العصا السحرية وبرزخ الأدب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الإعلام اليد السحرية التي تدنس على العقل الضعيف فتجعله التابع، توجهه أينما أرادت وتحوّل اهتماماته إلى المدار والقبلة التي يريدها القائم عليه، الأداة الأخطر على العقل النفس معا من الإرهاب ذاته، فإن لم يوجه الوجهة الصحيحة كان هو بذاته لأنه يقتل الإبداع والتفوق والتميز والنجاح والملكات والمبادرات ويحوّل كل ما هو جميل إلى قبيح، ويؤلب الشعب حتى على قيمه ومعتقداته، ولذلك فهو عصا موسى يستعين به الجميع لتحسين صورتهم وتلميعها أمام العامة، ليصنع له مكانة داخل المجتمع، من خلالها يتوغل في حياة الناس التي لا تخصه، لأجل أن يكون محط الأنظار والاهتمام. الحقيقة الإعلام هو العجب العجاب إذا تخلى عن القيم وأخلاق المهنة وأضحى أداة في يد الفاسدين ومرضى النفوس والتابعين للأهواء ولأصحاب المناصب والأموال، فالإعلام حين يريد أن يصنع نجما ذهبيا في الرياضة أو في السياسة أو في أي ميدان آخر فهو يتقصد من خلال النجم المصنوع خدمة أهدافه وغاياته التي يقوم عليها هذا البيدق المصنوع.
والأدب ليس بعيدا عن السياسة، بل إنه يمثل كل مناحي الحياة وبذلك فهو في صميم الصراع يحتاجه الحاكم والمعارض، والمال والقوى الخارجية والمستعمر والعسكر، والقوى الحية أيضا داخل المجتمع، ولذلك نجد غرامشي صنف المثقف، وتكلم ادوارد سعيد عن الخيانة التي ألصقها بالنخب والمثقفين؛ فلا غرابة أن نجد الإعلام يستضيف وجوها على حساب وجوه أخرى، وأن يتلقف ويفتح ذراعيه وبلاطوهاته وصفحاته وميكروفوناته إلى من يخدم غاياته وتوجهاته ويسدها في وجه الأصوات الحرة التي تصرخ بالحق وتذوب إبداعا وتتوهج عطاء للجميع.
لقد نجح الإعلام إلى أبعد الحدود في ضربه سدا وطوقا على المواهب الفذة؛ التي أثبت الزمن بعدها أنها كانت مظلومة ومقبورة بعدما عادت إلى الحياة، بينما الأخرى المصنوعة لفضها الزمن ونسيها الصانع ذاته، الشهرة الأدبية والمصنوع منها الكثير على حساب الأصيل، كما حلقات الدخان والفقاعات والجليد، الذي يختفي بمجرد ما تراه الشمس، لأن أمده لا يطول فهو منتهي بتغير سياسة الإعلام ذاتها.
كثيرون ماتوا في عزلة وصمت ومن منا لا يذكر أحمد بن حمودة الساعي؟ نسيه الجميع لأنه ليس من طينتهم وتنكر له الأحباب وتذكره مالك بن نبي في كتابه، وذكره الإبراهيمي في مقاله دون أن يقدمه الإعلام في كل حياته وبعد مماته، لو لا كتابات الأنقياء من الكتاب كما المطر.
ماذا يقول الكاتب الغريق لمن يغرقه؟ وهل يشعر ببرودة موج الغدر وتياره؟ وهل يرى كل قشة هي النجاة؟ وهل يقوى على رفع يديه للزورق الذي تركه ومضى في وسط المحيط؟ هل سيقدم نفسه شفقة لهذا الجلاد القاتل؟ أم أنه سيلتزم الصمت ويموت بكرامة تاركا في قلبه وفي حقيبته الكنز الذي لم ينتبه إليه قاتله؟ هل يشعر القارئ بما يسمعه من أشعار وحكم وقصص؟ هل يغني مأساته أمام من لا يسمعه؟ إن الكاتب الحقيقي لا يصنع مأساته لأنه لا ينادي الأموات ولا يحاورهم. فلمن هذه الكتب التي تحرق وتباع بالأطنان إذا لم تكن هناك صناعة رديئة؟ ومن أين يأتي الأدب الجميل لولا صناعة خبيثة للإعلام أفسدته، ويريد تطهيره الأنقياء من النقاد، وينصفه العالم الذي يتحرك بالرقمية اليوم.