الشاعر
الشاعرُ المسحور بالأضواء والعتمة
بمُديةٍ يُبهجها الشقاءُ
بالريح و الخرابِ والصدى بالردى
بفتنةٍ مُفترسة
الشاعر التمساحُ والفقْمَة
يُصبح يُمْسي، حالما، بالكلمات.
الراحلون يدفنون صوته.
القادمون يركلون قبره.
و ليس من وسيلة سوى المضيّ.
الشاعرُ الحجرْ:
يرنّ
الشاعر المسحور يشقى
الشعر: إيقاع وشكل ومعنى
كنتُ و مازلتُ أصغي، أشاهد و أتأمل. تعودتُ أن أصغي لكل شئ: لخرير المطر، للماء يجري وينساب، لهبوب الريح وهسيس العشب، لحفيف الاخضرار، للبروق وهي ترسم شاراتها على صفحات السماء، لسقسقة الطيور، لجعلٍ وهو يُدحرج كرتَه فترتدّ فيحاول إعادتها ثانية وهكذا. كنتُ معجبا بالتعازي والمولد النبوي وأعياد الميلاد وطرق الصوفية وطقوس الطوائف الأخرى، غير أنني أكره العطل: الجمع والآحاد. كنتُ أغمض عيني لكي أسمع وقع الخيول واللطم على الصدور وهسيس السلاسل الحديدية، وإيقاع الطبول والدفوف، كنتُ أصغي للظلمة وأرى فيها وأحسّ بإيقاعها، لا شئ لا شئ أعمق من الظلمة فهي محل الأسرار وقفل التكتم، ولهذا نرى الإسراءَ لا يكون إلا ليلا، وكذا معارج الأنبياء وشطحات الصوفية. غالبا ما كنتُ أشعر أنني متفوق بقابليتي على التأمل والإصغاء والغموض، غير أن مشكلتي هي في التهيج والثوران أحيانا. الشعر مزيج من التأمل والإصغاء والغموض والثوران.
الشعر إيقاع وشكل ومعنى. لماذا الإيقاع؟ الإيقاع يُخرج الكلمةَ من وحشتها ويضعها في سلمها الحقيقي؛ في جو الكتابة، المعنى يمنحها وجودا وروحا، والشكلُ قواما وجمالا. حينئذ تتشكل الكتابة. الشعر الحقيقي كتابة وكلام ومجهود لا محدود ومسئولية، تنطبق عليه تعاليم زرادشت الثلاثة: فكّرْ جيدا، قلْ جيدا، اعمل جيدا. لذا يقال: قالت العربُ وقال الشاعر. الكلامُ أعمّ من الكتابة، بينما الكتابة أخص، هي كشف عن خبايا النفس والكون وعن العلاقة ما بين المرئي واللامرئي. تكمن أهمية الكتابة الشعرية في اشتباكها مع اللامرئي واللامحسوس لمقاربته، ومع المرئي والمحسوس لتسفيهه أو إعادة كتابته. الإيقاعُ أولا(قبل المعنى و الشكل). الوجود إيقاع. الكلمة لا أهمية لها منفردة إلا في موضعين: في قدسية مدلولها أو في الشعر. الكلمة أم إيقاعها؟ ووفقا لهاتين المنزلتين: معناها وإيقاعها فشكلها أو إيقاعها ومعناها فشكلها. ما الإيقاعُ؟ الإيقاعُ وجود فحركة، الإيقاعُ شكل أيضا. من العسير فصل الإيقاع عن الشكل، والشكل عن الحيز الذي يتحرك فيه الإيقاع، الإيقاعُ سابق على التحديد والضوابط، فلذا تبقى الضوابط والأحكامُ أقلّ كمالا من الإيقاع، وأدنى منزلةً وأكثرَ مثارا للشك والارتياب. الكتابة الشعرية في أحد منازلها الحية تعني اقتناص الإيقاع/الإيقاعات، واقتناصها يعني حصرها في حيز. الإيقاع حركة فصوت فروح، إنه المرآة والصورة. لا إيقاع دون حركة وصداها في الحيز. الحيز يضمن الحركة ونقيضها، والشعر الحقيقي يجمع النقيضين، سواء في تناغمهما أو فوضاهما، ولا يمكن فعل ذلك دون تخييل وحدس.
الإيقاع لا يعني الأوزان والقوافي التي هي في حساب منطقي مدرك، محسوس ومرئي لشيء غير مرئي، لتحديد كنهه وترسيم معالمه وحصره في حيز زمكاني. الإيقاعُ إذن سابق وهو جوهر الكتابة الشعرية، لأنه يجمع ما بين المحسوس-المدرك وغير المحسوس، المرئي وغير المرئي.
هنلك نوعان من الإيقاع رئيسيان: إيقاع سابق على الكتابة؛ كل شيء له إيقاعه، وإيقاع ينخلق أثناء الكتابة. كل إشارة وظل وصوت وكلمة لها إيقاعها المستقل. ولا معنى -أهمية للإيقاع منفردا، فلابد من تداخل الإيقاعات، والتداخل يعني التنوع والاختلاف.
الإيقاعُ قائم على الاختلاف- التنوع. هنا يأتي دور المعنى والشكل الذي يمكن إبصاره أو تلمسه، وتراني أذهب أبعد من ذلك، إلى إيقاع الشعر العربي. الشعر العربي أعطى الإيقاع شكلا أي إيقاعا آخر. نحن لم تُزعجنا الأوزان الشعرية(الإيقاعات) التي اكتشفها الخليل بن أحمد الفراهيدي في الشعر العربي، بقدر ما تزعجنا الرتابة والملل من التحديدات ومن الشكل الذي فُرضَ فتُوّجَ دكتاتورا يحدد إيقاع الشاعر، وليس العكس.، بعبارة أوضح صار الطارئ قدرا ومصيرا، هو المقرر والحَكَم.
الشعرُ أقرب إلى الحدس، إنه حركة من الداخل نحو الخارج وليس العكس. إنه ملاقاة إيقاعين: إيقاع الداخل وإيقاع الخارج. القصيدة تهويمة هذين الإيقاعين، إنها تأسرهما فيصبحا جزءا من إبداع تشكيل إيقاعي جديد. إن للقصيدة إيقاعها الداخلي، وقد يقول البعضُ ساخرا: إنني لا أسمعه!!
ليس كل إيقاع مسموعا أو مرئيا. الإيقاع الداخليُ ليس وهما.. فثمة إيقاع الوجود وما وراءه، وإيقاع الكلمة وحروفها. نعم للشكل إيقاع وللمعنى إيقاع. حينما يتحول كل شيء إلى كتابة، حينئذ عليك أن تصغي وتسمع وترى وتُبصر وتُحسّ وتُدرك وتستقرئ. القصيدةُ هي تناص هذا وذاك في إيقاع خاص.