هل تتعمد واشنطن التصعيد ضد الصين؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لا تبدو لي أي مفاجأة في تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن بشأن تايوان، حتى قوله إن الصين "تلعب بالنار" بشأن تايوان، وتلويحه غير المسبوق أمريكياً باللجوء إلى القوة للدفاع عن الجزيرة في حال وقوع أي هجوم صيني، وتأكيده بأن الأمر هو "التزام أمريكي قطعناه على أنفسنا"، يأتي ـ برأيي ـ اتساقاً مع اللغة الخشنة التي تستخدمها واشنطن في التعبير عن مواقفها تجاه بكين في الآونة الأخيرة، ولاسيما منذ إندلاع الأزمة الأوكرانية.
يبدو واضحاً أن مجرد مقارنة الرئيس بايدن بين أي عملية عسكرية صينية محتملة لإستعادة الجزيرة التي تعتبرها بكين "جزءاً لا يتجزأ من الوطن الأم"، وبين ماحدث في أوكرانيا، قد استفز الجانب الصيني لأبعد مدى، حيث حرصت الخارجية الصينية على التأكيد بأن "قضية تايون شأن داخلي محض"، مضيفة أنه: "فيما يتعلق بالقضايا التي تمس المصالح الجوهرية للصين المتمثلة في السيادة ووحدة أراضي الصين، ليس لدى الصين مجال للتسوية أو التنازل"، ما يعني أن الصين لا تقبل مجرد مناقشة الأمر باعتباره من قضايا الشؤون الداخلية الخاصة بسيادة الدول، التي طالما تمسكت الدبلوماسية الصينية بترسيخها في إطار المبادىء والقوانين الدولية، وسلكت نهجاً دبلوماسياً متماهياً مع هذا الأمر حيال جميع القضايا والأزمات.
ولا أعتقد أن الرئيس بايدن يلقي ـ في هذه الإطار ـ بقنبلة كلامية أو تصريحاً مفخخاً كما يقول البعض للتغطية على اخفاقات أمريكية أخرى، فالمعنى مقصود تماماً ومدروس بدقة، على الأقل من جانب دائرة مقربة للرئيس، فالأمر هنا تحديداً جلل ولا يحتمل زلات اللسان كالتي تحدث بين الفينة والأخرى، ولكن أهدافه تحتاج إلى المزيد من التحليل المعمق؛ فرغم أن بايدن لم يشر إلى مساعدة تايوان على غرار السيناريو الأوكراني، بل تحدث بوضوح عن تدخل عسكري أمريكي مباشر دفاعاً عنها، فإن الأهم من جهة نظري أن بايدن يمضي على درب تقسيم العالم إلى محورين جديدين، الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية، معتبراً أن منطقة آسيا والمحيط الهادىء تشكل ساحة معركة رئيسية في هذه المنازلةالاستراتيجية الكبرى.
من المهم ألا نغفل أن الرئيس بايدن قد أطلق هذا التصريح في اليابان، حيث أراد الحشد لفكرته، ساعياً إلى تأكيد الاصطفاف بين "الديمقراطيات" في مواجهة "الأنظمة الإستبدادية" واضعاً الصين وروسيا في سلة واحدة، ولكن من دون الذهاب إلى حد إستهداف الصين كما روسيا بسياسات عزل أو عقوبات على الأقل في الوقت الراهن، بل الأقرب للدقة أن الرئيس بايدن يسعى من خلال هذا التصعيد الكلامي ردع الصين عن إستنساخ سيناريو أوكرانيا، ومحاولة إستعادة سيادتها على تايوان من خلال عملية عسكرية مماثلة كالتي تنفذها روسيا حالياً.
من نافل القول أن واشنطن باتت في المسألة التايوانية بين خيارين أحلاهما مر، الأول هو الإبقاء على سياسة الغموض الإستراتيجي التي سادت طيلة العقود والسنوات الماضية، بكل ما ينطوي عليه ذلك من إحتمالات تتعلق بوجود سوء تقدير صيني محتمل لرد الفعل الأمريكي، في حال شن هجوم صيني على تايوان، ما يضع الولايات المتحدة أمام أحد أصعب الاختبارات في تاريخها المعاصر، حيث يتعين عليها ـ وقتذاك ـ الدفاع عن تايوان بشكل مباشر لأن البديل هو نهاية الولايات المتحدة كقوة عالمية. والخيار الثاني هو العمل بكل الطرق على ردع الصين والحيلولة دون تكرار سيناريو أوكرانيا أو تنفيذ تهديدات بكين باستعادة سيادتها على تايوان، وفي هذا الإطار يمكن فهم دواعي التلويح بالتخلي عن سياسة الغموض والبوح بنوايا الولايات المتحدة ولو بشكل عابر (الإعلان ثم النفي أو القول بعد حدوث تغيير في السياسات والتوجهات الأمريكية حيال تايوان)، لعل ذلك يسهم في ردع أو حتى تأجيل أي خطط صينية مزمعة للهجوم على تايوان. ورغم ما لتصريحات الرئيس بايدن من كلفة إستراتيجية باهظة فإن هذه الكلفة قد تبدو محدودة للغاية لو تم النظر إليها في إطار تقدير موقف دقيق للأرباح والخسائر الإستراتيجية المحتملة في حالتي الابقاء على "الغموض" أو التخلي عنها سعياً وراء أهداف أكبر وأهم، ما يعني أننا بصدد موقف أمريكي مقصود تماماً يعبر عن سياسة ردع تكتيكية تستهدف تفادي وقوع مواجهة عسكرية مباشرة مع الصين.
من الواضح إذاً أنه لا يمكن إنكار آثار الأزمة الأوكرانية في تصريحات الرئيس بايدن، لاسيما أن الأمر لا يقتصر على وضع الولايات المتحدة في مأزق إستراتيجي غير مسبوق بوجود تحدي متزامن من خصمين إستراتيجيين لها على الصعيد العالمي، ولكن أيضاً لأن بروز تباينات ـ ولو بسيطة ـ في جدار التحالف الغربي الأطلسي عدم قدرته على بناء موقف موحد تجاه فرض العقوبات على روسيا أو مقاطعتها طاقوياً واقتصادياً بشكل كامل، ناهيك عن "الإرتباك" الأمريكي الحاصل جراء موقف حلفاء الولايات المتحدة وشركائها الإستراتيجيين في مناطق أخرى من العالم تجاه أزمة أوكرانيا، كل ذلك يدق جرس الانذار في دوائر السياسة الأمريكية بقوة بخصوص أي موقف مشابه الصين، حيث المصالح الإستراتيجية التجارية والاقتصادية للصين أعظم وتفوق بمراحل مصالح روسيا مع دول العالم، بمعنى أنه لا يمكن مطلقاً الرهان أو التعويل على فاعلية أي سياسة عزل أو مقاطعة أو فرض عقوبات على الصين، باعتبارها رهانات ميتة قبل أن تولد، ومحكوم عليها مسبقاً بالفشل التام.
المغزى هنا أن العوامل كلها تتضافر لتدفع البيت الأبيض لتبني موقف إستباقي صارم للغاية تجاه أي سيناريو صيني محتمل للهجوم على تايوان، لعل ذلك يكون نقطة إنطلاق نحو تفاوض أو مساومة مع بكين حول المسألة (لأن الأخيرة لا تريد كذلك الدخول في صراعات عسكرية كبرى قد تعوق مسيرتها التنموية المتسارعة) أو ردع هذا السيناريو وإرجائه بما يجنب الإدارة الأمريكية الحالية حرج التعامل مع عواقب كارثتين دوليتين في وقت واحد.