القرصنة الرقمية للذات البشرية...
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يعيش الوجود الانساني، في الوقت الحالي، في أعلى مراحل عُريه الرقمي وانسلاخه من الواقع الذي من المفترض أن يعيش فيه، حيث يستمر توغل منصات التواصل الاجتماعي في اعماق الذات، ويتواصل تغوّل الشركات العالمية الكبرى في تفاصيل حياة الناس وقيامها برصد ومتابعة وتحليل كل سلوكياتهم، وبالتالي، أمست قادرة على استغلال بيانات المستخدم وبيعها بوصفها منتجا يخضع للاستثمار وسلعة قابلة للتداول.
عملية استنزاف بيانات المستخدمين تبدأ منذ اللحظة التي يقرر فيها الانسان البدء باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي، أو بمجرد الضغط على محركات البحث الكبرى للشركات في الشبكة العنكبوتية، حيث يتم فتح ملف خاص بهذا المستخدم يتضمن كم هائل من المعلومات المتعلقة به والتي تُسهل عملية استهدافه من جانب الشركات الكبرى والدول وكل من يحرص على الاستحواذ على معلومات الانسان.
الآليات والمناهج التي تستخدمها هذه المنصات الرقمية والشركات الكبرى في سبيل اقتناص بيانات المستخدمين تتطور في تقنياتها في كل يوم، والتي تتجسد بصورة جلية في خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تعمل وفقًا لبرمجيات متطورة جدًا تستطيع من خلالها التعامل مع المستخدم والحصول على المعلومة منه والاستفادة من بياناته بل واستخدامها على نحو تحقق فيه" هذه الامبراطوريات الكبيرة "غاياتها الاساسية من كل هذه العملية، والمتمثلة بالتحكم بالإنسان وجني أكبر قدر ممكن من الاموال.
ومع التقدم الخطير الحاصل في الذكاء الاصطناعي ومع قدراته التي فاقت التوقعات، فان الأفاق التي بدأ في دخولها، والمساحات التي احتلها، والمهام التي ظهر انه قادر على القيام بها ... كل ذلك دفع المؤرخ الاسرائيلي والمفكر "يوفال نوح هاراري" الي إطلاق تصريحات اقل مايقال عنها بانها خطيرة وسوداوية حول المستقبل المظلم الذي سيعمل الذكاء الاصطناعي على رسمه للبشرية خصوصا مع وجود احتمال فقدان السيطرة عليه من قبل صانعه الانسان.
يتوقع هاراري، الذي تم بيع 16مليون نسخة من كتابه؛ العاقل، تاريخ مختصر للنوع البشري، بان ماسيحدث في المستقبل شبيه بالخيال العلمي، بل انه في الواقع اخطر من ذلك بكثير.... فهذا الجيل هو الجيل الاخير للإنسان العاقل، وانه في غضون قرن أو قرنين، ستهيمن على الأرض كيانات تختلف عنا أكثر مما نختلف نحن الان عن الشمبانزي!!!
فالبشرية، من وجهة نظر هاراري، مقبلة على تطور يتعلق بهندسة الاجساد وألادمغة، سواء كان ذلك مع الهندسة الوراثية أو عن طريق ربط العقول مباشرة بأجهزة الكمبيوتر، والتي ستتاح للاثرياء فقط او اشخاص من بلد معين، وبذلك فإن الإنسان العاقل سينقسم إلى طبقات بيولوجية مختلفة بسبب اجسامهم المختلفة والقدرات المتنوعة التي ساهمت بصنعها وتعديل جوهرها تقنيات الذكاء الاصطناعي الحديثة.
ان هذا الكم الهائل من المعلومات المتعلقة بالإنسان والمتوفرة لدى الشركات الكبرى قد مهدت الطريق لقدرة مدهشة على التلاعب بالذات البشرية والتي وصلت لأعلى مرحلة في التاريخ في الوقت الحاضر، اذ لم تشهد الإنسانية ومراحل الحضارة المختلفة قبل هذا اليوم هذا الدور الكبير للشركات والمنصات التي تعمل على السيطرة على الانسان من خلال امتلاك معلومات ضخمة متعلقة بذاته وميوله وتوجهاته لدرجة باتت معها هذه الشركات في مصاف الدول التي تمتلك ثروات كالنفط والغاز وغيرها من الثروات الطبيعية، ولكنها ثروة من نوع اخر تتمثل في مئات البيانات والمعلومات المرتبطة بكل فرد.
وبسبب أهمية البيانات ودورها الكبير في رسم القوة والنفوذ في الخرائط الدولية، فان العالم انقسم الى معسكرين فيما يتعلق بهذه البيانات واماكن جمعها وتحليلها واستغلالها بحسب هاراري، فبينما تجد وادي السيليكون في الولايات المتحدة الأمريكية مكان اثيري لجذب البيانات وتراكمها، فان بكين وشنغهاي في الصين في الطرف الاخر هي المكان الذي يستقطب، ايضا، بيانات المستخدمين ويجمعها وبالتالي تمتلك هاتان القوتان التقليديتان سلاح جديد يمكن ان تستعمله كل منهما ضد الأخرى في سياق صراع النفوذ والاستحواذ الذي يدور بين الدول منذ الاف السنين .
وهنا يطرح هاراري اسئلة لاتبتعد عن المنطق والتي يجب على كل انسان يستخدم هذه المواقع التفكير بها: ما الذي تفعله الشركات بهذه البيانات؟ ومن يشرف عليها ؟ ومن ينظمها ؟
فالشركات والمنصات وحتى الدول، وعلى مختلف توجهاتها، تحرص بشدة على الحصول على بيانات المستخدمين بطرق معروفة وواضحة حينا او غامضة وسرية حينا اخر، وهي كلما امتلكت مجموعة اكبر من البيانات كلما اتسعت رقة سيطرتها على البشر بل ان " الدول والشركات التي تسيطر على بيانات المستخدمين، سوف " تسيّطر على العالم" في المستقبل كما يقول هاراري ... ففي عالم اليوم : البيانات اهم بكثير من المال بالنسبة لهذه الدول والشركات !
ان البيانات التي تتراكم لدى الشركات عن المستخدمين والمتعلقة بكل اهتماماتهم وتوجهاتهم ومسارات حياتهم هي الان اهم عنصر للتلاعب بهم من جانب هذه الاطراف التي نجدها في سباق محموم من اجل الحصول عليها، فهي تعلم المكان الذي نذهب إليه، ومن نلتقي، والأفلام التي نشاهدها، وماهو شعورنا، ومن نحب ونكره، وغيرها من العديد من الاسرار التي كانت حكرا على الانسان نفسه وترتبط بعالمه الداخلي فقط .
وفي اشاراتٍ واضحة لاتقبل الجدال عن حجم التلاعب بالذات، فان هاراري يذكّر المستخدم بان شركة نيتفلكس تخبرنا بما يجب مشاهدته ... وشركة امازون تعلمنا ما يجب شراؤه، ولذا في نهاية المطاف، وربما في غضون 10 أو 20 أو 30 عامًا، يمكن أن تخبرنا هذه الخوارزميات التي تستخدمها الشركات بما يجب أن ندرسه في الكلية ومكان العمل ومن تتزوج وحتى لمن نصوت في الانتخابات !
ان استمرار الوضع الحالي كما هو عليه بدون تنظيم صحيح لسلوكيات خوارزميات الذكاء الاصطناعي، سوف يقود حتما لكوارث غير متوقعة وربما غير قابلة للتصديق، فهذه التقنيات وفي قادم الأعوام ستسيطر اكثر على البشر ... وبالتالي ستتم " قرصنة الذات البشرية " بحسب تعبير هاراري، إذا لم يتم تنظيم الذكاء الاصطناعي والسيطرة عليه ووضع حد له.
نعم ... يقترح هاراري ثلاثة قواعد أساسية فيما يتعلق بالبيانات وكيفية التعامل معها من اجل إيقاف الخطر الذي يتوقعها منها، فيؤكد بان القاعدة الأولى يجب ان تشدد على ان الحصول على البيانات يجب ان يكون لمساعدة المستخدم وليس للتلاعب به، والقاعدة الثانية تركز على ضرورة مراقبة الشركات والحكومات التي تمتلك هذه البيانات مثلما تقوم بمراقبة المستخدم، ثم يضيف قاعدة ثالثة مهمة جدا وهي عدم السماح بتركيز جميع البيانات في مكان واحد، فهذا نوع من الديكتاتورية الحديثة التي ظهرت بسبب هذه السلوكيات الاحتكارية التي تقوم بها الشركات.
وسواء اقتنعت بما يطرحه هاراري من أفكار ورؤى او اعتقدت بانه يبالغ باطروحته وانه غارق في خيالاته، فان الشي الواضح والجلي ان فضاءات الذكاء الاصطناعي وخيارات تطوره لا يمكن ان تكون لها، في الوقت الحالي، خريطة واضحة او تصور مباشر، وان احتمال فقدان البشر للسيطرة على هذه التقنية لايمكن استبعاده من المشهد في المستقبل القريب الذي يدهشنا ويصدمنا كل يوم باكتشافات واختراعات كان الانسان قبل عشرات السنين يرى انها من المستحيل ان تحدث.