كتَّاب إيلاف

الشياطين والملجئيات الضيقة!

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

قيل ان الشياطين تسكن في تفاصيل الأحداث والوقائع، خاصة المتناقل منها عبر حقب تاريخية غير مرئية وربما في كثير منها شفاهية تعتمد القلقلة في قرائنها، أو في تجزئة الحدث وتأصيله، حيث تتفاقم وتتضخم الأجزاء وجزئياتها حتى تبتعد عن أصل الحدث وتتيه في التفاصيل التي تسكنها شياطين التأويل وتعدد التفسير وبداية الصراع بعيدا عن أصل الحدث ذاته، ويبدو ذلك جليا في معظم مجتمعاتنا منذ تكوين أنظمتها السياسية، خاصة تلك التي تميزت بالشمولية وخاضت صراعات سياسية واجتماعية بسبب الانقلابات العسكرية والتناحر السياسي الدموي على السلطة، حيث فقدت تلك المجتمعات عذريتها السياسية والأمنية الاجتماعية وتحولت الدولة الى اللادولة بغياب قانون متفق عليه لتفاصيل الحياة، فتقزّم المجتمع وانكمش إلى مجموعة اوطان تحتضن افراده وتوفر لهم الأمان الذي افتقدوه بغياب الجامع الوطني، تلك الملجئيات الجزئية (الأوطان البديلة) التي التجأ اليها الفرد تكمن في القبيلة والدين والمذهب، ناهيك عن الملجأ الثالث وهو المال الذي وصفه الخليفة الرابع علي بن أبي طالب (رض) بأنه وطن في الغربة وفقدانه غربة في الوطن:

" الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة".

وفي هذه الطوابق الثلاث من الملجئيات (القبيلة والدين والمال)، يهرب اللاجئون فيها إلى دهاليز التاريخ في واحدة من محاولات البحث عن السلام وتهدئة روعهم وارتباكهم النفسي إزاء فقدان الدولة للقانون الأساس وتطبيقاته في حياة تلك المجتمعات القلقة، هذا التاريخ المتداول ودهاليزه لا يعدو أكثر من تسجيل أحداث من زاوية الشاهد وثقافته، ومدى قرّبه أو بعده عن الحدث، بل ومدى تعاطفه أو معاداته لتفاصيله وشخوصه، ولذلك نرى اختلافات حادة في توثيق أو تأْريخ ذات الحدث ومن قبل مدونين عاصروه أو كانوا جزءاً منه ومن تفاعلاته.

وفي خضم هذا الارتباك النفسي والاجتماعي تبقى عملية البحث عن الحقيقة في تلك الأوجه للمدونات التاريخية للأحداث، أسيرة رؤى مختلفة وأمزجة متناقضة، بل ومواقف معادية أو متحالفة مع الحدث وعناصره وأسبابه ومسبباته، وهي بالتالي تحتاج إلى أدوات ووسائل غاية في الدقة والمهنية والتحقيق، لأن الحفر في التاريخ بمعاول مثلومة، ربما تقودنا إلى دهاليز معتمة، أو تفاجئنا بأحداث تعيد ذاكرتنا إلى ما لا يشتهيه البشر، وعلينا أن نتذكر دائمًا أن التاريخ ليس صفحات مقدسة أنزلتها الملائكة من السماء، إنما هي أحداث وثّقها بشر مثلنا، تتحكم فيه الغرائز والعواطف والحب والكره والانفعالات، وهو في الآخر يكتب من خلال زاويته التي ينظر منها إلى الأحداث، على خلفية معلوماته أو مشاعره تجاهها، وكيف يراها حسب تلك الميول، ومن هنا ندرك أن التاريخ ليس كتاباً مقدساً لا يخضع لتلك العوامل، وهو بالتالي مجموعة احداث يراها كاتبها في تلك اللحظة التي وثّقها، ولذلك علينا أن نتوخى الدقة في قراءتها، والاهم قراءة صاحبها الذي دونها؛ لذلك أرى أن الطريق الأقصر في بناء مجتمع معاصر بعيداً عن دهاليز أولئك الذين سجلوا تلك الوقائع تحت ضغط أمزجتهم، سواء أكانت تلك الصفحات معتمة أم مضيئة، أن نؤسس بنياننا على العلم الحديث والاستنتاجات بثقافة نقدية استنتاجية لكل ما سطره الأولين في توثيق الأحداث التي ورثت تداعياتها هذه المجتمعات، لكي نصل إلى مجموعة معطيات نبني على أساسها مجتمعاتنا الحديثة، وكلما تعلمنا أكثر، تعلم أبناؤنا وبناتنا أكثر، دونما العودة الببغائية والصنمية إلى التاريخ وصفحاته، فمن يبني حاضراً جميلاً لن يحتاج العودة إلى الماضي لكي ينظر إلى المستقبل.


kmkinfo@gmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف