هاشم صالح
متى ابتدأت أوروبا تتململ وتتحلحل؟ متى ابتدأت تستيقظ لاول مرة وتنخرط في خط الحداثة التي ستؤدي بها لاحقا الى تشكيل اكبر حضارة على وجه الارض؟
هذا هو السؤال الذي ينبغي ان نطرحه في بداية سلسلة المقالات المكرسة لمفهوم الحداثة.
ذلك ان هناك اجماعا لدى المؤرخين على ان القرن السادس عشر هو بداية الانطلاقة. فبدءا من ذلك التاريخ راحت اوروبا تتمايز وتنفصل تدريجيا عن مرحلة العصور الوسطى التي سيطرت عليها مدة ألف سنة تقريبا. بالطبع لا ينبغي ان نعتبر العصور الوسطى بمثابة فترة قاحلة كليا من الناحية الفكرية او الحضارية. فالواقع ان النهضة الاوروبية الاولى والتي قامت
هاشم صالح
على اكتاف العلم العربي والفلسفة العربية قد حصلت فيها (القرن الثاني عشر والثالث عشر). يضاف الى ذلك ان العصر الذهبي للحضارة العربية-الاسلامية قد حصل فيها ايضا (بين القرنين الثامن والعاشر بل وحتى الثاني عشر فيما يخص المغرب والاندلس).ولكن على الرغم من ذلك، يمكن القول بانه ابتدات في عصر النهضة تحصل قطيعة مع كل ما سبق. ومن يقول قطيعة، يقول انطلاقة جديدة.
العقيدة المسيحية والارتكاز على افكار ارسطو
وهذه الانطلاقة سوف تؤدي باوروبا الى خوض اكبر مغامرة شهدها التاريخ البشري: اقصد مغامرة الحداثة. وسوف تؤدي بها ايضا الى تشكيل حضارة علمية وفلسفية وتكنولوجية وسياسية واقتصادية وقانونية، تتفوق بكثير على جميع الحضارات السابقة. فحتى ذلك التاريخ كانت العقيدة المسيحية بالاضافة الى فلسفة ارسطو هي التي تسيطر على البشرية الاوروبية. فالعقيدة الدينية كانت تقدم الاخلاق والتشريع وتخلع المشروعية الالهية المقدسة على الحكّام والملوك. كما وتقدم للناس رؤيا متكاملة عن العالم وتوجه حياتهم في هذه الدنيا وفي الدار الاخرة ايضا. وكانت فلسفة ارسطو بالاضافة الى علم الفلك لبطليموس يقدمان للناس الرؤيا العلمية عن العالم. ومن المعلوم ان المسيحية كانت قد خلعت القداسة على فلسفة ارسطو هذه واعتبرت افكارها يقينية ونهائية فيما يخص التفسير العلمي للعالم. وهذه التوليفة بين المسيحية والفلسفة الارسطوطاليسية، او هذا التوفيق بين الدين والفلسفة كان القديس توما الاكويني هو الذي حققه في القرن الثالث عشر. وبالتالي فان أي شخص يشكك في صحة نظرية بطليموس او فلسفة ارسطو فكأنه يشكك بالعقيدة اللاهوتية نفسها: أي بالمقدسات. اذا لم نموضع الامور ضمن هذا الاطار فاننا لن نفهم سبب ردود الفعل العنيفة التي قامت بها الكنيسة ضد الاكتشافات العلمية التي ستحصل لاحقا بدءا من القرن السادس عشر (وبخاصة اكتشاف كوبرنيكوس وغاليليو).
اكتشاف كوبرنيكوس وغاليليو

فماذا حصل في هذا القرن يا ترى؟ حصلت زعزعة -أو بداية زعزعة- لهذه اليقينيات الموروثة منذ مئات السنين. وليس من السهل على الناس ان يقبلوا بان تُزعزع يقينياتهم وافكارهم الراسخة التي عاشوا عليها وألفوها واصبحت جزءا لا يتجزأ منهم. فالعالم البولوني كوبرنيكوي (1473-1543) يظهر لكي يقول لهم بان الارض -على الرغم من كل المظاهر- هي التي تدور حول الشمس وليس العكس! وهكذا صعقتهم الحقيقة وجن جنونهم! ولولا انه أخفى افكاره فلم ينشرها الا في لحظة موته -او في يوم احتضاره- لكانت الكنيسة قد عاقبته عقابا أليما.
فهو باطروحته هذه ينقض فلسفة ارسطو وتصور بطليموس عن الكون. وحصل ايضا ان الفيلسوف الايطالي جوردانو برينو (1548-1600) راح يؤكد على صحة نظرية كوبرنيكوس، بل ويزيد عليها قائلا بان العالم ليس مغلقا اومحدودا كما نتوهم، بل هو لا نهائي ولا محدود. فهناك آلاف الشموس غير شمسنا، وآلاف الكواكب غير كوكبنا في هذا العالم الشاسع الواسع المترامي الاطراف..وهكذا استبق على النظريات الفلكية الحديثة عن الكون. ولكنه ناقض نظرية بطليموس التي كانت سائدة ومهيمنة على عقلية الناس في ذلك الزمان. بل وكانت تتمتع بهيبة قدسية بسبب تبني الكنيسة الكاثوليكية لها كما قلنا سابقا.
شكك في عذرية مريم فألقي به في النار
وقال برينو ان اتساع الكون الى ما لا نهاية دليل على عظمة الله بشكل اكثر لان امبراطوريته لا حدود لها..وهكذا قدمه الفاتيكان للمحاكمة وطلبوا منه التراجع عن هذه الافكار الزنديقة او المهرطقة والتوبة، وعندما رفض قطعوا لسانه وألقوه طعمة للنيران. وبالتالي فلم يعرف كيف ينجو برأسه على عكس خلفه الكبير غاليليو الذي تراجع في الوقت المناسب ونجا بروحه.
في الواقع ان برينو الذي كان لاهوتيا مسيحيا في البداية ثم تحول الى الفلسفة بعدئذ تجرأ على التشكيك بعذرية مريم. وهذا شيء لا يغتفر، وكان من الاسباب التي أدت الى ادانته وقتله.
عدم اطاعة رجال الدين اذا كانوا على يستغلون الدين لاغراض ومصالح شخصية
من الاحداث الاساسية التي زعزعت أوروبا النائمة على يقينياتها المطلقة اندلاع حركة الاصلاح الديني على يد لوثر في ألمانيا (1483-1546). فلوثر ثار على الجمود الكنسي الكاثوليكي وشقّ عصا الطاعة على الفاتيكان. وقال بان المقدس الوحيد هو كتاب الله، أي الانجلي، وما عداه فبشري. وبالتالي فالبابا انسان مثلي ومثلك، وليس معصوما كما تزعم العقيدة الكاثوليكية ثم دعا المسيحيين الى عدم اطاعة رجال الدين اذا كانوا على خطأ او يستغلون الدين لاغراض ومصالح شخصية.وقال لهم: لستم بحاجة الى وساطة رجال الدين لكي تؤمنوا او تتواصلوا بشكل مباشر مع الله. وهكذا اسس الايمان الذاتي او الشخصي القائم على علاقة مباشرة -ودون وسيط- بين الانسان وربه. وساهم بذلك في توليد فكرة الفرد المستقل الموجود بنفسه لا بغيره. وهي فكرة سوف تتطور في العصور اللاحقة لكي تؤسس فلسفة الحرية الفردية في المجتمعات الاوروبية. فأنا لست مؤمنا لاني تابع لشيخي وما يقوله، وانما لاني قادر على قراءة كلام الله مباشرة وتفسيره وفهمه. هذه الثورة الروحية- ثورة الاصلاح الديني- كانت لها انعكاسات كبيرة على الشعوب الاوروبية فيما بعد.
تجار الفاتيكان يبيعون صكوك الغفران
فلوثر منع المتاجرة بالدين من خلال هجومه على صكوك الغفران التي كان البابا وجماعته يبيعونها ويجنون مبالغ ضخمة من خلالها. كانوا يحلبون الشعب الفقير المؤمن الخائف على روحه من الدخول الى جهنم عن طريق ايهامه بانه سينجو بروحه اذا ما اشترى صكوك الغفران. بل ويستطيع ان ينقذ روح ابائه واجداده الذي ماتوا منذ سنين طويلة عن طريق نفس العملية. وهكذا اصبح الايمان يشترى بالفلوس! ثمجاء لوثر لكي يعيد للايمان صفاءه الاول ونقاءه: أي تنزيهه وتعاليه. فالايمان الحقيقي هو ذلك الذي ينبع بشكل طبيعي من القلب ويصل الانسان بخالقه في علاقة شخصية حرة.. وهكذا راح الايمان القروسطي يتراجع لصالح تصور جديد للايمان يعود الفضل في بلورته الى زعيم الاصلاح الديني مارتن لوثر& (مؤسس البروتستانتية).
ظهور النزعة الانسانية
هناك حدث اخر حصل في القرن السادس عشر، بالاضافة الى اصلاح الدين وتنقيته من الشوائب المتراكمة ألا وهو: ظهور النزعة الانسانية (هيومانيزم). فالانسان اصبح هو الغاية التي لا غاية بعدها. صحيح ان الله يظل هو الأساس، وهو اهم شيء في الكون. ولكن التركيز على اهمية الانسان، او قيمة الانسان، اوكرامة الانسان، لم يعد يتعارض مع التركيز على اولوية الله. لكي نفهم هذا الكلام جيدا ينبغي ان نتموضع في تلك الفترة: أي في الفترة الفاصلة بين عصر النهضة/ والعصور الوسطى. فعقلية التواكل والاستسلام للغيبيات كانت سائدة في العصور الوسطى. وكانت تزهد بالانسان كثيرا باعتبار انه فانٍ زائل، والله هو وحده الحي الباقي. وبالتالي فلا داعي لان نهتم بالانسان وسعادته على هذه الارض لان السعادة الحقيقية هي في الدار الاخرة. ينتج عن ذلك انه كلما كان الانسان فقيرا، زاهدا، معرضا عن متع الحياة الدنيا، كلماكان اقرب الى الله. وبالتالي فلا ينبغي ان يسعى الانسان ويجتهد لتحسين وضعه في هذه الحياة، او لتغيير الواقع المحيط به عن طريق العمل والجد، لان هذه الحياة عابرة في نهاية المطاف. وهكذا سادت عقلية التواكل والكسل واحتقار الحياة والزهد في الانسان اثناء تلك العصور. وهذا هو اللاهوت التواكلي المضاد للاهوت العمل والجد والانخراط في الحياة.
عصر النهضة: سعادة الانسان والخروج من الجو الخانق للمسيحية القروسطية
ثم جاء عصر النهضة لكي يقول العكس تماما. فالانسان هو مقياس كل الاشياء، وسعادته على هذه الارض شيء ممكن بل وضروري. وهذا لا يتنافى مع الايمان وفعل الخير من اجل الفوز بالسعادة في الدار الاخرة. هكذا نجد ان النهضة قدمت مفهوما عن الدين يتقاطع في بعض النقاط مع مفهوم لوثر والاصلاح الديني. فكلاهما مضاد للمفهوم القروسطي السائد والقديم. وكما ان الاصلاح الديني دعا الى القفز فوق كل العصور المسيحية من اجل التوصل الى مرحلة الانجيل وجوهر الرسالة الاولى، مباشرة، فان النهضويين دعو الى القفز على كل العصور الوسطى من اجل معانقة الروح اليونانية، فلسفية كانت ام ادبية. لقد أراد النهضويين الخروج من الجو الخانق للمسيحية القروسطية وللرهبان ورجال الدين عن طريق اعادة الصلة بهوميروس، وفيرجيل، وارسطو، وافلاطون، وافلوطين، وسواهم من كبار الشعراء والفلاسفة. والنهضة الايطالية لا يمكن فصلها عن استلهام الحضارة اليونانية-الرومانية وروحها الوثنية الحرة. نقول ذلك على الرغم من ان عصر النهضة لم يكن وثنيا او ملحدا كما توهم الكثيرون فيما بعد. ولكن المفكرين كما قلنا كانوا قد ضاقوا ذرعا بالمفهوم القروسطي القمعي للايمان، فأرادوا الاتصال بالحضارة الحرة والجميلة التي سبقته مباشرة: أي الحضارة اليونانية-الرومانية.وللقيام بذلك راحو يحققون مخطوطات هذا التراث تحقيقا فيلولوجيا-تاريخيا (أو لغويا-تاريخيا).
وهذا ما فعله ايراسم، أمير عصر النهضة والدراسات الانسانية كما يلقبونه (1469-1536). وكان مسيحيا مؤمنا، ولكن منفتحا جدا على الفلسفة والفكر الاغريقي. وقد هجا رجال الدين المتزمتين في عصره من خلال كتاب شهير لا يزال يطبع حتى الان بعد مرور خمسمائة سنة على كتابته: "ثناء على الجنون".
الوعي الفردي وحرية الوعي والضمير
في الواقع ان النزعة الانسانية التي شهدها عصر النهضة كانت تدل على تلك الحركة الادبية والفلسفية التي انتشرت في اوروبا بين عامي 1490-1540. كما وكانت تدل على حركة صاعدة لا تقاوم: اقصد حركة مؤمنة باعادة الاعتبار للانسان وامكانياته الروحية والفلسفية.انها حركة تثق بالانسان على الرغم من كل المجاعات والحروب وانتشار الطاعون الاسود وهيمنة عقلية القرون الوسطى.انها حركة ضد الموت على الرغم من هيمنة شبح الموت على الاجواء والنفوس. انها حركة من اجل الحياة، من اجل النهضة، من اجل الانبعاث..
يقول المؤرخ الفرنسي الشهير فيرنان بروديل بما معناه: أكد الاصلاح الديني البروتستانتي على حرية الفرد في تأويل الوحي او النصوص المقدسة بشكل شخصي بدون المرور عن طريق هيبة الكنيسة اورجال الدين. وادى ذلك الى تشكيل الوعي الفردي وحرية الوعي والضمير. وهذا ما فعلته الحركة الفكرية لعصر النهضة. فهي ايضا اكدت على ضرورة احترام الانسان كفرد، وتقدير عظمته كانسان يتمتع بالذكاء والفضيلة والشهامة، الخ.. على هذا النحو تشكلت النزعة الانسانية في عضر النهضة.ولكن كلما كبر الاهتمام بالانسان، كلما ضعف الاهتمام بالله وبالدين دون ان يعني ذلك ان أناس عصر النهضة نسوا الله والدين. فالنهضة لم تكن ملحدة على عكس ما نتوهم، ولكنها لم تكن متزمتة ايضا.& والواقع ان تدفق الذهب والمعادن الثمينة من امريكا على اوروبا، ثم ازدهار المدن الايطالية كفينيسيا او جنوا وفلورنسا عن طريق التجارة، كل ذلك أدى الى الازدهار الاقتصادي والرفاهية المادية للطبقات العليا على الاقل. وهذا ما ساعد على انطلاق حركة النهضة وشعور الانسان بالثقة بنفسه وبانه قادر على تغيير وضعه المادي. وهذا يعني ان للنهضة عوامل مادية وفكرية في آن معاً، وهذه تدعم تلك وتتداخل معها بشكل لا ينفصم.
الحلقة المقبلة: الحداثة في القرن السابع عشر
وأيضا اقرأ: