية؟" فيما بدت طالبان في مشهد الفاتح المنتصر بعد هرب رئيس البلاد أشرف غني وانهيار حكومته والفرار الجماعي لأنصاره.
و كان أول بيان له من منتجع كامب ديفيد الرئاسي أشبه ما يكون بالتبرير وقد بدت تصريحاته وكأنها موجهة للداخل الأميركي أكثر من كونها ذو مضامين خارجية، و يمكن الوقوف عند نقاط أساسية تضمنتها تلك التصريحات أهمها:
أولًا: تُعد عودة حركة طالبان إلى استلام مقاليد الحكم بمثابة إعلان نهاية وجود الولايات المتحدة، الذي استمر 20 عاما. وهو ما وصفه الرئيس الأميركي بالقرار السليم حيث قال: "إذا كان هناك من شيء يمكنني التعليق عليه، فهو أن التطورات الأخيرة على مدار الأسبوع الماضي تعزز وجهة النظر التي تتضمن أن إنهاء الوجود الأمريكي في أفغانستان الآن هو القرار السليم".
ثانيًا: على الرغم من أن أغلب الأمريكيين يؤيدون خطوة انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان بشكل كامل إلا أن كثيرون يرون في الطريقة التي تمت بها مذلة كبيرة فقد أعادت صورة الانسحاب الفوضوي والاجلاء السريع للرعايا إلى الأذهان صورة الخروج الاميركي من فيتنام وهو ما أشار اليه بايدن بالقول: "لقد حدث هذا بسرعة كبيرة فاقت توقعاتنا". وهو ما استغله خصوم بايدن من الجمهوريين في الدعاية حيث اعتبر ميتش ماكونيل زعيم الصقور الجمهوريين في مجلس الشيوخ، في تغريدة له على تويتر أن "ما نراه في أفغانستان كارثة مطلقة. انسحاب إدارة بايدن سيخلّف وصمة عار في جبين الولايات المتحدة".
ثالثًا: بعد أكثر من عقدين في تدريب القوات الاميركية للقوات الافغانية، ولا زالت تلك القوات غير قادرة على التضحية والقتال والحسم واستلام مقاليد الحكم في البلاد وهو ما قاله الرئيس الأميركي: "لا يجب ولا ينبغي أن تقاتل القوات الأمريكية وأن تضحي بحياة أفرادها في حرب ليس لدى القوات الأفغانية استعداد للقتال بأنفسهم فيها".
رابعًا: على الرغم من أن الرئيس الأميركي بايدن أعاد بلاده الى معظم الاتفاقيات التي انسحب منها سلفه دونالد ترامب كاتفاقية المناخ وغيرها إلا أنه أبقى على الاتفاق الذي عقده ترامب مع طالبان، و ينصّ على الانسحاب من أفغانستان بحلول مايو- أيار الماضي وبذلك يكون خصومه الجمهوريون هم شركاء في عملية صنع القرار. لذلك نجد ان الانتقادات انصبت حول طريقة الاجلاء وصورة الانسحاب لا على مبدأ الانسحاب نفسه الذي يؤيده غالبية النواب من الجمهوريين والديموقراطيين على حدٍّ سواء.
خامسًا: أن أهداف القوات الاميركية المباشرة من الوجود العسكري هناك قد انتهت منذ فترة كما أن البقاء لن يُحدث تغييرا عمليًّا في البنية الحقيقية الادارية للبلاد سواء لجهة السياسة ام غيرها، فالحكومات الافغانية المتعاقبة خلال الاعوام العشرين المنصرمة لم تثبت جدارتها ولم تكن قادرة على مسك زمام المبادرة في ادارة البلاد، فالاميركيون لن يكونوا حُرَّاسًا لحكومات هشة وهو ما أشار له بايدن بالقول: "لن أضلّ الشعب الأمريكي، ولن أزعم أن وجود القوات الأمريكية في أفغانستان لبعض الوقت سوف يحدث فارقا كبيرا في الأوضاع هناك“.
أخيرا فإن المشاهد الواردة من مطار كابل تعزز الصورة المؤلمة حول تخلي القوات الأميركية عن حلفائها، وتُعد ضربة قوية لمصداقية الولايات المتحدة و قيمها الأخلاقية والانسانية وهو ما كشف عن عمق التناقض الصارخ بين ما وعد به بايدن في حملته بأن "أميركا عادت" وبين الواقع الذي عكس انسحابًا فوضويًّا وإجلاءً سريعًا وخيبة أملٍ مروعة أصابت حلفائها الأفغان.