العراق يفتقد رجله
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
أربع سنوات والعراق الجديد يفتقر لشخصية فذة كان لها الدور الأبرز في إرساء الديمقراطية وأسس الحريات والدفاع عن جميع المكونات والقوميات والمذاهب والأديان في دولة كانت خارجة لتوها من تحت قبضة نظام دكتاتوري شمولي قمعي مضطهد، أربعة أعوام والعراق يفتقد صمام أمانه كما وصفه المرجع الديني الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني، فكثرت الخلافات والأزمات والتوترات وقلت التفاهمات والتوافقات، فطوال مدة ولايتيه الرئاسية في رأس جمهورية العراق من 2005 إلى 2014 استغل الرئيس مام جلال كما يسميه الكورد حنكته السياسية النوعية ومقدرته النادرة ومهارته الفائقة في التفاوض في خدمة إدارة عجلة الدولة العراقية فقد كان لاعبًا محترفًا في إصلاح ذات البين بين الأطراف المتصارعة وخلق روابط التواصل ونقاط الالتقاء فيما بينها والوصول إلى مشتركات تنهي خلافاتها حتى وصف برجل التوافقات، كما شهد عهده إنهاء الكثير من الأزمات والمشكلات الخطيرة التي عصفت بالبلاد وكادت تتسبب في إنهيار الدولة ونظامها الجديد.
خبرة طالباني السياسية والدبلوماسية التي تنيف على ستين عامًا كانت له معينًا لا ينضب ساعدته كثيرًا في تكوين صداقات وتحالفات واسعة مع جميع المكونات العراقية والدول الإقليمية والعواصم الغربية أيضًا، ويُشهَد له أنه الوحيد الذي كان بإمكانه لقاء مسؤولين إيرانين وأمريكيين رفيعي المستوى في الوقت ذاته من دون حساسية أو توتر، فقد كان يتمتع بقدرة كبيرة على الإنسجام مع الظروف وإعادة تنظيم مسار رؤيته السياسية حسب ما تقتضيه حاجة الظروف والمواقف وهو يمثل رمزًا للوسطية والاعتدال السياسي والنفور من التطرف والإيغال، وفي كل ذلك كان التفاؤل عنده سيد الموقف إذ كانت البشاشة والضحكات والابتسامات لا تفارق محياه ورواية النكات لا تنقطع عنه حتى في أحلك الظروف وأصعبها وهو ما كان يعيد التأكيد عليه مرارًا في مقابلاته.
ومع تركز صلاحيات السلطة التنفيذية في يد رئيس الوزارء حسب الدستور العراقي المصوت عليه عام 2005 إلا أن الراحل طالباني استطاع أن يُكسب منصب الرئيس خلال ولايتيه المتتاليتين مكانة لا تقل شيئًا عن رئاسة الوزارء، ولعب تمتعه بالدور الريادي في ذلك الكثير وتمكن من فرض سطوته على الأمور بجدارة واستقطب معظم القوى السياسية واستمال شخصياتها البارزة المؤثرة، بمعنى آخر يمكن القول أن طالباني منح منصب الرئيس هيبة أفخم وموقعًا أرفع وأضفى عليه تأثيرًا أوضح وأصبحت الرئاسة بحاجة له وليس العكس، فقد كانت الأطراف السياسية تتأثر بشخصيته الكاريزمية وتلبي دعواته دون تردد وبخضوع وتستمع إليه وتوافقه الرأي غالبًا، حتى قيل أن الرئيس الذي سيخلفه سيواجه مهمة صعبة ولن يكون من السهل عليه أن يثبت شخصيته في ظل الصورة التي جسدها طالباني في المنصب.
وتميز طالباني عن باقي الزعامات العراقية بكونه رجلًا مبدئيًا صارمًا يحترم كلمته حتى وإن سببت له المتاعب إذ كان دائم التأكيد على التمسك بالقانون والدستور والعمل بهما، كما كان شديد الحرص على احترام القيم الأخلاقية والإنسانية عند ممارسة السياسية وعدم تجاوزهما، فرغم المعاناة الكبيرة وقضاء سنوات عديدة من عمره في النضال المسلح في الجبال والمنافي ضد الدكتاتورية والحكم عليه بالإعدام غيابيًا واستثنائه من قرارات العفو التي كان النظام البعثي يصدرها للمعارضين، إلا أن مام جلال لم يأخذ بمبدأ الانتقام والتعامل بالمثل، وفي هذا الصدد قوبل رفضه التوقيع على حكم إعدام صدام حسين ورموز النظام السابق بانتقادات ولكنه أبى أن يتراجع عن قراره، آثرًا تعرضه للضغوط على أن يخالف توقيعه على وثيقة لمنظمة الإشتراكية الدولية التي انتخب رئيسًا لها لاحقاً كانت تدعو إلى إلغاء عقوبة الإعدام بوصفها غير إنسانية، وهو ما أكد على التزامه المهني الوظيفي كمحامي أيضًا.
طالباني لم يكن زعيما وحقوقيًا فقط بل كاتبًا وصحافيًا ومثقفًا أيضًا كرس جل اهتمامه لدعم المثقفين وأصحاب الأقلام ورجال الصحافة والإعلام وحرية التعبير والرأي، ولا ضير في ذلك فقد وجد نفسه أقرب إليهم من غيرهم إذ بدأ حياته السياسية في سن مبكرة ككاتب وصحفي وله مواقف دعم لا حصر لها لهذه الفئات المهمة في المجتمع، مسجلًا حالات وأحداث في هذا المضمار قلما وجدت في الدول العالم الثالث بل المتقدمة كذلك، فيحسب له حثه على فسح المجال للجميع للتعبير عن آرائهم بحرية ودون خوف وهو أول رئيس يأمر بتخصيص موقع لتعبير المواطنين عن آرائهم بحرية في متنزه في مدينة السليمانية على غرار حديقة هايد بارك في لندن، وهو أيضًا من كان يدعو الجميع إلى إعلان انتقاداهم للسلطة والحكومة والبدء بشخصه أولًا وقبل الجميع، كما كان يعادي استخدام العنف لتكميم الأفواه وتضييق حرية الرأي ويدعو إلى الرد على الكتاب والإعلاميين المنتقدين بالكلمة والكتابة وليس بالتعنيف كما فعل مع الأديب والكاتب محمد موكري عند تأليفه كتاب (سةط وةرِ- نباح الكلب).
عهد طالباني في العراق كان عهد الدفاع عن مكونات الشعب جميعًا شيعة وسنة وكورد ومسيحيين وكلدو آشور وليس التعصب لقومية معينة وتفضيله على أخرى، وكفاه فخرًا بأنه من أسس لسياسة شدة الورد لا سيما في مدينة كركوك المتعددة القوميات، وهو أول رئيس يجمع عليه عموم الشعب على الرغم مما يشوب المشهد السياسي العراقي من تعقيدات وعراقيل، ولم يكن التعاطف الشعبي والرسمي والدولي الواسع والرفيع والمنقطع النظير عند تدهور صحته ثم وفاته ومواراة جثمانه الثرى عام 2017 سوى انعاكس حقيقي وواقعي للمحبة التي كان يكنه الجميع لشخصه وفكره وتاريخه العريق وما قدمه للكورد والعراقيين والسلم الإقليمي والعالمي على حد سواء.
طالباني كان زعيمًا فريدًا ورئيسًا نذر نفسه لخدمة شعبه والسعي لتحقيق تطلعاته، وهو لا يشبه غيره وبغيابه منذ مرضه إلى رحيله وحتى الآن يلاحظ تراجع الإجماع والوئام والتوافق بين الساسة العراقيين والمكونات أيضًا، فالعراق لم يشهد هدوءًا منذ رحيله وأفتقرت السياسية إلى التسويات الطالبانية الناجعة التي ترضي الجميع، وبات العراقيون يدركون حجم الفراغ الذي تركه رحيله فهم موقنون حقًا بحاجتهم الماسة لحكمته وتفانيه الذي يندر وجوده عند غيره من الزعماء والسياسيين فقد كان بحق رجل المراحل الصعبة.
التعليقات
ليس فقط العراقين
لقاء -أحسنت، ليست فقط العراق بالمنطقة بأكملها يفتقد مام جلال