كتَّاب إيلاف

الإمارات والمسؤولية الدولية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

لا أدري كيف يمكن أن يتصور البعض أن الدبلوماسية الإماراتية يمكن أن تنحاز إلى الغرب أو روسيا في الصراع الحاصل في أوكرانيا؟ وكيف يمكن أن تتخلى الإمارات فجأة عن قناعاتها الراسخة بأن الحوار هو أفضل السبل لتحقيق الأمن والإستقرار من أجل كسب نقاط سياسية؟ الحاصل أن الدبلوماسية الإماراتية وجدت نفسها في موقف صعب للغاية، شأنها شأن كثير من دول المنطقة والعالم، ناهيك عن موقف الإمارات يتسم بقدر أكبر من الحساسية كونها تولت الرئاسة الدورية لمجلس الأمن منذ بداية مارس ولمدة شهر، حيث تزامنت بدايات العمليات العسكرية في أوكرانيا مع رئاسة الإمارات للمؤسسة الدولية المنوطة بالتعاطي مع أكبر أزمة تواجه الأمن والاستقرار الدوليين في الوقت الراهن، مع كل ما يحمله ذلك من مسؤولية كبرى للحفاظ على علاقات متوازنة تتيح لممثلي دولة الإمارات في المجلس التواصل مع جميع الأطراف والحفاظ على قنوات مفتوحة من أجل السعي لاحتواء هذه الأزمة الخطيرة في أقرب وقت ممكن.

الثابت في الأمر أن الإمارات، بالاضافة إلى الهند والصين، قد امتنعت عن التصويت على مشروع قرار أممي لإدانة روسيا في مجلس الأمن، واعتقد أن هذا الموقف هو المخرج الوحيد من هذا الموقف الدولي المعقد، والذي يحفظ للدبلوماسية الإماراتية هامش حركة نسبي لأداء الدور "التوفيقي" او حتى البروتوكولي المنوط بها خلال فترة رئاستها الدورية لمجلس الأمن، ناهيك عن الحفاظ على توازنات المصالح الإستراتيجية العميقة التي تربط الدولة بطرفي الأزمة (الغرب وروسيا معاً).

في إدارة الأزمات وتحديد مواقف الدول تجاهها، تنطلق الدول عادة من تقديرات دقيقة للغاية للمواقف متضمنة إجراء جردة حسابات للأرباح والخسائر، فالعلاقات الدولية في العصر الحديث لم تعد تقبل فكرة المواقف الصفرية، أو الحادة، ولا الإنفعالية بالنظر إلى تشابك المصالح وتداخلها، لاسيما بالنسبة لدول مثل الإمارات يعلم الكل بتشعب روابطها وتنوع شراكاتها الإستراتيجية مع روسيا والولايات المتحدة والدول الكبرى بالاتحاد الأوروبي، وبالتالي لا يمكن بالقطع بناء موقف دبلوماسي يقوم على الانحياز لطرف دون الآخر، خصوصاً أن دعم طرف ما لن يؤدي إلى تهدئة الصراع بل يصب الزيت على النار ويفاقم الأمور ويزيدها تعقيداً، ناهيك عن أن مشروع القرار المشار إليه لم يكن يمتلك فرصة للمرور عبر بوابة مجلس الأمن في ظل وجود حق "النقض" سواء لروسيا أو لبقية القوى الأربع الكبرى في المجلس، علاوة على أن فكرة إظهار "عزلة" روسيا دولياً بالمجلس من خلال تصويت جماعي ضدها لن تسهم في تبريد الأزمة بل ربما تزيدها إشتعالاً بالنظر إلى حالة الإحتقان وبيئة الصراع المشحونة بمزيج من عوامل تاريخية وثقافية وسياسية وعسكرية وأمنية.

دولة الإمارات التي انتخبت من جانب الجمعية العامة للأمم المتحدة لتكون عضواً غير دائم بمجلس الأمن الدولي خلال الفترة 2022 &- 2023، اعتمدت بالأساس في الترشح على موقفها الراسخ إزاء المبادئ الأساسية للأمم المتحدة والقانون الدولي وسيادة الدول ورفض الحلول العسكرية، وبالتالي لم يكن منطقياً أن تكون بدايات ممارسة الدولة لعضويتها غير الدائمة بالمجلس من خلال القفز على مبادىء لا تتجزأ، واصطفاف وتموضع يدرك الجميع أنه لن يسهم في حل الأزمة بل يزيدها توتراً واشتعالاً بسبب إنحسار الجهود الداعية للحوار والتفاوض لإيجاد تسوية سياسية تنهي الأزمة.

لا أحد ينكر أن علاقات الإمارات المصالحية القوية مع روسيا تمثل أحد دوافع الموقف الإماراتي حيال أزمة أوكرانياً، وهذا أمر مفهوم في العلاقات الدولية، فنهج تنويع العلاقات والشراكات ليس عابراً ولا طارئاً، ويدرك الجميع أن هذا النهج كثيراً ما أسهم في تجاوز أزمات دولية خطيرة كان لوجود "طرف ثالث" فيها دور كبير في احتواء آثارها وتفادي انزلاقها إلى الأسوأ، وأن هذه اللحظة التاريخية الفارقة في تاريخ العالم لاتعني بالضرورة إنقسام العالم إلى معسكرين وفق مبدأ "مع أو ضد"، فالأمر يختلف عن معارك أخرى لا تقبل القسمة على اثنين مثل الحرب ضد الإرهاب وغيرها.

بصراحة فإن أكثر ما يحتاجه العالم في مواجهة هذا الخطر الداهم الذي يتغذى على أجواء الإستقطاب الحاد، هو الحكمة وصوت العقل، وهذا ماتتمسك به الدبلوماسية الإماراتية تماماً، حيث طالبت مندوبة دولة الإمارات في كلمتها خلال جلسة مجلس الأمن، بالتهدئة في أوكرانيا ووقف الأعمال العدائية وأن تظل القنوات الدبلوماسية مفتوحة.

ما أعتقده ـ كمواطن إماراتي وباحث متخصص ـ أن موقف دولة الإمارات في هذه الأزمة يعكس "حكمة زايد" (القائد المؤسس بكل ما امتلكه ـ طيب الله ثراه ـ من حكمة ورصانة ووعي فطري) يقف على أرضية صلبة وينطلق من ثوابت تقوم على إحترام القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة وتتماهي تماماً مع قيمها ومبادئها، وبرأيي فإن الادعاء بأن موقف الإمارات مفاجىء لبعض الدوائر الغربية هو قفز على الحقائق لأن أي قراءة تحليلية معمقة لتوجهات ومنطلقات السياسة الخارجية الإماراتية، ولاسيما ما يتعلق بوثيقة مبادىء الخمسين، تؤكد تناغم المواقف والثوابت تماماً، وأنه لا تحولات نوعية تكتيكية أو إستراتيجية جرت في الآونة الأخيرة، وبشكل أكثر وضوحاً، يمكن القول بأن إمتناع الإمارات عن التصويت على مشروع قرار يدين روسيا في مجلس الأمن لا يعني تضحية بموروث تاريخي للعلاقات مع الشريك الإستراتيجي الأمريكي، ولا يعني بالمقابل اصطفافاً إلى جانب روسيا ولا ينطوي كذلك على "رسائل" ضمنية ـ ليس هذا وقتها ـ لأي طرف، بل يعني بالأساس تمسك الإمارات الشديد بثوابت سياستها الخارجية وحرصها التام على ابقاء فرص الحوار وتهيئة الأجواء أمام الدبلوماسية.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف