تفكيك الغياب:
انزياحات الذات واللغة في" طائر الجهة الأخرى"
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
لا يصدر الشعر الحقيقي عن ضجيج اللغة، بل عن ارتجافة الكائن وهو يقف أمام هاوية المعنى. و"طائر في الجهة الأخرى" للشاعرة فاتن حمودي (رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، أبريل 2025، 112 صفحة) عمل شعري لا يُطرق بباب القراءة العابرة، بل يلزم القارئ أن يتفاعل مع عوالم المجموعة بكل ملكاته الحسية. فالنص هنا لا يُروى، بل يُرتقى معه.
منذ القصيدة الأولى، لا تضع الشاعرة القارئ في مواجهة اللغة، بل في مواجهة العالم وقد انقلب إلى رائحة، وحنين، وشغف معلّق في حرير الغياب. هذه ليست أناشيد حزن، ولا مراثي فُقدان، بل هي حفريات وجودية في طبقات الذاكرة والخراب، تُمارس فيها الذات الشعرية فعل الحفر بالكلمة كما يُحفر في صخر.
مجموعة حمودي تنحو نحو الكلّ، ولكن لا من باب الشمول، بل من باب الامّحاء. إذ تلغي الشاعرة الخطوط الفاصلة بين الحرب والحب، بين الغياب والحضور، بين الأنوثة والعاصفة، لتتداخل كلها في نسيج واحد يتخذ من القصيدة مأوى وحيدة ومنفى شاسعًا.
ليس في الكتاب فصول، بل شذرات تنمو مثل الطحالب في زوايا الذاكرة. قصائد تُبنى لا بالوزن والقافية، بل بالفراغ. الفراغ هنا ليس غيابًا، بل حضورًا خافتًا، كالطين حين يُشمّ قبل المطر، وكالظل حين يرتجف تحت أقدام المتصوفة. والقصيدة نفسها لا تعترف بالحدود، إذ تتسرب بين سطورها ببطء، كما لو أن النص برمته حلمٌ طويل يُروى بصمت.
اللغة لدى حمودي كائن حيّ، يعرق، يتنفس، يتلوّى. لا تصطنع مجازًا لتُبهر، بل لأن المعنى لا يُقال إلا مجازيًّا. إنّها تكتب كما تُنقش الوشوم على جلد الزمن، لا كما تُرصّ الجمل على صفحات بيضاء. قصيدتها لا تُقرأ دفعة واحدة، بل تُرتشف، كما القهوة في صباح مدينة غادرتها الحرب وتركَت على جدرانها رائحة أهلها. ومن خلال التكرار المدروس، وإيقاع الصمت المتقطع، تتحول اللغة إلى حقل ألغام وجداني، لا يمكن عبوره دون أن تنفجر في الذاكرة قنبلة غياب واحدة على الأقل.
في هذه المجموعة، تُقدّم الشاعرة صورةً عن الحب لا كعاطفةٍ، بل كأثر. لا تروي العشق، بل تمشي على أطرافه. العاشق هنا ليس رجلًا، بل غيمة، وريحًا، وسؤالًا. والأنثى ليست جسدًا، بل نصًا يهطل. الجسد لا يُوصف، بل يُعاش عبر الاستعارات. من قبلة مسروقة في منتصف الطريق، إلى دفء يُفتقد في رائحة غياب، تصنع الشاعرة من تفاصيل صغيرة جغرافيا كاملة للغياب. وكأن الحب ليس لحظة، بل كونٌ متشظٍ، مكتملٌ فقط حين يُروى كفقد.
ثمّة حضورٌ طاغٍ للمنفى، لكنه ليس منفى جغرافيًّا فقط، بل وجوديًّا أيضًا. المنافي لدى حمودي لا تُقاس بالكيلومترات، بل بوجع المسافة بين ما كان وما لا يعود. منفى على شكل طاولة مطبخ تحتفظ برائحة العائلة، ومنفى آخر في نظرة أمٍّ يختبئ خلفها رعب الحرب. البيت ليس مأوى، بل ذكرى. والشارع ليس معبرًا، بل سؤالًا عن زمن مشى فيه العشاق ولم يعودوا. وتتحول المدن إلى كائنات عاطفية تُصاب بالدوار حين تتذكر أبناءها الذين مضوا، تاركين وراءهم هواءً مثقلاً بأسمائهم.
الصور الشعرية في "طائر في الجهة الأخرى" ليست محض زينة، بل أدوات تنقيب. الجملة لا تُبنى على منطق نحوي، بل على منطق نفسي &- زلزالي. الكلمات تسقط من الأعلى، لا لتُرتب، بل لتفكك. لا يوجد مركز في هذه القصائد، بل تشظٍّ متماديًا في كل اتجاه. كل بيت شعري يُغني عن عشرات الأبيات، لأنه لا يشرح، بل يحرّض. ويبدو أن كل صورة تختزن في داخلها تاريخًا شخصيًا، وكأن الشاعرة ترسم بلغة ذات ملمس. الملمس هنا ليس شعريًّا فقط، بل شعوريٌّ من طراز نادر.
القصائد، التي تتخذ شكلًا أقرب إلى النص المفتوح، تؤكد رفض الشاعرة لكل شكل مغلق. لا تسميات، لا عناوين تفصيلية. القصيدة تنداح كالموج، تُولد من ذاتها، وتموت لتعود فتولد. إنها ليست كتابة عن شيء، بل كتابة ضد النسيان(¹). كل بيتٍ هنا هو شاهد على فقد(²)، وكل استعارة قبر صغير لذاكرة كبرى. ولا تقتصر هذه الكتابة على الجانب التأملي فحسب، بل تستبطن نوعًا من المقاومة &- مقاومة النسيان، مقاومة الصمت، مقاومة التفاهة.
من ناحية بنائية، تُبدع حمودي في تركيب النص من داخله، دون الحاجة إلى دعامات خارجية. لا تحيل إلى مراجع أو تقتبس أسماء، إلا حين تنثرها داخل النص كأنها من نسيجه لا من خارجه. حتى الإشارات إلى أساطير أو مدن، لا تأتي كزخارف بل كجراح قديمة. حين تذكر زيوس، لا تذكره ليُعلّق المجاز عليه، بل لأن صاعقته ما تزال تحرق خاصرة الذاكرة. وإن ذُكر بردى، فليس نهرًا بل غصةً. وإن أشارت إلى الشام، فليس وطنًا بل وطنًا مطعونًا بأبنائه.
مستويات الصوت الشعري متعدّدة، تتناوبها ذات مفجوعة، وأخرى مشتهاة، وثالثة شاهدة. الشاعرة لا تبحث عن صوتٍ واحدٍ، بل تحتمل أصواتها كلها دفعة واحدة. وحين تقول: "أنا المجنونة أصلاً"(³)، لا تسعى إلى خلق شخصية درامية، بل إلى تأكيد كسرها للأنماط كلها. لا تحتكم إلى توازنات منطقية، بل إلى فيزياء داخلية خاصة بها، تجعل القصيدة لا تنتمي إلا إلى ذاتها.
ثمّة فصل متكرّر في النص هو الليل، لا كزمن، بل كمجال رؤيوي. الليل في هذه المجموعة ليس ستارًا، بل مرآة. يُرى فيه ما لا يُرى في وضح النهار. الليل لا يغطي، بل يعرّي. ولأن العتمة مساحة صدق، فإن القصيدة تغدو صلاة سرّية، أو نشيد نجاة مؤقت. الليل هنا ليس كائنًا محايدًا، بل رفيقًا وصعلوكًا وعاشقًا. وهو، في أحيان كثيرة، محكمةٌ لا تُصدر أحكامًا، بل تفتح أبوابًا لاعترافاتٍ لا تُقال في الضوء.
أما عن الغلاف الذي يحمل لوحة للفنان ضياء الحموي، فإنه يُوازي الداخل. صورة بصرية لانخطاف الكائن في لحظة عدم. لم يكن اختيارًا زخرفيًّا، بل امتدادًا بصريًّا لارتباك الذات وارتعاشها على جرف الهاوية. وكأن اللوحة تقول: "لا تدخلْ، إلا إذا كنت على استعداد لتفقد ظلك".
إنها مجموعة لا تُفسَّر، بل تُصغى. لا تُحلل، بل تُلامَس. ومن يظن أنه يقرأ قصيدة، سيجد نفسه يقرأ بوحًا كونيًّا. لا تكتب فاتن حمودي من أجل اللغة، بل من أجل الخلاص. وهذا ما يجعل من "طائر في الجهة الأخرى" سفرًا لا يُشبه غيره، وطيرانًا نحو جهة لا تُعرف إلا حين تكتب.
هنا، لا تتكرّر المفردة، بل تتوالد. وهنا لا تنتهي القصيدة بنقطة، بل بفعل ارتجاج. قارئ هذه المجموعة لن يعود كما دخل، إذ ليس المرور بهذه النصوص نزهة بل ولوج إلى صاعقة. فاللغة &- كما يبدو في هذه المجموعة &- لا تكتفي بأن تكون وسيلة تعبير، بل تتحول إلى مصير. وهنا تحديدًا يكمن الشعر.
1. ص 94 — "الذاكرة خردةٌ على الرصيف ... خذني إلى النبع" 2. ص 130 — "لا شيء أبدًا، لا الذين عادوا، ولا الذين ضاعوا..." 3. ص 82 — "أنتَ في آخر الكون! يَضْحَكُ الكونُ هنا أيتها المجنونة"