فضاء الرأي

"أدب الحياة" لكمال جنبلاط:

مشروع إنقاذ إنساني في زمن الانهيار

كمال جنبلاط
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

في زمن تتداعى فيه أركان القيم وتتصدع ثوابت الوجود، ويغرق الإنسان في دوامة من الاضطراب المادي والفراغ الروحي، تبرز الحاجة إلى بصمة نور ترسم ملامح درب جديد. هنا، نستعيد كتاب "أدب الحياة" للمفكر والسياسي اللبناني كمال جنبلاط؛ إنَّه ليس مجرد كتاب يُقرأ، بل رفيق رحلة وجودية، ومشروع متكامل يعيد بناء الإنسان من داخله، ليواجه انهيارات الزمن بقلب واعٍ وروح متزنة.

يقدّم جنبلاط في الكتاب رؤية شاملة للحياة بوصفها فنًا رفيعًا يجب إتقانه، وأدبًا راقيًا يجب التخلق به. إنه دعوة صادقة لتحويل الوجود اليومي من مجرد عبء أو روتين إلى ممارسة واعية، مليئة بالمعنى والجمال.

من أدب السلوك إلى أدب الوجود
يقوم "أدب الحياة" على دعائم متعددة، تبدأ من أدق التفاصيل لتمتد إلى أوسع الآفاق. فهو يبدأ بـ"أدب السلوك اليومي"، حيث التهذيب الحقيقي يبدأ من اللحظات الصامتة: من نظرة العين التي تحمل الاحترام، ومن نبرة الصوت التي تنمّ عن وقار، ومن طريقة المشي والأكل والكلام. كل فعل بسيط خيار أخلاقي يُسهم في تشكيل هوية الإنسان ومكانته.

ثم يرتقي المشروع إلى "أدب الفكر والحوار"، فيجعل من العقل منارة للحقيقة، ومن الحوار جسرًا للتفاهم لا ساحة للصراع. إنه يدعو إلى نقاش يغتذي بالاختلاف، ويثري بالتنوّع، ويقوم على نقد الذات أولًا، والتواضع في طلب المعرفة. إنه أدب يرفض الانغلاق ويحتفي بالمساحات المشتركة حيث تلتقي العقول وتنمو.

ولا يغفل الكتاب عن "أدب العلاقات والعاطفة"، فينقل الحب من كونه شعورًا عابرًا إلى التزام أخلاقي وروحي. إنه يرى في العلاقة الإنسانية العميقة فضاءً للعطاء المتبادل، ومسارًا للتعرف على الذات من خلال الآخر، وسعيًا دؤوبًا نحو اكتمال إنساني ترويه مياه الصدق والرحمة.

وأخيرًا، يصل إلى "أدب الجسد والطبيعة"، حيث العناية بالصحة والاعتدال في المأكل والمشرب ليسا ترفًا، بل تعبير عن امتنان للحياة. والانسجام مع الطبيعة ليس هروبًا، بل عودة إلى الجذر الأصيل للوجود، حيث يصبح الجسد السليم معبدًا للروح الواعية.

الحاجة المعاصرة: لماذا "أدب الحياة" الآن؟
في واقعنا العربي المثقل بهموم السياسة والاقتصاد، والممزق بصراعات الهوية والانتماء، يبدو مشروع جنبلاط أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. لقد استبدلنا ثقافة الحوار بثقافة الصراخ، والعلاقات العميقة باتصالات سريعة هشة، والوجود الهادف باستهلاك مفرط بلا روح. هذه الفوضى أنتجت إنسانًا مشتتًا، يعاني من القلق الوجودي، وفقدان الثقة، والعنف المتزايد ضد الذات والآخر.

في هذا المشهد، يصبح "أدب الحياة" منهجًا للخلاص. إنه مقاومة يومية ضد كل ما يُشيّئ الإنسان ويجرده من إنسانيته. إنه دعوة صريحة لإبطاء الإيقاع المجنون للحياة، واستعادة السيطرة على الزمن، ومواجهة الإدمان المادي والرقمي بوعي جديد يضع الإنسان في مركزه.

خارطة طريق: كيف نعيش بأدب؟
لا يقتصر الكتاب على التنظير، بل يقدّم خريطة عملية للتطبيق:

- في حياتنا اليومية: التحلي بالصبر، اختيار الكلمات بعناية، احترام المواعيد، وتحمل مسؤولية الأفعال.

- في التربية والتعليم: إدخال قيم النزاهة، واحترام الآخر، وآداب الحوار إلى صلب المناهج وطرق التدريس.

- على المستوى المجتمعي: بناء علاقات قائمة على العمق لا على الكثرة، وعلى العطاء لا على المنفعة.

ولتكن الدعوة الأخيرة: ليكن كل منا فاعلًا ملهمًا في تجسيد هذا المشروع، ناقلًا مبادئه من دائرة الفكرة إلى فضاء التطبيق، ليكون وجوده رسالةً تضيء دربًا للآخرين.

الخلاصة: نحو ثورة الضمير
"أدب الحياة" لكمال جنبلاط مشروع إنقاذ شامل. إنه ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية في زمن الانهيار. يذكّرنا بأن الخلاص لن يأتي من الخارج فقط، من حلول سياسية أو اقتصادية، بل يجب أن يمر عبر ثورة داخلية في ضمير كل فرد، ليعيد اكتشاف إنسانيته المسلوبة.

في عالم يغرق في المادية والسطحية، يكون هذا الكتاب البوصلة التي ترشدنا من الفوضى إلى النظام، ومن التشتت إلى الوحدة، ومن غربة الروح إلى اتحاد واعٍ مع الحياة. قراءته وتطبيق مبادئه خطوة جريئة نحو تحويل الوجود إلى قصيدة من الأدب الرفيع تُكتب بسطور من الأخلاق، والجمال، والمسؤولية.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف