فضاء الرأي

المانيا والإستيقاظ المتأخر من اوهام الشراكة

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

لقد تأخرت المانيا كثيراً ولربما لأكثر من عقدين من الزمن في استيعاب وإدراك ما يدور في خلد السياسة الروسية بقيادة فلاديمير بوتين والمخططات التوسعية والعدوانية لروسيا الدولة. لذا طغیا بعد الغزو الروسي لاوكرانيا تعبيرين في تقييم سياسة المانيا الخارجية والامنية: وهما "كذبة العمر" ومن ثم بدء "حقبة جديدة".

في البداية لا بد من القول إن النفور من "كل" شيء عسكري هو الذي رسخ نفسه في البنية العميقة للذاكرة الالمانية بعد مأساة الحرب الكونية الثانية. وكان احد التأثيرات لتلك الفواجع الانسانية هو فقدان المانيا للقدرة على التفسير الصحيح للوقائع الجيوالسياسية. لم تستطع المانيا إدراك امر مهم وهو ضرورة تحديد مجالات النفوذ والتأثير، ان كان الامر يتعلق بموضوع القوة. والخطأ الثاني هو الإعتقاد بأن "المصالح الاقتصادية المتبادلة" تُجنب النزاعات العسكرية الممكنة.

لقد تبنت كل الحكومات الالمانية في العقدين الماضيين بكل قوة هذين الموقفين.

وقد كانت احدى تبعات هذا الموقف، حرمان اوكرانيا عام 2008 (وكذلك جورجيا) من فرصة الانضمام الى الناتو بسبب الحرص على روسيا.

ربما كان إنضمام اوكرانيا من شأنه أن يزيد من خطر مكروه: أي انجرار حلف الشمال الاطلسي إلى صراع مباشر مع موسكو وهي، اي الناتو، في غنى عن ذلك لأي سبب كان.

ولكن من ناحية اخرى ربما كان انضمام اوكرانيا الى الناتو قد يمنع بوتين من ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014 في الاساس، لأن الصراع مع حلف قوي مثل الناتو، وعلی وجە الخصوص في تلك الايام لم يكن صديق بوتين الحميم دونالد ترامب يقود امریكا، كان قد يؤدي الى عدم قدرة بوتين على التنبؤ بمخاطر غزوه، بل ربما ردعه، او جعلە متردداً على الاقل على القیام بعمل عسكري واسع النطاق.

فالموقف الالماني (وفرنسا شاركت المانيا في هذا الموقف) هو الذي جعل من الدولة الاوكرانية، التي كانت تنمي شغف التوجه نحو الغرب بقناعة كبيرة، ان تصبح فراغاً جيوسياسياً بحيث تتجراء القيادة الروسية في الشروع بشن حرب هجومي عليها.

هنا لن تنتهي المشكلة. بل ثمة امرين مهمين:

اولهما یكمن في السياسة الالمانية تجاه الصراع الروسي ـ الاوكراني: كان جو بايدن، الرئيس الاميركي الحالي، یخطو بالفعل من أجل سياسة أكثر صرامة تجاه بوتين، وهذا حتى عندما كان نائباً للرئيس السابق باراك اوباما. غير انه اضطر ان يراقب بغضب عندما إستطاعت المستشارة الالمانية انجيلا ميركل إقناع الرئيس اوباما بـالتخلي عن فكرة تزويد اوكرانيا بأسلحة حديثة خارقة للدروع.

والسؤال الذي يطرح نفسه ضمن هذا السياق: هل سبق لفلاديمير بوتين ان فصح لميركل على الاقل بنيته لغزو اوكرانيا او تصفية حسابات روسيا مع تلك البلاد باللجوء الى استخدام القوة و بالتالي "حذر" او "هدد" ميركل بشيء ما؟

وبخلاف ذلك قام البريطانيون والأمريكيون (على الاقل فيما بعد وقبل الهجوم الروسي) بتجهيز الجيش الأوكراني بمقذوفات خارقة للدروع. بالإضافة الى ذلك قاموا بتحسين اجهزة اتصالات الجيش والاستطلاع وقدموا تدريباً تكتيكياً للأوكرانيين. إن تقديم هذه المساعدات ادى الى رفع القدرات الدفاعية للجيش الاوكراني بشكل فعال و فاجئت بالفعل القوات الروسية الغازية.

وعلى اية حال فأن ميركل "كانت معروفة بحذرها من نوبات الانفعال والخطاب المبالغ فيه" حسب ما يصفها اوباما والذي كشف في مذكراته، من بين امور اخرى، ما شكى اليه بوتين اثناء اول لقاء بينهما في بداية عام 2011 في موسكو بأن "قبول دول حلف وارشو السابقة في حلف الناتو في ظل إدارتي كلينتون وبوش" قد ادى الى "تضييق مناطق نفوذ روسيا بإستمرار". وهذا يدحض ايضاً فكرة "المخاوف الروسية" من الناتو. أي ان الهم الروسي لم يكن يتعلق فقط بأوكرانيا، الذي تعتبرها موسكو "جزءاً من أراضيها التاريخية." فبالنسبة لفلاديمير بوتين، لا يتعلق الأمر بتجنب خطر ما، بل إستعادة القوة والنفوذ في أوروبا وذلك بالوسائل "الوحيدة" التي يمتلكها: الجيش.

لا يمكن إذاً إستبعاد أن تتبع أوكرانيا أماكن نزاع أخرى. فالممثلون الروس يوجهون بالفعل تهديدات غير مباشرة ضد دول أخرى. فعلى سبيل المثال كثفت روسيا انشطتها العسكرية في بحر البلطيق منذ فترة ليست بالقصيرة.

لقد سارت المانيا على سياسة الاعتماد على الطاقة الروسية بكل قواها على الرغم من السلوك الاستبدادي و العدواني لروسيا في عدة نزاعات. والاخطر من ذلك هو ان نظرة بسيطة الى العقدين الماضيين تكفي ان يثبت المرء، بأنه ليس هناك دولة في العالم تسامحت مع بوتين بالقدر الذي فعلته الحكومات الالمانية. وعلى الرغم من هذه الأزمة السياسية العالمية المقلقة، فإن الحكومة الألمانية ظلت حذرة بشكل مدهش. وحتى قبل يوم من الهجوم الروسي على اوكرانيا. وهنا نوضح الامر الثاني: لم تستطع الحكومة الالمانية، او بالاحرى لم ترغب، ان تعد بأنها ستوقف خط أنابيب السیل الشمالي 2 (نورد ستريم 2) إذا ما شنت روسيا حرباً على اوكرانيا. كان خط الأنابيب هذا مثيراً للجدل إلى حد كبير من الناحية السياسية، حيث إنه يهدف إلى نقل الغاز من روسيا مباشرة إلى ألمانيا، متجاوزاً بولندا و خاصةً أوكرانيا، الدولة "المستهدفة" من قبل روسيا. وهذا الموقف بحد ذاته ربما بنى الثقة لدى موسكو بأنه "يمكن" الاعتماد على تقاعس برلين في حالة الهجوم على اوكرانيا.

هنا لا نريد ان ندعي ان المانيا شاركت روسيا في قرار الحرب. كلا وابداً!

عندما يتخذ حاكماً او رئيساً ما قراراً بشن حرب عدوانية على دولة اخرى، لا شيء يمكن أن يوقفه على المضى بذلك. فنشوب حرب بقدر ما هي مؤسفة و كارثية، سیظل في كل الحالات حتمياً لا مفر منه. حتى لو كان ذلك القرار نابعاً من حسابات خاطئة وقاتلة. لكن قرار شن حرب يظل دائماً و ابداً قراراً إرادياً واختيارياً. وحتى إذا ارسلت القوى الأخرى الى صاحب قرار الحرب إشارات معينة من العداء أو التضامن، فهذا لا يعني أنها ستؤثر على الفاعل بطريقة یجعله اما ان یتراجع عن خطته أو ان يحفزه. فقرار حروب العقود الاخيرة بما فيها الحرب العدوانية الآنية لروسيا البوتينية كان دائماً قراراً إرادياً وليس قراراً إضطرارياً. وهذا مايُسرى على كل الحروب العدوانية الاخرى في العصر الحديث وايضاً في القرون البائدة.

اما بالنسبة الى بدء "الحقبة الجديدة" فمن الضروري ان نتأكد بأنه ليس العالم هو الذي تغير، بل التصور الألماني للواقع المرير بعد الهجوم الروسي علی السواء. لأن ألمانيا كانت ترفض تسليح نفسها بشكل مناسب في أسوأ الحالات. وظلت اوهام "السلم الخادع" ثابتة في افكار ساسة المانیا من كل الاطياف. وحتى الصحافة الناقدة والنخبوية لم تنطق يوماً ما بما يعكس انتقاداً لتلك السياسة المتبعة حيال روسيا، الى ان نسف الغزو الروسي لأوكرانيا ذلك التصور وقلب موازين السياسة الأمنية في ألمانيا رأسا على عقب. لقد اوضح وزير المالية الاتحادية كريستيان ليندنر: "هدفنا هو أنه خلال هذا العقد سيكون لدينا أحد اقوى الجيوش قدرة في اوروبا."

وفي الاسبوع السابع للغزو الروسي على اوكرانيا اعترف الرئيس الإتحادي فرانك فالتر شتاينماير لأول مرة بأخطائه والأخطاء في السياسة الالمانية تجاه روسيا قائلاً "من الواضح أن تمسكي بشبكة نورد ستريم 2 كان خطأً. لقد تمسكنا بالجسور التي لم تعد روسيا تؤمن بها والتي حذرنا شركاؤنا منها".

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف