كتَّاب إيلاف

هاشتاك الناس

جامعات ردح

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

كلما أحاول أن أتغاضى عن بعض الأحداث المؤلمة التي تحدث في محراب الجامعات، يصدمني حدث آخر قادم أكثر كارثية في المعنى والسلوك. في هذا الزمن ترى العجب؛ جامعات تحولت إلى مراتع للدين وممارسة طقوس اللطم والنحيب على موتى القرون القديمة، وعشائر تبتدع دبكات وهتافات للاحتفال بأبنائها داخل حرم الدراسات العليا وأجيال حولت الجامعات إلى ملاهي للرقص والردح، وهناك أسرار مخجلة غير قابلة للنشر تحدث في الزوايا المظلمة، مثلما بعضها يحدث في العلن.

ما يحدث شيء مقزز لا يخطر على بال إبليس، وعجائب الدنيا السبع الجديدة أصبحت في خبر كان. فهناك عجائب مستحدثة في دولة العجائب؛ جامعات تنشر الجهل والجهالة، وتبتدع لنا مقرارات دراسية لحفظ تراتيل غيبية مطعمة بالأحزان واليأس، ورسائل للدراسات العليا تجد في عنوانيها ماء ثقيل يسير في مجاري العلم، تجد فيها كل قبح التاريخ وحاضره. متواليات من غرائب الحياة لا علاقة لها بالعلم والتطبيق.

بلاوي مبتكرة فيها طعم النفاق والانتهازية، ورائحة العفونة المصلحيًة والتزلف والتملق. ما رأيكم برفيق قديم كان مهووسا بكتابة تاريخ حزب البعث، وهو يكتب اليوم عن تاريخ حزب الدعوة للحصول على الدكتوراه؟!

متناقضات لا تنتهي في بلد العجائب؛ جامعات تبتكر لنا الذكاء الاصطناعي بزاوية الردح الشعبي، وهوسات عشائرية متلونة بأطوار داخل حسن وحضيري أبو عزيز. بالمقابل هناك ملاهي تنتشر في الضفة الأخرى من الحياة أصحابها من المعممين، يأخذون الخمس من الفقراء نهاراً، وينهبون مال السكارى ليلاً. معادلة غريبة في بلد التناقضات والعجائب والحدوتات الغريبة.

كانوا يقولون قديما إن الجامعة صعبة المنال، وهي ملتقى المفكرين والمثقفين والنخب من أبناء المجتمع، نرى فيها عالما مختلفا تماما عن العالم الذي نقابله في المنتزه والشارع والحارات. نعم كانوا يقولون أيام كانت الجامعة خزانة علم ومعرفة، ومكانا مقدساً نتعلم منه قدسية العلم والسلوك والحياة. وليست سوبر ماركت نتسوق منه بضائع خربة وعفنة ليست صالحة للاستهلاك الآدمي. أو مكانا للتسلية أو قضاء الوقت في مشاهدة الأفلام الإباحية أو التقاط صوّر السلفي أو شرب حبوب الكريستال المخدر!

جامعات لها جيوب كبيرة لجمع المال وليس لتجميع وتكرير العلم، وهي تذكرني بالعم "أبو صالح" بائع البطاطا والباميا والباذنجان والطمامة القريب من بيتنا الذي يرفع أسعاره أثناء تقلب الدولار والأزمات والعواصف الترابية.

ذهبت الجامعات التي كانت تؤرقنا في منامنا لشدة الواجبات والبحوث، ويرهبنا المكان وقدسيته، ومنصات أساتذتنا الأجلاء، ورسائلهم المكتنزة بالمعرفة الواسعة والتواضع المبهر. كنا في جامعات ثقيلة بتقاليدها وهيبتها ومكتباتها وأساتذتها مقارنة بالواقع المزرى لبعض جامعات العصر الديمقراطي الأغبر التي تزرع فسائل الرشوة والفساد والشهادات المجانية والقبح السياسي المريض.

ذهبت عجائب العلم والقيم والانضباط والمؤسسات والحب العذري تحت الشجر. ذهبت الجامعة التي كانت تعلمنا أبجديات الإحساس والتفهم وإنتاج المعرفة والمحبة مع العلم. وصدق نيلسون مانديلا عندما قال "التعليم هو اقوى سلاح يمكنك استخدامه للتغيير“. فكانت جامعتنا موطن العلماء والخبرات، ومن خلالهم استطاع البلد تحدي الأمراض بسماعة الطبيب العراقي الذكي، وإعادة كهرباء الوطن بفولتات الإرادة بعد أيام قليلة من خراب المدن بالقنابل الذكية، وصنع شوارع سريعة وجسورا ذات طابقين في أشهر قليلة بالعقول الهندسية العراقية المبتكرة. وعندما تريد البحث عن هذه الخبرات فلن تجدها مستوطنة في الوطن، حيث أسسوا لهم أجبارا أوطانا جديدة بعد إن تم اجتثاثهم أو تهديدهم بالقتل تحت بنود المعتقد والفكر والاجتثاث والتقاعد المبكر.

أعترف أن الدنيا تغيرت، كما تغيرت الأجيال في تفكيرها، مثلما أيضا اختلفت الجامعات في وظائفها التعليمية ومهاراتها وأهدافها. لكن حال التغيير يختلف بين قوم وآخر. فالجامعات الحديثة دخلت لها أجهزة حديثة في التعليم التطبيقي والمختبري، وطرق تدريسية مبتكرة، وتخصصات دقيقة نادرة ترتبط بالحياة الجديدة، وتقنيات حديثة مثل الذكاء الاصطناعي وانترت الأشياء والحوسبة السحابية وتطبيقات الواقع الافتراضي. جامعات تعطي للمجتمع معارف متنوعة ومختلفة في أهدافها وتطبيقاتها ومناهجها، جذورها ممتدة للمجتمع تسقي تربته بالعلم الحديث وتطبيقاته العمليّة. ما زلت أضحك على هذا الغبي الذي يقول إن أمريكا تنتقد بؤس نظامها التعليمي، مثلما نفعل نحن أتجاه جامعاتنا؟!

شتان بين جامعاتهم التي تزرع المعارف بأسمدة العلم الجديد في عقول طلبتها، وتفتح لهم أبواب المستقبل بمهارات التطبيق العملي، وهي لا تسال الطالب عن اسم عائلته وقبيلته وطائفته ودينه وهويته، وليس فيها فساد وتوصيات ولا وساطات أو شراء شهادات مطعمة بالتزوير. بينما جامعاتنا، لا أعمم بالمطلق، فهي تصنع لطلبتها تراتيل الطقوس الغيبية، وتشغلهم بجدل الطوائف والأديان، وتدخلهم إلى سراديب الماضي، ومقابر الموتى. مثلما تنتج لنا الدبكات العشائرية والردح العراقي في مناقشة الدراسات العليا وأفراح التخرج التي تنتهي عادة بضياع الأجيال في الطرقات ومقاهي الشيشة وبسطات الحارات والأسواق وملاهي الردح!

عندما يسألونك عن التخلف في العراق، فقل لهم: أسألوا عن أحوال المدارس والجامعات؟!

yaaas@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
احسنت
زارا -

امر مؤسف، لكن هذا هو الحال عندما يتاح المجال لكل الناس من كل الطبقات ان يدخلوا الجامعة. وهنا لا اقصد الفقر والغنى بالطبقات، لأن في الوقت الحالي هناك اغنياء كثر اغتنوا في وقت سريع وبطرق مريبة وهم من اصول وضيعة، وهناك فقراء من اصول راقية. المقصود هي الطبقات الثقافية.