قرأت ما كتب القاضي الفاضل زهير كاظم عبود في ايلاف عن سحب العراق توقيعه على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والتي اصبحت رمزا لعالم جديد تتجاوز فيه العدالة الحدود الجغرافية، طوعا لا قسرا، لتطارد المتهمين بجرائم ضد الانسانية اينما حلوا وتتويجا لتعاون الشعوب لتحقيق العدالة الدولية حينما تعجز اوتمتنع اجهزة "العدالة" المحلية عن تحقيقها. لقد اصبح الانضمام الى معاهدة المحكمة (أو ما يسمى بميثاق روما 1998) عنوانا لإقرار الدول باحترامها للقانون الدولي والقانون الدولي الانساني، والتزامها بمبادئ الحرية والعدالة وحقوق الانسان.
وتعقيبا، وليس تصويبا، للملاحظات التي اوردها القاضي الفاضل، فإن لحظة فعالية احكام المعاهدة في البلد المعني تبدأ في "اليوم الأول من الشهر التالي وبمرور 60 يوماً على أيداع الوثيقة التي تم التصديق عليها لدى الأمين العام للأمم المتحدة" ، وليس من تاريخ توقيع معاهدة النظام الأساسي. أي أن الدول التي وقعت النظام الأساسي يجب ان تصادق على المعاهدة عبر برلماناتها أو غير ذلك من بناها التشريعية قبل اعتبارها جزءا من هذا التجمع العالمي. فالتوقيع على النظام الاساسي يعتبر التزاما أوليا، اما التصديق والايداع لدى الأمين العام فهو الالتزام النهائي الرسمي للدولة لتصبح عضوا مؤسسا في المحكمة (وليس خاضعة لاحكامها فحسب كما يوحي الاعلام العربي احيانا).
وحتى الخامس عشر من اذار 2005 ، بلغ عدد المصادقين 98 دولة من أصل 139 وقعت على النظام الأساسي ، توزعت بين 27 دولة افريقية و12 دولة اسيوية، و15 من دول اوربا الشرقية، و19 دولة من امريكا اللاتينية والبحر الكاريبي، و25 دولة من غرب ووسط اوروبا. ومن اللافت ان حصة العرب من المصادقين دولتان فقط هما الأردن وجيبوتي..
أما القرار العراقي بسحب التوقيع (ولست متأكدا ان كان قد وقع وتراجع ام لم يوقع اصلا) فهو موقف غير مبرر.. فإن كان مفهوما ان يمتنع العراق في العهد السابق من التوقيع على المعاهدة بسبب ارثه الثقيل من الانتهاك للحقوق الفردية والجماعية، فانه من المستغرب ان يفعل ذلك في عهد يدعي العمل على سيادة القانون واحترام الحقوق الفردية والجماعية للانسان والالتزام بالنظام الديموقراطي والاندماج في المجتمع الدولي، ولا أدري ان كان القرار هنا أمريكيا أكثر من كونه عراقيا ، فالولايات المتحدة التي وقعت على النظام الأساسي في الحادي والثلاثين من كانون الأول (ديسمبر) من عام 2000 (في اللحظة الاخيرة)، عادت في السادس من مايس (مايو) 2002 وقامت بابلاغ الأمين العام للأمم المتحدة رسميا بانها "لا ترغب في ان تكون جزءا من هذه المعاهدة، وبالتالي فإن توقيعها على النظام الأساسي في الحادي والثلاثين من كانون الأول 2000 يعتبر لاغيا وغير ملزم لها".. ومن الملاحظ ايضا بأن اسرائيل ، التي وقعت هي الأخرى على النظام الأساسي في نفس تاريخ التوقيع الأميركي، قامت بالاجراء ذاته وبنفس الصيغة تقريبا حيث قامت بالغاء توقيعها في الثامن والعشرين من آب (أغسطس ) 2002، لتكونا الدولتان الوحيدتان اللتين قامتا بذلك، وسيصبح العراق ثالثهما في حال سحب توقيعه. وإذا كانت الولايات المتحدة واسرائيل تخشيان سيادة احكام المحكمة هلى مواطنيها نظرا لسجلهما الحافل في الحروب واحتمالات تورط مواطنيهما في جرائم الحروب والجرائم ضد الانسانية، فما بال العراق .. الدولة الناشئة الجديدة التي تريد دخول عصر الحقوق والحريات واللألفية والتعاون الدولي والنهوض الديموقراطي؟
يقودنا موقف العراق الى العقلية السلطوية العربية في التعامل مع المستجدات الدولية، فباستثناء الأردن وجيبوتي، اللتين اصبحتا من الأعضاء المؤسسين في المحكمة ، وهذا يحسب لهما ولبرلماناتهما، تقف الدول العربية حائرة امام المصادقة النهائية .. فمصر وسوريا ودولة الامارات العربية وعمان واليمن والمغرب (وحتى ايران الاسلامية) وقعت ولم تصادق حتى الآن وهي خطوة الى الأمام على كل حال، والبقية لم توقع الميثاق اصلا نظرا لطبيعة انظمتها ولا تزال تبحث الموضوع وإن بدرجات متفاوتة من الجدية.
ومن الاعتبارات التي تضعها الدول الممتنعة عن المصادقة مسائل مثل احتمال تعارضها مع السيادة الوطنية من باب ممارسة "جهة غير وطنية" لاختصاص سيادي اصيل مرتبط بالسلطة القضائية للدولة، الا ان النظام الاساسي يشير صراحة ( الديباجة –فقرة 10) الى ان المحكمة الجنائية الدولية مكملة للولاية القضائية الوطنية، ولا تحل محلها (الفقرة 17 من النظام الاساسي) وانما تتدخل حصرا حينما لا تتوافر لدى الدول المعنية "الرغبة أو القدرة" على التحقيق او النظر في القضية موضع البحث. ولا يجوز بالتالي للمحكمة الدولية ان تمارس سلطتها الا وفق ذلك.
ان المحكمة الجنائية الدولية ليست "سلطة اجنبية" كما ينظر اليها البعض، وانما اداة قضائية ساهمت الدولة المعنية في تأسيسها على اساس الرضا التام وفق معاهدة دولية تضمن التكافؤ بين المؤسسين، ولها سلطة التدخل في تعيين القضاة وغير ذلك من الاجراءات، ولها ان تحاكم مرتكبي الجرائم التي يغطيها النظام الاساسي عبر قضائها الوطني، وان تنقل هذا الاختصاص الى المحكمة الدولية في حال رغبتها في ذلك أوعدم قدرتها على الاضطلاع بهذه المسؤولية.
فهل يرى العرب في فرنسا والمانيا وبريطانيا وهولندا وبلجيكا وغيرها والتي صادقت على المعاهدة دولا غير مكتملة السيادة مقارنة بها!
كما يتحسس العرب مما ورد في الفقرة 27 من النظام الاساسي التي نصت على عدم الاعتداد بالصفة الرسمية للمطلوبين، ولا ادري ان كانت "الصفة الرسمية" تعفي الفرد من المسؤولية الجنائية في التشريعات الوطنية لهذه الدول ، الا في حالة الملوك والرؤساء مثلا، الذين هم فوق القانون في اوطاننا المنكوبة. ومن المفهوم ان تمنح بعض الدساتير "حصانة اجرائية" لبعض المستويات من المسؤولين اثناء احتلالهم لمناصبهم، الا ان الحصانة المطلقة امر نادر الوجود حتى في دساتير اكثر الدول تخلفا.
ومن النقاط المثيرة للجدل في الطرف العربي المتردد في المصادقة هي مسألة "تسليم الرعايا" الى دولة اجنبية ، وهنالك عرض ممتاز لهذه الاشكالية قدمه شريف عتلم، المستشار الاقليمي للجنة الدولية للصليب الاحمر لاجتماع الخبراء الحكوميين في الجامعة العربية مبينا فيه الفرق بين "التسليم" و"الاحالة الى المحكمة" ، فالاحالة الى المحكمة الدولية ، التي هي امتداد للسلطة القضائية الوطنية، لا يعتبر تسليما الى دولة اجنبية أو قضاء اجنبي تابع لدولة اخرى ذات سيادة، وانما احالة الى هيئة دولية انشئت بموافقة ومساهمة الدول المؤسسة ، والتي لا تمارس سلطاتها القضائية الا في الاحوال المذكورة آنفا ، ولا دور لها ما دام القضاء الوطني يقوم بواجبه القضائي على اكمل وجه. واشار الى قرارات المجلس الدستوري الفرنسي ومجالس الدول في بلجيكا واسبانيا التي لم تتوقف عند هذا الجانب بما يشير الى عدم وجود شبهات دستورية حول هذه النقطة، وإن اشارت دول مصدقة اخرى مثل كوستاريكا الى اجراء تحقيق دستوري قبل احالة اي مواطن الى المحكمة الدولية لضمان عدم تعارضه مع الدستور.
أما موضوع "عدم سقوط الجرائم بالتقادم" التي رأت فيه بعض الدول تعارضا مع دساتيرها (المادة 29 من النظام الأساسي) ، فيفنده القانون الدولي الذي اقر بعدم انطباق مبدأ السقوط بالتقادم على جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية ، وبالتالي فإن المصدق على النظام الأساسي تعتبر قابلة بالضرورة بهذه القاعدة العرفية، وسعت بعض الدول المصادقة الى موائمة قوانينها للتوافق مع النظام .. كما اثار البعض مسألة عدم اخذ المحكمة الدولية بعقوبة الاعدام مما يتعارض مع القوانين الوطنية والشرعية الاخذة بمبدأ القصاص الاسلامي على سبيل المثال، وهذا الاعتراض ايضا غير ذي معنى، فالمحاكم الوطنية حرة في تطبيق تشريعاتها وقوانينها، ولا يحول التوقيع على النظام الاساسي من هذه الصلاحية للدول المصادقة ما دامت اجراءات المحاكمة تتم داخل الدولة المعنية تحت ولايتها القانونية.
ويبدو مما تقدم ان "الرعب" العربي من التصديق على النظام الأساسي مرده الخوف من العقاب لمرتكبي الجرائم ضد الانسانية ( وما أكثرهم) في ظل ذهنية تقليدية تعتبر نفسها فوق المحاسبة، وربما خوفا من "الزعل" الأميركي رغم ان الأردن وجيبوتي ليسا من اعداء امريكا بالتأكيد..
من الغريب ان يسحب العراق توقيعه (اذا كان قد وقع بالفعل) ، وربما كان من الأفضل له ان لا يوقع اصلا محتذيا بالسعودية وليبيا ولبنان وغيرها، ولا علاقة لذلك بمحاكمة اركان النظام السابق كما اسلفنا (وهنا اختلف مع القاضي الفاضل مرة اخرى)، اذ لا ولاية للمحكمة الدولية ما دامت السلطة القضائية الوطنية راغبة أو قادرة على ممارسة سلطتها.. فلا بد ان يكون هنالك سبب آخر، وانا في توق لتفسير حكومي لذلك يستند الى قواعد قانونية مقنعة.