فضاء الرأي

الفُصام والاكتئاب وخلل الكيمياء العصبية الدماغية

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

تعريب فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لملخص محاضرة قدمها الطبيب مصعب قاسم عزاوي باللغة الإنجليزية في مركز التثقيف الصحي المستمر في لندن.

إن الفكرة القائلة بأن الأمراض العقلية الرئيسية تنبع من وجود كمية كبيرة جداً أو قليلة جداً من ناقل عصبي واحد أو عدة نواقل عصبية يمكن أن تعود جذورها إلى وقت لاحظ فيه الأطباء آثاراً عميقة على الصحة النفسية لشخص ما بإعطاء دواء واحد أو خلطة من الأدوية بشكل تجريبي باحثين عن طرق لعلاج الأمراض العقلية. تشير تأثيرات الدواء إلى وجود علاقة مباشرة إلى حد ما بين المرض العقلي والكيمياء العصبية. لكن الحقيقة هي بأن المرض العقلي أعقد من ذلك بكثير.

المواد الكيميائية في الدماغ
هناك اختلاف كبير بين طريقة دخول المواد الكيميائية إلى الدماغ وكيفية تجولها في باقي أجزاء الجسم. إذ قمنا بتطوير ما يُعرف باسم الحاجز الدموي الدماغي، وهو حاجز مادي بين الدورة الدموية في باقي أجسامنا ودماغنا. وفيه تبطن خلايا البطانة الغشائية الشعيرات الدموية في الدماغ، وتمنع معظم المركبات من الانتقال بين الدم وخلايا الدماغ. جزيئات مثل الأكسجين والهرمونات صغيرة بما يكفي لتمر، ولكنه يمنع معظم البكتيريا والفيروسات والسموم من المرور.

يضمن هذا الحاجز أن العدوى البكتيرية للدماغ نادرة جداً. لكنه يطرح أيضاً مشكلة لشركات الأدوية التي ترغب في تغيير توازن المواد الكيميائية في دماغك. لا يمكنك تناول قرص طبي فقط وتتوقع أن يشق هذا المركب طريقه إلى الدماغ. يعد تجاوز الحاجز الدموي الدماغي تحدياً كبيراً لشركات الأدوية.

يمر الكافيين لأنه مشابه جداً للأدينوزين الموجود في جميع أنحاء الجهاز العصبي. ويمر الكحول أيضاً بسبب خصائصه الكهروكيميائية. ولحسن الحظ، فإن العديد من مضادات الاكتئاب والأدوية النفسية الأخرى تحتوي على مركبات صغيرة بما يكفي للمرور، ولكن ليس جميعها.

على طول الحاجز الدموي الدماغي، توجد بوابات متخصصة تسمح بدخول مركبات أكبر محددة مفيدة للدماغ. ومع ذلك، يتم تجاهل معظم المركبات الكيميائية الصيدلانية ببساطة.

بمجرد أن يمر المركب من خلال الحاجز الدموي الدماغي، فإنه يحتاج بعد ذلك إلى التأثير فعلياً على عمل الدماغ. ركز علماء الأعصاب على كيفية عمل النواقل العصبية أو المواد الكيميائية التي تشارك في إرسال الإشارات بين الخلايا العصبية.

التشعبات هي أجزاء من الخلايا العصبية التي تتلقى المعلومات، في حين أن المحاور العصبية هي الامتدادات التي تمر منها الإشارة العصبية من خلية إلى أخرى. تحتوي كل من المحاور والتشعبات على بوابات على طول أغشيتها تسمح بشكل انتقائي لمركبات معينة بالمرور. تسمى هذه البوابات بالمستقبلات لأنها تستقبل نواقل عصبية معينة. يمكن أن تؤثر الناقلات العصبية على المستقبلات بطرق مختلفة. لكن أحد الآثار الشائعة هو جعل المستقبل يفتح بوابة تغير نسبة الأيونات السالبة والموجبة داخل الخلية العصبية.

يكون الجزء الداخلي من الخلية سالباً أكثر بقليل من الخارج، لذلك تتوق الأيونات الموجبة خارج الخلية للدخول إلى الخلية. عندما تفتح البوابات، يمكن للأيونات الموجبة القيام بذلك. يتسبب هذا التدفق في أن يصبح الجزء الداخلي للخلية أقل سلبية، أو أكثر إيجابية قليلاً. وإذا تم فتح عدد كافٍ من البوابات، يصبح الجزء الداخلي للخلية موجباً بدرجة كافية لتخطي العتبة ويطلق جهد فعل أسفل محورها، مما يتسبب في إطلاقها للناقلات العصبية على طول الدوائر المعقدة للدماغ.

تسد بعض النواقل العصبية البوابات، مما يقلل من احتمالية إرسال الخلية العصبية لجهد فعل. وغالباً ما ترتبط الناقلات العصبية بأنواع مختلفة من المستقبلات.

الفصام
غالباً ما يُساء تفسير مصطلح &"الفصام&" أو &"الذهان&" على أنه يعني انقسام الشخصية. عندما يقوم شخص ما بشيء خارج عن طبيعته، يوصف سلوكه أحياناً بأنه فصام الشخصية. هذا الاستخدام للكلمة ليس مسيئاً للأفراد الذين يعانون من المرض فحسب، ولكنه أيضاً غير صحيح.

تم صياغة مصطلح الفصام في الأصل لوصف التفكير المضطرب الذي يمكن أن يصاحب المرض - انقسام العقل، وليس انقسام الشخصية. يصف الفصام مرضاً غير متجانس للغاية: يمكن لمريضين لهما نفس التشخيص أن يصابوا بأعراض مختلفة تماماً.

قد يعاني أحد المرضى في المقام الأول من أعراض إيجابية وتعني زيادة في تكرار أو حجم سلوكيات معينة، مثل الأوهام والتفكير المضطرب. وقد يظهر مريض آخر، بنفس التشخيص، أعراضاً سلبية بشكل أساسي والتي تعني غياب أو انخفاض في تواتر سلوكيات معينة، مثل الشذوذ الحركي (كتاتونيا) أو رد الفعل البارد.

سيبدو المريض المصاب بأعراض إيجابية، بشكل سطحي، مختلفاً تماماً عن المريض ذي الأعراض السلبية. ومع ذلك، فإن هذين النمطين من مظاهر المرض لديهما بعض الأشياء الأساسية المشتركة.

ينتشر مرض الفصام في العائلات، ويمكن التعبير عن نفس الجينات المسؤولة عن زيادة احتمال الإصابة بالفصام في عائلة واحدة في مصاب بأعراض إيجابية بشكل أساسي وفي مريض آخر بأعراض سلبية بشكل أساسي. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يظهر المريض نفسه أعراضاً أكثر إيجابية خلال هجمة واحدة من اشتدادات المرض وأعراض أكثر سلبية خلال هجمة أخرى.

تم الاكتشاف بالصدفة للأدوية التي تستخدم بشكل كبير لعلاج مرضى الفصام كان مرتبطاً بعلاج الأعراض الإيجابية: الهلوسة، والأوهام، وبعض جوانب التفكير المضطرب.

أدى اكتشاف الأدوية المضادة للذهان إلى إحداث ثورة في علاج الأشخاص المصابين بالفصام، حيث تحول بعيداً عن العلاج المؤسسي طويل الأمد واتجه نحو مزيج من العلاج النفسي والعمل الاجتماعي والأدوية.

ونظراً لأن الأدوية المضادة للذهان يمكن أن يكون لها مثل هذا التأثير العظيم على الأعراض الإيجابية لمرض انفصام الشخصية، اقترح علماء الأعصاب نظرية للمرض بناءً على كيفية فهمهم لآلية عمل هذه الأدوية.

ترتبط معظم الأدوية المضادة للذهان بمستقبلات الدوبامين، مما يمنعها من استقبال الدوبامين الذي ينتجه الدماغ. لذا، فإن فرضية الدوبامين الخاصة بالفصام تشير إلى أن المرض ينتج عن التنشيط المفرط لمجموعة معينة من مستقبلات الدوبامين تسمى D2.

نظراً لوجود مستقبلات الدوبامين في جميع أنحاء الدماغ، ولأن الدوائر المختلفة في الدماغ لها وظائف مختلفة، فإن فرضية الدوبامين تشير إلى أن الأعراض الإيجابية ناتجة عن الكثير من الدوبامين في مسار أو دائرة واحدة وأن الأعراض السلبية ناتجة عن الكثير من الدوبامين في مسار مختلف.

من الممكن أن يكون توزيع هذه المستقبلات عبر الدماغ مختلفاً لدى الأفراد المصابين بالفصام، مما يفسر إحدى الطرق التي يمكن أن تعمل بها العوامل الوراثية، أو طريقة التعبير عن الجينات نتيجة تآثرها مع العوامل البيئية، لأن الصدمات والتغيرات الهرمونية في مرحلة المراهقة قد تجعل الشخص أكثر عرضة للإصابة بالمرض.

لذلك، لا يقتصر الأمر على كمية الناقل العصبي في الدماغ الذي يسبب الأعراض. عدد المستقبلات هناك يحدث أيضاً اختلافاً، ويمكن بناء المستقبلات أو فقدها من خلال التعبير الجيني أو الإشارات الهرمونية أو التجارب الصادمة.

لكن لاحظ أن مؤيدي أسطورة اختلال التوازن الكيميائي يواجهون مشكلة هنا: إن معالجة الفصام ليست بسيطة مثل استنزاف دماغ الدوبامين. عندما ينشط الدوبامين بشكل مفرط، يظهر نوعاً معيناً من المستقبلات. ولم تنجح الأدوية التي تحجب مستقبلات الدوبامين في تخفيف الأعراض السلبية.

ومع ذلك، فرضية الدوبامين لديها بيانات أخرى تؤيدها من قبيل البيانات التي يبدو أنها تدعم الأدلة المستمدة من علاج الأعراض الإيجابية لمرض انفصام الشخصية. على سبيل المثال، يمكن للأدوية التي تحاكي الدوبامين، عند تناولها بإفراط، خاصة على مدى فترات طويلة من الزمن، أن تسبب الذهان، أو أعراضاً تشبه تلك الموجودة في مرضى الفصام.

بالنظر إلى هذا الدليل، فإن فكرة أن الفصام ناتج عن الكثير من الدوبامين تبدو مقنعة. ولكن هناك أيضاً دليل ناشئ على أن الدوبامين قد لا يكون حتى اللاعب الرئيسي. ولسبب ما، لا يستجيب العديد من المرضى جيداً للأدوية التي تحجب مستقبلات D2. يأتي دليل آخر من الأدوية غير النمطية المضادة للذهان. هذه أدوية أحدث تسبب آثاراً جانبية أقل وأكثر فاعلية من مضادات الذهان النموذجية في علاج الأعراض السلبية لمرض انفصام الشخصية، ولكنها فعالة فقط في تقليل الأعراض الإيجابية. لقد وجد أنها أقل كفاءة في منع مستقبلات D2، كما أنها تؤثر على السيروتونين، وهو ناقل عصبي آخر.

الجلوتامات، الناقل العصبي الأكثر شيوعاً في الدماغ، متورط أيضاً في مرض انفصام الشخصية. يمكن للأدوية التي تحجب مستقبلات الجلوتامات أن تسبب أعراضاً شبيهة بالفصام. يزيد النيكوتين من مستويات الجلوتامات في قشرة الفص الجبهي وعادة ما يتم إساءة استخدامه من قبل مرضى الفصام، الذين يفيدون أنه يساعدهم على التركيز.

طرح العلماء الذين يدرسون مرضى الفصام فرضية الجلوتامات الخاصة بالمرض: أن الجلوتامات تحافظ على الدوبامين تحت السيطرة، وبدون الجلوتامات الكافي، يصبح للدوبامين تأثير أكبر على وظائف الدماغ مقارنة بالشخص السليم، وقد تكون أعراض الفصام هي النتيجة.

لكن الأدوية التي تزيد من مستويات الجلوتامات لدى مرضى الفصام لم تكن ناجحة جداً في تقليل الأعراض الإيجابية.

ومما يزيد الأمور تعقيداً، أن مستويات الناقل العصبي ليست النقطة الوحيدة التي تختلف بها أدمغة الأشخاص المصابين بالفصام عن أدمغة الأشخاص الأصحاء نسبياً. حيث تكون أحجام مادة الدماغ في مناطق معينة، مثل القشرة الأمامية والفص الصدغي، أصغر لدى العديد من المصابين بالفصام.

وُجدت أيضاً اختلافات وظيفية - أي الطريقة التي تقوم فيها مهام معينة بتنشيط الدماغ - في مناطق مثل الفص الجبهي والصدغي والحصين. ويبدو أن الروابط بين المناطق أيضاً مختلفة في المرضى في مقابل مجموعة الضبط من الأشخاص غير المصابين بأعراض مرض الفصام.

ليس من الواضح ما إذا كانت هذه التغييرات التشريحية والوظيفية هي سبب أو نتيجة للمرض أو حتى الأدوية نفسها. ولا نعرف حتى الآن ما الذي يسبب التغيرات في فعالية النواقل العصبية في أدمغة المصابين بالفصام.

الاكتئاب
أسطورة اختلال التوازن الكيميائي تظهر أيضاً بشكل واسع مع الاكتئاب. وتعود جذور نظرية عدم التوازن الكيميائي للاكتئاب إلى الاكتشاف الصدفي لمضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقات مثل إيميبرامين.

نحن نعلم الآن أن مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقات تعمل على فئة من الناقلات العصبية تسمى أحادي الأمين - ويتأثر كل من الدوبامين والسيروتونين والنورأدرينالين بتلك الأدوية.

في الوقت الذي تم فيه الترويج لخصائص إيميبرامين المضادة للاكتئاب، نشرت مجموعة من الأطباء نتائجهم التي تفيد بأن الدواء المصمم في بادئ الأمر لعلاج السل يبدو أنه ينتج شعور بالنشوة لدى بعض المرضى. يعمل هذا الدواء أيضاً على أحادي الأمين، مما يثبط الإنزيم الذي يكسره، المعروف باسم أكسيداز أحادي الأمين. نظراً لأنه يتم تكسير القليل من الناقل العصبي، سوف يتوفر الكثير منه للاستخدام بواسطة الخلايا العصبية. لذلك، فإن تناول مثبط أكسيداز أحادي الأمين يؤدي إلى زيادة تركيز ما يتم إفرازه النورأدرنالين والسيروتونين في الدماغ.

العديد من الأدوية المضادة للاكتئاب تعمل على النورأدرنالين والدوبامين والسيروتونين. لكن كل ناقل عصبي يشارك في مجموعة مختلفة من وظائف الدماغ. ينظم النورأدرنالين تركيز الانتباه ومستويات الاستثارة العامة. ويشارك الدوبامين في الشعور بالسعادة والتحفيز والذاكرة العاملة. ويمكن أن يقلل السيروتونين من القلق، واجترار الوساوس، والأفعال القهرية.

كل واحدة من هذه الوظائف موجودة في الأشخاص المصابين بالاكتئاب، بدرجات مختلفة. لذلك، ينصح الأطباء النفسيون بإنشاء وصفة للأدوية تتطابق مع شكاوى أعراض كل مريض بعينه.

إذا كان الاكتئاب مجرد اختلال في التوازن الكيميائي، فقد تعتقد أن تخفيف الأعراض سيحدث بمجرد إعادة ضبط الكيمياء الدماغية. ولكن مع الأدوية المضادة للاكتئاب، هناك تأخر علاجي يتمثل بتغير مستويات الناقل العصبي على الفور تقريباً، ولكن يستغرق الأمر أسابيع حتى يشعر المريض بالتحسن. السبب يمثل لغزاً معقداً، لكنه يعني أن الأمر لا يتعلق فقط باستعادة التوازن الكيميائي الدماغي.

علاوة على ذلك، لا يعاني مرضى الاكتئاب من انخفاض مستويات الأمينات الأحادية. العديد من المرضى، حتى في حالات الاكتئاب الشديد، لديهم نفس مستويات الناقلات العصبية في السائل النخاعي مثل نظرائهم الأصحاء. ولا يؤدي خفض مستويات الأمينات الأحادية في الأشخاص الأصحاء إلى الإصابة بالاكتئاب.

ويشعر بعض المرضى بتخفيف الأعراض من مضادات الاكتئاب التي لا تعمل حتى مع الأمينات الأحادية، على الأقل ليس بشكل مباشر. والعلاج السلوكي المعرفي، الذي يعمل خلاله المرضى مع معالج لتغيير أنماط التفكير وردود الفعل تجاه المواقف السلبية، يمكن أن يكون بنفس فعالية العلاجات الدوائية للأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب الخفيف أو المتوسط، حتى أن ذلك النمط من العلاج غير الدوائي يُظهر تغيرات تشريحية عصبية وفسيولوجية مماثلة للعلاجات الدوائية.

ربما عند وضع نهاية لقصة اختلال التوازن الكيميائي للاكتئاب، يظهر العديد من المرضى المصابين بالاكتئاب الخفيف إلى المتوسط ​​قدراً من التحسن عند تناول دواء وهمي كما هو الحال مع الأدوية الفعالة دوائياً.

تماماً كما هو الحال في مرضى الفصام، هناك قائمة طويلة من الاختلافات الجسدية الأخرى في أدمغة الأشخاص المصابين بالاكتئاب. حتى الطريقة التي يتغير بها الدماغ استجابة للتجارب الحياتية - وتسمى اللدونة العصبية - تختلف في بعض المرضى.

وهناك نهج جديد لعلاج الأمراض العقلية وهو استخدام المعلومات الجينية لتكييف الأدوية مع البنية الجينية للمريض. لكن يجب علينا أيضاً التفكير دائماً في خيارات العلاج النفسي والدعم الاجتماعي كخيار أولي في علاج الأمراض العقلية قبل الاندفاع لمحاولة ضبط الكيمياء الدماغية عبر العلاجات الدوائية.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف