الانتخابات العراقية: زرع الديمقراطية في ارض الفساد والخراب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
أيام قليلة تفصل الشعب العراقي عن الانتخابات النيابية المبكرة التي قررت الحكومة العراقية أجرائها في 10 أكتوبر / تشرين الأول 2021 بناء على اقتراح مفوضية الانتخابات العراقية، واتفاق سياسي بين كافة الأطراف والكتل السياسية العراقية، في ظل تحديات كثيرة ومتفاقمة لعل ابرزها التناحريات السياسية، وانهيار الاقتصاد، وآفة الفساد المستشري، والسلاح المنفلت للمليشيات المسلحة، وخلافات الحكومة الاتحادية مع إقليم كردستان، والتدخلات الإقليمية والدولية المستمرة، وضعف الاستقلال الوطني لصالح تدخل ايران وسيطرتها على مفتاح القرار العراقي.
هناك تخوف من العراقيين من أن تكون الانتخابات القادمة شبيهة بانتخابات عام 2018 التي جلبت للبلاد الخراب السياسي، وأدخلته في نفق مظلم من الأحزان والبطالة والجوع والتشرد، مقابل إبقاء المحاصصة الحزبية والامتيازات للكتل السياسية.
كل المعطيات الواقعية على الأرض تشير إلى أن الانتخابات القادمة لن تكون الحد الفاصل لترتيب المشهد السياسي الذي نتج عن تسويات وصفقات في تشكيل الحكومات السابقة، وتقاسم النفوذ السياسي والمادي. يقابله توقع بحصول اختراق كبير يكسر المعادلة السياسية التي تتلخص بالمحاصصة والطائفية للمكونات الثلاث سواء في الرئاسات الثلاث أو في بقية مفاصل العملية السياسية. وهذا يعني بقاء القوى السياسية التقليدية تحت قبة البرلمان بأشكال متعددة وتسميات جديدة، وعودة التحالفات السياسية التي تضمن بقاء الوجود السياسي والنفوذ الاقتصادي، دون التفريط بالصديق الإيراني، وعودته بطريقة جديدة تتلاءم مع الأوضاع والضغوط الشعبية، خاصة مظاهرات الشباب في أكتوبر/تشرين الأول 2019، وما فرضته من واقع جديد في ميزان القوى والتحالفات.
هناك من يعتقد بأن الانتخابات المقبلة لا تختلف عن سابقاتها من الانتخابات البرلمانية السابقة في حضور الاصطفافات المكوناتية بين كتل كل مكون في مواجهة ما يسمونه بالمخاطر التي تحيط بالمكون والوطن من أعداء الداخل والخارج حسب تصور تكتلات المكون. لكن الأمر الخطير، هو تصفية المرشحين المنافسين جسديا. وهذا يعني أن أي حزب جديد لا يمتلك ميليشيا لحماية أعضائه ومرشحيه، لن يكون قادرا على التنافس، بل لن يجرؤ أحد على الترشح من خارج المنظومة الحالية التي تمتلك مليشيات مسلحة لحماية قادتها وأعضائها.
ولأهمية الانتخابات على صعيد المستقبل العراقي، وإفرازاتها على المشهد السياسي، والصراع السياسي الداخلي والإقليمي، والبيئة الصراعية المحتدمة قبل الانتخابات من قبل الأحزاب والطوائف والقوميات. فأن هذه الورقة تسعى من خلال محاور رئيسية إلى تسليط الضوء على الانتخابات العراقية المقبلة، وتفكيك المشهد السياسي العراقي، وتحليل مسارات اليات الانتخابات في ظل بيئتها الصراعية بين الأحزاب المتآلفة والمنقسمة، وما يتوقع من تطورات جديدة على صعيد التنافس الانتخابي، والتدخلات الأجنبية. كذلك استقراء المستقبل ضمن السيناريوهات المتوقعة التي تشكل مستقبل العملية السياسية في العراق.
أولا: البيئة الصراعية ومشهد الخراب
من يتأمل المشهد العراقي وتداعياته منذ احتلال العراق عام 2003، لا يجد صعوبة في قراءة المشهد السياسي المنقسم والمفكّك نتيجة الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية في العراق. وما انفكت تعترف بالخطأ تلو الآخر، وبالنكسة تلو الأخرى. حيث يسمح المسؤولون لأنفسهم أحيانا بأن يكونوا صرحاء، بخاصة حين يكتمل مشهد المأساة وتبتعد عنهم الأضواء، فيصعدون المنبر ليدلوا بشهاداتهم عن أخطاء الإدارات الأمريكية المتعاقبة ونكسات خططها هنا وهناك.
لم تكن أعوام بعد الاحتلال، أعوام البناء والأعمار والديمقراطيّة وحقوق الأنسان، وإنما كانت أعواما مليئة بالتناقضات السياسيّة، والمجازر الوحشيّة، وتجفيف منابع الحياة وإفراغها من مؤسساتها الرسمية وكوادرها العلمية والمتخصصة عن طريق القتل أو التهجير القسري، وخلق الفوضى العارمة من خلال الاضطرابات الأمنية والقتل العشوائي والمنظم؛ لإرهاب العراقيين لجعلهم خنوعين وهلوعين وراكعين في حياتهم اليومية، إضافة إلى آلية إحداث تشققات اجتماعية في النسيج الاجتماعي العراقي بهدف خلق تجاويف وانفلاقات في الهرم السكاني لصالح طائفة على أخرى.
وعندما نتحدث عن تطور أي بلد، فأننا نتحدث عن سياسييه، فقد علمتنا الحياة وتجاربها، إن المسؤولين نوعان، النوع الأول هم مفاتيح الخير، يحبون خدمة الناس، سعادتهم في تسهيل حياة البشر وقيمتهم فيما يعطونه ويقدمونه، وإنجازهم الحقيقي في تغيير الحياة للأفضل، يفتحون الأبواب، ويقدمون الحلول ويسعون دائماً لمنفعة الناس. والنوع الثاني مغاليق للخير، يصعّبون اليسير ويقللون الكثير، ويقترحون من الإجراءات ما يجعل حياة البشر أكثر مشقة، سعادتهم في احتياج الناس لهم، ووقوفهم بأبوابهم وعلى مكاتبهم.
ومن سوء حظ العراق انه فاز بالنوع الثاني الذي غلق منافذ الحياة، وابتكر أنواع أساليب القمع والقتل، وتفنن بأثارة الطائفية، وابتكار قتل الحياة والحرية، حتى أصبح السياسي العراقي ماركة مسجلة في تقديم تجربة مغزية في النظام السياسي يقوم على المحاصصة والسرقة والفساد والفقر، وتهديم ما تبقى من الوطن حتى دخل في آخر التصنيفات العالمية من حيث الفقر والمعيشة والآمن والنظافة والشفافية ، حتى يشعر المرء بالخجل: كيف إن هذا العراق العظيم غير قادر اليوم على إنتاج البصل والطماطم والخضروات، بعد إن كان ينتج الصواريخ والسيارات والأدوية والأجهزة الإلكترونية.
يصعب اليوم الحديث عن الديمقراطية في ظل بيئة منخورة بالفساد والخراب. ودستور مفخخ بالمحاصة الطائفية، وبهوس اقتناص الفرص والمصالح، وتوزيع غنائم الأرض والثروات والأدوار، وتهميش الثوابت العراقية الوطنية، بل يلغي بعضها ترضية لجهات وأحزاب وأجندات تحت مبدأ (هذا لك وهذا لي). ومؤسسا لثقافة التهميش والثأر والمحاصصة الطائفية، وتنمية الصراعيّة بين الأديان والطوائف والقوميات.
إن الديمقراطية لا تعني الانتخابات فقط، إنما تعني الممارسة الخلاقة للحياة السياسية، وبناء المواطنة والمجتمع المدني. وإذا كانت قوة المؤسسات السياسية في الديمقراطيات العريقة قادرة على الحد من تغول القادة الدغمائيين، فإن المأزق العراقي أكثر تعقيدا؛ إذ لا توجد مؤسسات قادرة على تصحيح مسار الديمقراطية، ولا توجد قيادات أو أحزاب حقيقة تؤمن بحقيقة الديمقراطية وقيمها. وهذا ما يجعل الناخب العراقي يشكّك بجدوى الانتخابات والنظام الديمقراطي، وبقادة العملية السياسية، وقدرتها على تغيير حياتهم بعد خمس تجارب من الانتخابات منذ2003. بل أن الاعتقاد السائد في الشارع العراقي أن الديمقراطية مجرد لعبة للأحزاب السياسية للوصول إلى السلطة والمال، وهي غير قادرة على إنتاج نظام ديمقراطي حقيقي.
هناك بيئة سياسية صراعية لا تعطي املأ بأن الانتخابات ستفرز واقعا إيجابيا. حيث الأزمة المالية تتفاقم باتجاه الخناق على الاقتصاد العراقي والاستثمار، وتفشي مرض الفساد المزمن. وهناك الأزمة الكبيرة بين الأكراد والحكومة الاتحادية حول النفط وتقسيم الموارد والموازنة السنوية، والاختلاف في تفسير الدستور والفيدرالية، وفهم العلاقة بين الإقليم والمركز. كما تشهد الحياة السياسية صراعا بين الحكومة والمليشيات والحشد الشعبي لأثبات الوجود.
ثانياً: أحزاب الإسلام السياسي وبرامجها الانتخابية
ساهمت أحزاب الإسلام السياسي التي يُمسك أغلبها بمقاليد السلطة منذ عام 2003 في إفساد الحياة السياسية العراقية بعقيدتها الأيدلوجية المريضة والمستوردة، وهي عقيدة تعتمد تصعيد الأزمات لأهداف مصلحيّة وانتهازية دون إن تقرأ خصوصيات الحاضر، وأفاق المستقبل ومخاطره على الوطن. فهذه الأحزاب، الشيعية والسنية على حد سواء، جاءت بمنطق تسيس وتديين السياسة، حيث تلتقي في المصالح وتختلف في التكتيك المرحلي والخطاب الإعلامي، لكنها تنهل من المعين ذاته، وتستخدم الفقه عينه.
وتعتمد هذه الأحزاب الدينية على مشروع (الولائية) و(الحاكمية) قبل مشروع الوطن، وهي أيدولوجية معظم أحزاب الإسلام السياسي في الوطن العربي التي استثمرت النوازع الدينية البدائية لدى الشعب استثماراً غير وطني وأخلاقي. مما تسبب في أحداث شرخ كبير في منظومة الحياة، بفعل مخرجات نتائج الانتخابات الماضية التي أوجدت لنا أحزابا (شيعية) و(سنية) و(كردية) و(مسيحية) و(تركمانية) ...الخ، فاتجه المواطن إلى خياره الوحيد وهو التخندق إلى طائفته أو دينه أو قوميته، مؤديةً إلى تثوير الواقع بالعنف والتنابز الطائفي والقومي.
وقد أثبتت الوقائع والممارسات إن هذه الأحزاب الدينية العراقية لا تمتلك وسائل ديمقراطية راسخة، وتميل إلى أساليب التطرف والعنف في برامجها الاجتماعية والسياسية. كما تفتقر للرؤية السياسية المستقبلية ومشروعها هدم الأوطان، وامتلاك الحاضر باي ثمن على حساب مستقبل العراق ووحدته. وتقديم مصالحها الذاتية وأجنداتها السياسية على مصالحه ووجوده، بدليل استثمارها لنوازع الشعب الدينية والطائفية، وتركيزها على برامجها السياسية التي تتجه إلى العموميات، ولا تقدم حلولاً علمية وواقعية للمشكلات العراقية. فلا تزال برامج الأحزاب الدينية تتأطر بالنمط التقليدي في تشكيلاتها ومشاريعها، وتدغدغ غرائز الناس، لإنماء روح التعصب الديني المريض وجعله في اعلى مستوياته، وتدمير بناء النسيج الاجتماعي والسياسي. وتمزيق منظومة القيم السياسية والاجتماعية، وإضعاف الولاء الوطني، وتأسيس ممنهج لخراب شامل في الحياة. فهي أينما ظهرت، حل الخراب والانقسام في المجتمع، سواء كان متجانسا مذهبيا ودينيا، أو متعددا مذهبيا ودينيا. فهي الحقت التشويه والأذى بالدين في المقام الأول، وبالشعب في المقام الثاني.
فالأحزاب الشيعية الدينية في العراق تأثرت بثورة إيران وفلسفتها الإسلامية، لكنها لم تستطع تطبيق التجربة بعد عام 2003، فتحولت بانتهازية من الإسلامية إلى البرغماتية، والتعاطي مع واقع الاحتلال الأمريكي، وطبيعة المجتمع العراقي، خاصة وان الإدارة الأمريكية رسخت مفهوم المكونات الطائفية الأثنية في العملية السياسية من خلال التوافق بين النخب الطائفية لإضفاء الشرعية على النظام الجديد. ولم تعد فكرة الدولة الإسلامية مغرية للطبقة السياسية الشيعية بسبب طبيعة العملية السياسية، وصعوبة أقلمه أيديولوجياتها الأصلية ونموذجها التقليدي مع ما قرره الدستور الملغوم بمفهوم المكونات، والحقائق الواقعية على الأرض.
أما الأحزاب الدينية السنية، المتمثلة بالحزب الإسلامي العراقي، فأن التجارب أثبتت انتهازية الحزب بممارساته وتحالفاته المشبوهة، وعدم قدرته في زرع أفكاره بتربة غير صالحة للأفكار الدينية المؤدجلة سياسيا. كما أنه" فشل في الوفاء بوعوده في توفير الخدمات والأمن عندما ساهم في الحكم بعد عام 2003، وفي مجلس الحكم العراقي الذي أنشأته سلطة التحالف التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية. أضف إلى ذلك، معارضته المقاومة المسلحة، والانضمام إلى الحكومة من اجل تعزيز مصالحه الخاصة، وإسباغه رداء الشرعية على الاحتلال بسبب هذه المشاركة مما سبب بتراجع شعبيته في المدن ذات الأغلبية السنية. حيث نظر له بأنه لا يعكس إرادة مجتمعه، باعتباره غير أمين وغير كفؤ ولا يخدم غير مصالحه"، وبالتالي فأنه سيكون اسما فقط في لائحة الانتخابات والعملية السياسية القادمة.
هناك حقيقةً لا تتبيّن كثيراً في القراءة الماكروسياسية للأحزاب الدينية العراقية، وعند تصنيفها إلى أحزاب عقائدية وأخرى براغماتية، ولا تَقْبَل الإدراك إلا حين التدقيق ما وراء خطوط الفصل بينهما. فقد غيرت جميع الأحزاب الدينية لونها السياسي بطرق تكتيكية لاجتذاب الناخبين وتوسيع قاعدتهم الشعبية. حيث تحولت من ناحية الممارسة إلى أحزاب برغماتية تفتقد للطابع الفكري، والتركيز على الهوية على حساب الإيديولوجيا. وهو السبب الرئيسي في تخليها على أقامه دولة إسلامية، وتغيير خطابها السياسي، وخوض حملاتها الانتخابية من خلال ائتلافات شملت غير إسلاميين، وافتقار برامجها السياسية إلى القضية الدينية. وكل هذه الممارسات الانتهازية هدفها تأمين بقائها السياسي، وحصد شرعية أوسع.
إن حالة الانقسام الكبير الذي شهدت الانتخابات البرلمانية العراقية للعديد من القوى والأحزاب السياسية مقارنة بالسنوات السابقة، لم يقتصر على طرف دون آخر، بل شمل المكونات الثلاث الكبرى في العراق: الشيعة، السنة، والأكراد. ولعل أسباب الانقسام قد تعود إلى الاختلاف في المنهج والأسس والمبادئ مقارنة بالدورات الانتخابية السابقة، ويظهر ذلك جلياً في العناصر السياسية المكونة للتحالفات الموجودة حالياً. إذ شهدت القوى الشيعية انقساما أكثر حدة من ذي قبل إلى أجنحة متعددة أبرزها: تحالف النصر، تحالف الفتح، تحالف سائرون، ائتلاف دولة القانون، ائتلاف الحكمة والتي ضمت العديد من الأحزاب والشخصيات الأخرى. فضلاً عن القوى السنية الرئيسة التي انقسمت إلى عشرات من الأحزاب والمكونات، وهو ما يؤشر عمق الخلاف بين توجهات كبار ممثلي السنة في العراق. أما على صعيد المكون الكُردي، فالاستفتاء على انفصال إقليم كُردستان وما رافقه من توترات في الداخل الكُردي جعلت القوى الكُردية على وشك أن تخسر دورها كونه (قوة مرجحة) في البرلمان العراقي، مما أفقد الأكراد وحدتهم نسبياً داخل البرلمان العراقي وقلل من دورهم، ومما يؤكد ذلك انقسام الكُرد إلى العديد من الأحزاب والحركات، مما أدى إلى دخول الكُرد في الانتخابات البرلمانية لعام 2018 وهم في وضع يكاد يكون الأسوأ منذ عام 2003.
وتشير التوقعات الاستشرافية للانتخابات، بأن الجهات التي ستتقدم للترشيح هي الأحزاب التقليدية السابقة التي يطلق عليها أحيانا (أحزاب الجيل القديم) التي كان لها وجود فعلي منذ 2003، سواء في الحكم أو البرلمان، وبسيطرة كاملة على العملية السياسية. ونتيجة لخبراتها السابقة في مجال الانتخابات، وأليات الفوز والخسارة، فأنها من المرجح أن تخوض الانتخابات بطريقة غير تقليدية هذه المرة. بمعنى ستكون تحالفات جديدة بوجوه من الخط الثاني وبتحالفات كبيرة، أو شخصيات تكنوقراطية بمسميات متعددة. وستستثمر بعض وجوه الانتفاضة لخلق أحزاب مؤيدة لها بهدف كسب المزيد من الأصوات. ومن المتوقع أن تتحالف القوى السنية تحت مطرقة الخطر، بطريقة التحالف التكتيكي المؤقت للحفاظ على مصالحها. وتعود معظم الأطراف الشيعية إلى (التآلف عقب الانتخابات تحت مظلة التحالف الوطني، وخاصة الأحزاب والشخصيات الشيعية الرئيسة، يتقدمها تحالف النصر وتحالف الفتح وتحالف دولة القانون، مع إبقاء الباب مفتوحاً أمام انضمام مقتدى الصدر كممثل لتحالف سائرون) بضغط من إيران لتكون الكتلة الأكبر للفوز برئاسة الوزراء.
ما يتعلق بالأحزاب الكردية التي تتفق وتختلف فيما بينها، بسبب ظهور أحزاب جديدة، ورؤى سياسية مغايرة للحزبين (الحزب الديمقراطي الكردستاني) و(حزب الاتحاد الوطني الكردستاني)، كحركة التغيير والجيل الجديد وتحالف الديمقراطية والعدالة والاتحاد الإسلامي الكردستاني والجماعة الإسلامية الكردستانية. فهناك إشكالية عدم الثقة بين الأحزاب، وصراعات مصالح ونفوذ، واتهامات بالتزوير عام 2018 في إقليم كردستان. ومع ذلك فأن" قوة الحزبين الرئيسيين يعتمدان على تاريخ مؤسسي وقادة يتمتعون بشخصيات ملهمة من الأنصار، وقواعد موالية وشبكات محسوبية قادرة على حشد الدعم والأصوات".
هناك أيضا أحزاب ما يسمى تيار (المقاومة الإسلامية) المعتمد على فصائل الحشد الشعبي وميليشياتها المسلحة، وكذلك على المرجعية الدينية. وهذه الأحزاب ستكون عونا للأحزاب الشيعية التقليدية في حصد الأصوات، وستلعب دورا في الضغط على الناخبين بالترهيب والترغيب، لاسيما في المناطق السنية.
أما أحزاب حراك تشرين 2019، سيما بعد أن أعلنوا تأسيس مجلس يمثلهم، وتجمعات متفرقة مازالت غير واضحة المعالم. فلا يبدو أن هناك مستوى متقدما من التنسيق بين هذه الأحزاب. ومشكلة شباب الانتفاضة انهم ما زالوا يعملون في بيئة ملوثة بالقتل والتهديد والاختطاف والمؤامرات والتشكيك، وكذلك في جو عدم الثقة ببعضهم، حيث اختراقات الأحزاب والمليشيات للحراك واضحة وتثير الشك والقلق. كما أن شباب الانتفاضة ينقصهم التنظيم والقيادة، والتجربة السياسية العميقة، والخبرة القانونية ومهارات التعامل السياسي المبنية على الواقعية وعدم الاندفاع غير المنظم. لذلك من غير المتوقع أن ينتج هذا الحراك حزبا أو حركة سياسية واضحة، لكنها حتما أنتجت تيارا شعبيا لن يصوت للقوى التقليدية التي خرج ضدها من الأساس.
الملفت للنظر، وجود تكتلات أخرى كثيرة في العدد والاتجاه، تأخذ مسارات مناطقية وقومية ودينية وقومية وعلمانية تتشابك في المشهد العراقي المقبل، حيث تزيد من فوضى الأرقام الفلكية، مقابل غياب البرامج الانتخابية الوطنية الرصينة العابرة للطوائف والأديان. وربما يكون السبب لهذا العدد الكبير هو اعتبار الحكم غنيمة تدرّ على أصحابه الأموال وتوفّر لهم الوجاهة والمكانة في المجتمع. ومع ذلك نرصد وجود ظاهرة بارزة ظهرت خلال التحضير للانتخابات، وهي إن الكثير من الأحزاب والتكتلات بدأت ترتكز على الحراك الشعبي الذي أوجدته انتفاضة الشباب، حيث بدأت تستثمرها في الخطاب السياسي والإعلامي لكسب الأصوات.
3-الخلاصة والنتائج: التحديات والسيناريو المتوقع
تتركز اهم محددات الاتجاه المستقبلي لأية دولة طبيعة نظامها السياسي، وقيادتها السياسية. ومنذ عام 2003، وهو عام احتلال العراق، والإطاحة بنظام صدام حسين في العراق، والعملية السياسية معوّقة الفكر والمنهج، وغير فعالة لتأسيس حكم رشيد، وتحول ديمقراطي. حيث العيش في ارض بور وخراب، و(ديمقراطية من دون ديمقراطيين). وليس هناك إلا قشرة الديمقراطية، المنزوع عنها جوهرها الأصلي.
هناك بيئة صراعية حادة بين المكونات العراقية بهدف الاستيلاء على مفتاح العملية السياسية، وانقسامات جوهرية على سلطة المال والجاه. وقيادات سياسية مغرمة بفكرة الطائفية والولاء للأجنبي. وميليشيات قوية بديلة عن الجيش والشرطة باسم الحشد الشعبي تتحكم بمسارات الأزمات الحكومية والمجتمعية. وجهات خارجية تتحكم في صنع القرار.
وبالتالي فان الانتخابات القادمة ستعمل في بيئة غير صالحة من الناحية السياسية والتنظيمية. فهناك تحديات عديدة تتمثل بطبيعة العملية السياسية القائمة على فكرة التحالفات والمحاصصة. وبيئة الفساد والمال الحرام الذي سيكون منهجا لكسب الأصوات والتأثير على اختيار الناخبين في ظل الفقر والجوع والحاجة. وهناك الفصائل الشيعية المسلحة في العراق التي ستكون من أبرز تحديات الانتخابات، حيث قدرتها على التحكم بمساراتها من خلال دخولها كأحزاب مقاومة كما تسمي نفسها، أو من خلال الترهيب والترغيب.
هناك أيضا انقسامات جوهرية في الواقع السياسي العراقي، ولاسيما بين الأحزاب السياسية. فالبيت الشيعي انشطر إلى أكثر من خمسة تحالفات متنافسة وغير متفاهمة، والتخوف من حرب أهلية شيعية شيعية بسبب المصالح والنفوذ. مع تعقيدات داخل البيت السني الذي انقسم هو الآخر مناطقيا وسياسيا إلى عدة تكتلات وأحزاب. والكردي الذي تتنافس أحزابه الجديدة على المصالح والنفوذ مع الأحزاب التقليدية. أضف إلى ذلك صراعات سياسية نتيجة الأزمة المالية والاقتصادية التي تعصف بالبلاد بقوة، حيث سيتم استثمارها في الانتخابات القادمة لكسب الأصوات من خلال استخدام قوتها المادية لكسب الأصوات وتزوير الانتخابات.
كما برزت مشكلات كثيرة أبرزها: قضية شرعية حل البرلمان، حيث توجد أفكار بان البرلمان هو فقط من يحل نفسه وليس سواه. بينما هناك رأي بان رئيس الجمهورية مع رئيس الوزراء لهما سلطة حل البرلمان. وهناك ازمه مفوضية الانتخابات العليا المستقلة، حيث الجدل قائما حول تشكيل مكاتبها وطريقة إدارتها. لذلك ركزت الأطراف السياسية على مكاتب المحافظات، والسيطرة عليها بهدف التلاعب والتزوير. كما برزت مشكلة المحكمة الاتحادية العليا في العراق المسؤولة على المصادقة على نتائج الانتخابات.
وهناك جدل كبير بين الأطراف السياسية حول طبيعة دور الأمم المتحدة في الانتخابات القادمة هل هو (أشراف) أو (مراقبة). فالأحزاب السنية تميل إلى الإشراف الكامل، بينما الشيعية ترفض الإشراف بقوة وعدم التدخل في الانتخابات. وقد تم حسم الجدل من قبل عبد الحسين الهنداوي، مستشار رئيس الوزراء الذي أكد بأن المنظمة الدولية لن تتدخل في العملية الانتخابية من قريب أو بعيد، وإنما سيكون دورها هو المراقبة من خلال التقييم. بينما قالت المفوضية بأنها وجهت 71 دعوة دولية للمشاركة في مراقبة العملية الانتخابية منها 52 سفارة عربية وأجنبية و19 منظمة دولية لمراقبة العملية الانتخابية.
في ظل جميع هذه المعطيات، يبدو الأمر صعبا في تحقيق توقعات إيجابية متفائلة، إذ لا يبدو أنه سيغير شيئا في مشهد يتداخل فيه الديني بالسياسي وتعلو فيه مصالح الأحزاب الدينية على المصلحة الوطنية. وبالتالي من الصعوبة العبور نحو واقع سياسي يخرج البلاد من حالة متردية مفتوحة تتقاسمها أحزاب منذ ١٨ عام يحكمون بمنطق التوافق والمحاصصة والشعارات. ربما سيكون هناك تغييرا نسبيا قد يحصل في الانتخابات لكنه ليس بمستوى الطموح والتحديات. ربما سيكون إعادة تموضع للأحزاب التقليدية وتحصين وجودها الذي اهتز على وقع احتجاجات اندلعت عام 2019 رفضا للنظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية وتقاسم النفوذ.
وبشكل عام، فأن عقد الانتخابات التشريعية في الموعد المحدد في 10 أكتوبر-تشرين الأول المقبل، ومشاركة مختلف الكتل أو أغلبها قام على معطيات أهمها:
1-الضغوطات الكبير من الشارع، ولاسيما من شباب الانتفاضة، وأصرارهم على تنشيط التظاهرات، ورفض العملية السياسية، واستمرار الأحزاب التقليدية في قيادة البلاد. ومطالباتهم المستمرة في أجراء انتخابات مبكرة ونزيهة بعيدا عن المليشيات والسلاح المنفلت.
2-البيئة السياسية الصراعية، وضغوطات القوى الولائية على حكومة الكاظمي، والمشكلات المالية والاقتصادية والخدمية متمثلة بسخط الشارع. كلها عوامل دفعت الكاظمي للدعوة إلى انتخابات مبكرة بهدف تخفيف الضغط عليه، والهروب إلى الإمام، ورمي الكرة على القوى المناوئة لحكومته.
3-اتفاق معظم الأحزاب، على الأقل إعلاميا، على الموعد المحدد، تجاوبا مع المرجعية الدينية في النجف، ومطالب الجماهير المستمرة.
4-تخوف الأحزاب الموالية لإيران من استمرار حكومة الكاظمي فترة أطول، تخوفا من انه قد يعيق مخططاتهم بشأن التحكم بالعملية السياسية، وتنفيذ سياساته باتجاه موضوع السلاح المنفلت والفساد.
5-استثمار تراجُع النشاط الاحتجاجي بسبب كورونا، والاختراقات الكثيرة من قبل الأحزاب الدينية للانتفاضة، وفشل الشباب في تكوين تكتلات وأحزاب فاعلة قادرة على تصدرهم العملية السياسية في الانتخابات القادمة.
6-حل معظم المشكلات التي تعترض العملية الانتخابية من قبل البرلمان بسبب الضغوط الهائلة التي يتعرض له من قبل الجماهير.
7-استثمار الكاظمي لمطلب المرجعية الدينية في الضغط على الأحزاب الشيعية للقبول بأجراء الانتخابات المبكرة.
8-استغلال الأحزاب الدينية الشيعية لشهر عاشوراء الذي يتصادف حلول أيامه الأخيرة مع انطلاق الحملة الدعائية في عملية تثوير الغرائز الطائفية لدى الشيعة، واستثماره لكسب الأصوات.
9-الضغوطات الدولية من قبل الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي، ولاسيما من الولايات المتحدة بضرورة إجراء الانتخابات المبكرة، والعبور إلى عملية سياسية مقبولة من جميع مكونات المجتمع العراقي.
ومع ذلك هناك تحديات كبيرة تواجه إجراء الانتخابات بشكل ديمقراطي، حيث الخوف من عدم قدرة الحكومة على توفير الأمن المتعلق بالأمن الانتخابي، وحصر السلاح بيد الدولة، وضمان نزاهة الانتخابات إذ لم تقدم الحكومة العراقية على إجراءات حاسمة في ملف السلاح المنفلت أو التقليل من الاستهدافات التي يتعرض لها ناشطون بارزون في الانتفاضة العراقية. مثلما هناك تحركات مشبوهة لافتعال الأزمات الداخلية، ومنها التحريض على الانتخابات والتدخل في مساراتها. وقتل المتظاهرين المتعمد من قبل الأطراف المحرضة، مما قد يمهد لفوضى سياسية، واستغلالها في تزوير الانتخابات.
ويبقى عامل عدم ثقة الجمهور العراقي بالأحزاب السياسية التقليدية، وألية الانتخابات وما يعترضها من تزوير متوقعة أكبر التحديات، وأكثرها تأثيرا في نجاحها. إذ يبدو إن الناخب يعيش فوبيا الخوف من "صندوق المفوضية “، واليأس من العملية السياسية الفاسدة، وعودة لتدوير النفايات السياسية التقليدية التي زرعت الفساد والخراب في كل مكان من ارض العراق. وهو خوف مبرر لأن الانتخابات القادمة لن تكون نتائجها جديدة وهي كما عبر عنها الكثير من المدونين في وسائل التواصل الاجتماعي: تغيير الحمير بالبغال!