يحي أبوزكريا
&
محمّد بوضياف ليس رجلا عاديّا بالنسبة للجزائريين, انّه يمثل أحد أباء الثورة الجزائرية التي خلصّت الجزائريين من نير الاستعمار الفرنسي. و قد بدأ محمد بوضياف نضاله في صفوف حزب الشعب الجزائري منذ عقد الثلاثينات و كان عضوا قياديّا في المنظمة العسكرية الخاصة التي أسسها هذا الحزب في سنة 1947 والتي كانت تهدف الى الاعداد للثورة الجزائرية, وأستمرّ محمد بوضياف مناضلا في هذه المنظمة ككادر وقيادي ومنظّم. وعندما اكتشفت فرنسا أمر هذه المنظمة قامت باعتقال ألف مناضل من مناضلي حزب الشعب الجزائري, وحكمت على محمد بوضياف بالاعدام غيابيا الأمر الذي دعاه الى التخفي.
وقبل تفجير الثورة الجزائرية في 01 تشرين الثاني -نوفمبر - سنة 1954, ساهم محمد بوضياف في تأسيس جماعة 22 الثورية للوحدة و العمل وبعدها اللجان الست التي فجرّت ثورة التحرير الجزائرية, وتمكنّ بوضياف في ظروف غير طبيعية من تفجير ثورة التحرير مع رفقائه أحمد بن بلة ورابح بيطاط ومحمد خيضر و كريم بلقاسم وحسين أيت أحمد والعربي بن مهيدي وغيرهم. ومعروف أنّ الثورة الجزائرية اندلعت في وضع سياسي جزائري يتسم بالتعددية الشكلية, وكانت بعض الأحزاب الجزائرية أنذاك ترى عبثية الثورة وضرورة الاندماج الكلي في المجتمع الفرنسي أو المجتمع الأم كما كانت تسميه النخبة الفرانكفونية في ذلك الوقت. كما أنّ الثورة الجزائرية انطلقت في ظل ضعف الامكانات المادية حيث كان الثوّار الجزائريون يستخدمون بنادق الصيد والسكاكين وحتى أخشابا منحوتة على شكل بنادق ورشاشات.
ويرى الدكتور يحي بوعزيز المؤرخ الجزائري الشهير أنّ محمد بوضياف أنقذ الجزائر ثلاث مرات الأولى عام 1954 حينما اشتدّت الخصومة بين الأحزاب وأنقسم التيار الاستقلالى على نفسه, فحسم بوضياف ورفاقه الموقف لصالح الحتمية الثورية, والثانية عام 1964 بعد الاستقلال بعامين حينما فضلّ المنفى الاختياري خارج البلاد لمدة ثماني وعشرين سنة حتى لا يشارك في الفوضى والصراع الداخلي الذي نشب بين ثوّار الأمس غداة استعادة الاستقلال في سنة 1964, والثالثة عام 1993 عندما استجاب للنداء الوطني وعاد الى الجزائر لرئاسة المجلس الأعلى للدولة عقب استقالة أو اقالة الشاذلي بن جديد.
و المقربون من محمد بوضياف يعترفون له بقوة العزيمة والاصرار والعناد أحيانا, و لقد تحدث بوضياف ذات يوم عن يومياته أثناء الثورة الجزائرية قائلا أنّه تحملّ المحن في كل أوقاته وظلّ يفر من رجال المخابرات الفرنسية, وأشار الى جوعه وحرمانه هو و اخوته في النضال. وكثيرا ما كان بوضياف يتنقّل خارج الجزائر لتنظيم شؤون الثورة الجزائرية وتعريف العالم بأهدافها, وما زال العالم شاهدا على غطرسة الاستعمار الفرنسي الذي قام بتحويل الطائرة التي كانت تقلّ بوضياف و بقية رفاقه رابح بيطاط وحسين أيت أحمد وأحمد بن بلة ومحمّد خيضر.
وعندما سئل محمد بوضياف هل كان على علم ببرج المراقبة وطاقم الطائرة التي كانت تقله من المغرب والى تونس وما دور المخبرين والمتعاونين مع السلطات الفرنسية في المغرب, أجاب قائلا: مسألة المراقبة لم نكن نعلم بها ومسألة السفر تقررت بسرعة, وأنا شخصيا كنت مريضا وقد خرجت من المستشفى قبل ثلاثة ايام من موعد السفر وغاية ما هناك& بلغنا أنّ الحكومة الاشتراكية في ذلك الوقت حكومة ذي مولي اتصلت بالرئيس التونسي الحبيب بورقيبة والملك المغربي محمد الخامس وطلبت منهما الاجتماع في تونس لايجاد حل للمسألة الجزائرية وهذا سبب ذهابنا الى تونس, وقال بوضياف أنّه لم يكن في حوزتهم أسلحة عدا بن بلّة الذي كان يحمل معه رشاش ايطالى, والقرصنة الجوية التي تعرضنا اليها كانت بعد اقلاعنا من جزيرة مايوركا حيث تزودّت الطائرة بالوقود وبعد أن طارت أجبرت على التوجه الى الجزائر العاصمة وقد حاول الطيّار الاتصال ببرج المراقبة في المغرب لكن لا أحد ردّ عليه.
وعن تجربته النضالية قال بوضياف: خلال وجودنا في السجن في فرنسا كانت هناك بيننا وبين قيادة الثورة الجزائرية اتصالات محدودة, وكان أحمد بن بلة على اتصال بالعربي بن مهيدي أحد رموز الثورة الجزائرية في الداخل الجزائري, وكنت على صلة بكريم بلقاسم بينما كان عبان رمضان على اتصال بحسين أيت أحمد, وكانت هذه المراسلات توضح تطورات الثورة الجزائرية داخل الوطن وخارجه, وكانت بعض الأخبار تصلنا عن طريق المحامين وبعض الأشخاص, لكن كل ذلك لا قيمة له مادمنا في السجن وتحت الحراسة والمراقبة.
ففي السجن الفرنسي يقول محمد بوضياف كنّا على اتصال ببعضنا البعض, لكن دون عمل أو نشاط فعّال ما عدا مناقشة ومتابعة أحداث الثورة الجزائرية وماكان يجري داخل قيادتها من ايجابيات وسلبيات.
وفيما يخص المفاوضات الجزائرية -الفرنسية وخاصة الأخيرة منها جاءنا السيد بن يحي وبن طوبال وكريم بلقاسم لاطلاعنا على مجرياتها, وكان ردّي عليهم أننا بعيدون عن ميدان الأحداث السياسية والعسكرية ولا نعرف ما يجري خارج أسوار السجن, ولا نعرف شيئا عن امكانيات جبهة التحرير الوطني المادية والبشرية وقدرة الشعب الجزائري على الصمود, ولهذا يقول بوضياف كنت ألتزم الحذر دون العاطفة, بينما كان رأي باقي الاخوة وخاصة بن بلة القبول بانهاء الحرب حتى لو كانت بعض بنود اتفاقيّات ايفيان في غير صالح الجزائر مستقبلا.
وعن اتفاقيّات ايفيان التي أفضت الى استقلال الجزائر قال محمد& بوضياف: أعترف لبن يحي -وهو أحد الجزائريين المفاوضين - بالذكاء وبعد النظر المستقبلي, وفي الأمور التقنية كانت تنقصنا الخبرة والثقافة ولم يكن الاخوة المفاوضون تقنيين في مجال المفاوضات, لذا نجد رؤساء وملوك الدول في رحلاتهم وزياراتهم العملية مصحوبين بالتقنيين والخبراء في الميادين المختصة لكل اتفاقية أو عقود فيما بين الدولتين أو الدول.
وعن علاقة الثورة الجزائرية بالعالم العربي قال محمد بوضياف: للأمانة التاريخية& وحتى نكون منصفين في شهادتنا الثورية وعلى الشعب الجزائري أن يعرف ذلك, أنّ امكانات الثورة الجزائرية كانت ضعيفة في البداية من حيث انعدام الذخيرة الحربية والسلاح, كنّا نملك شعبا قابلا للتضحية والفداء لكن بدون سلاح, وكان اعتمادنا في البداية على أنفسنا وأمكانياتنا الضعيفة, ثمّ اتصلنا باخواننا في الدين والتاريخ والمصير المشترك, فكانت المساعدة الأولى للثورة الجزائرية بل للشعب الجزائري من العالم العربي, فالأخوة المصريون هم الأوائل في المساندة السياسية وتدبير الأسلحة من الدول العربية, وأول مساعدة مالية لشراء الأسلحة كانت من المملكة العربية السعودية.
وعندما ذهب جمال عبد الناصر الى الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج تحدثّ مع المسؤولين السعوديين حول متطلبات الجهاد في الجزائر فخصصت المملكة مبلغ 100 مليون دولار لدعم المقاومة في المغرب العربي. فأخذ منها صالح بن يوسف وشوشان نصيبا لتغطية مصاريف المقاومة التونسية, والباقي كان من نصيب الثورة الجزائرية التي اشترت به أسلحة وذخائر عن طريق مصر, أما المقاومة المغربية فلم تأخذ شيئا من هذا المبلغ على حدّ علمي قال محمد بوضياف, كما كانت هناك مساعدات جمّة من نظم وشعوب العالم العربي كالعراق وسوريا وتونس والمغرب وليبيا ولبنان وغيرها, كما لعب العالم الاسلامي دورا كبيرا في مساعدة الثورة الجزائرية في المحافل الدولية.
وتؤكد الوثائق, وشهادات مفجريّ الثورة الجزائرية ومنهم محمد بوضياف أنّ العالم العربي والاسلامي ساند الثورة الجزائرية منذ تفجير الثورة والى الاستقلال. وكان العالم العربي والاسلامي يرى في الثورة الجزائرية ضد فرنسا والحلف الأطلسي ملحمة ومفخرة للعرب والمسلمين, وقد صارت الثورة الجزائرية قدوة لحركات التحرر في وقت لاحق..
&
الاستقلال وبداية الكارثة
&
كان محمد بوضياف يحلم بجزائر قويّة تعتمد على نفسها, وتعمل على ترجمة الأهداف الكبرى التي سطرتها ثورة التحرير المباركة بدماء مليون ونصف مليون من الشهداء, وكان بوضياف يأمل أن أن يتحد رفاق الأمس الذين ضحّوا بالغالي والنفيس من أجل تحرير الجزائر, الاّ أنّه شاهد بداية تمزق صفوف الثوّار وانحرافا عن خطّ الثورة الأصيلة, وعايش بنفسه ظهور المحاور والتكتلات التي كادت تتسبب في اندلاع حرب أهلية في الجزائر.
وكان متضايقا من تهميش بعض مفجري الثورة الجزائرية, وهاله أن يحتل ضباط فرنسا المواقع الأمامية على حساب الثوّار الحقيقيين.
وتعود قصّة التمزق الى ما قبل الاستقلال الجزائري بقليل عندما فرض بعض عقداء جيش التحرير الشعبي أراءهم على باقي الثوّار وسعوا لخلق تكتلات داخل صفوف الثورة الجزائرية, ويعترف رئيس الحكومة المؤقتة يوسف بن خدّة أنّ الخصام بين ثوّار الأمس قد بلغ الذروة, وهو لذلك فضّل الانسحاب من الساحة السياسية في وقت مبكّر.
ورغم الدعوة المتكررة لاعادة كتابة تاريخ الثورة الجزائرية بسلبياتها وايجابياتها, فانّ العديد في الجزائر ما زال يضع العراقيل في وجه هذه الدعوة, وربما يخشى هذا البعض من رفع الغطاء عن العديد من الذين خانوا الثورة الجزائرية وأسعفهم الحظ على تولّي مناصب حسّاسة في الجزائر.
وهذه المتناقضات بين ثوّار الأمس في عهد الاستقلال كادت تؤدي الى حرب أهلية, ولما تفاقم الصراع خرج الشعب الجزائري متظاهرا في الشوارع رافعا شعار: سبع سنوات تكفينا, في اشارة الى السنوات السبع التي قضّاها الشعب الجزائري في محاربة الاستعمار الفرنسي. وقد حسم الصراع لصالح قيادة الأركان والتي عينّت أحمد بن بلة على رأس الدولة الجزائرية الفتية. وقد اعترف بن بلة أنّه كان ضئيل الثقافة والخبرة ورغم ذلك فقد حاول مع رفاقه أن يبني معالم الدولة الفتية, وكان رفاقه يأخذون عليه استحواذه على ثمانية مناصب حسّاسة في وقت واحد, وهو الأمر الذي أثار حفيظة بعض رفاقه& الذين فسروا تصرفه أنّه سلطوي وديكتاتوري.
و كان محمد بوضياف أحد الناس الذين هالهم تحريف الثورة الجزائرية عن مسارها وتغليب الأنا في معالجة الأمور بدل المصلحة الوطنية العليا, ولما كان أحمد بن بلة يخشى جانبه أمر باعتقاله وايداعه السجن ثمّ حكم عليه بالاعدام بتهمة التأمر على أمن الدولة.
وعن هذا الاعتقال قال محمد بوضياف: أنّ اعتقاله تمّ بطربقة بشعة حيث كان يتجول في الشارع وجرى اعتقاله ثمّ أبدى استغرابه لكون& الشخص الذي امر باعتقاله البارحة من دعاة الديموقراطية اليوم.
وبعد أن تدخلت أطراف متنفذة ولاعتبارات تتعلق بماضي بوضياف التاريخي أطلق سراحه, ففضّل مغادرة الجزائر وبشكل نهائي, وأقام بشكل مؤقت في باريس حيث أسس حزبا معارضا اشتراكيّ التوجه, كما ألّف كتابه الشهير الجزائر الى أين !
وفي هذا الكتاب تحدث عن مصير الثورة الجزائرية والخلل الذي انتاب مسيرتها, وبعد فترة لم تدم طويلا قام بالغاء حزبه, وفضلّ الاقامة في القنيطرة في المغرب, وقد أقام مصنعا للأجر وظلّ يتابع الأحداث في الجزائر دون أن يدلي بأي تصريح أو تعليق لوسائل الاعلام.
وقد رفض محمد بوضياف جميع الدعوات التي وجهها اليه هواري بومدين بالعودة الى الجزائر غداة اطاحته بأحمد بن بلة في 19 حزيران - جوان -1965, الاّ أنّه رفض كل هذه الدعوات محبذا المنفى على معايشة مشاهد اغتيال الثورة الجزائرية. وكان محمد بوضياف في المغرب محط رعاية العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني, كما كان محل احترام السكان المجاورين له .
وقد استطاع وهو في المغرب وكما قال هو شخصيا أن يحقق ثروة تكفل له ولأبنائه وزوجته العيش بكرامة, ولذلك لما عيّن على رأس المجلس الأعلى للدولة في مطلع سنة 1992 رفض أن يتقاضى راتبا ليؤكّد على نزاهته, وأنّه يختلف عن الأخرين الذين اختلسوا أموال الجزائر وصيرّوها بعد غنى وثراء فقيرة تستجدي العون من البنوك الدولية..
&
الجزائر من الأحاديّة والى التعدديّة
&
بعد خريف الغضب في 05 تشرين اول -نوفمبر - 1988 أضطّر الشاذلي بن جديد ولتجاوز الانتفاضة الشعبية العارمة وأثارها, أن يعلن وعلى مسمع ومرأى الشعب الجزائري عن مشروع للاصلاحات السياسية والاقتصادية, ودعا الشعب الجزائري لابداء رأيه في الدستور الجديد المعدّل الذي تصبح التعددية السياسية بموجبه متاحة وكذا التعددية الاعلامية. وتمّت الموافقة الشعبية على هذا الدستور في شهر شباط -فبراير - 1989 وكان ذلك ايذانا بميلاد التعددية السياسية والاعلامية, وشرع المعارضون التقليديون للنظام الجزائري بالعودة الى الجزائر بدءا بحسين أيت أحمد الذي كان يدير حزبه جبهة القوى الاشتراكية انطلاقا من أوروبا,ثمّ تلاه أحمد بن بلة الذي كان مقيما في سويسرا وهناك كان يتزعم حزبه الحركة من أجل الديموقراطية.
وبعودة هؤلاء الرموز الذين كانوا وراء تفجير الثورة الجزائرية, تساءل بعض الجزائريين عن موعد عودة محمد بوضياف الى الجزائر !
لم ينتظر السائلون كثيرا اذ جاءهم الجواب من خلال تصريح لبوضياف& لبرنامج لقاء الصحافة المتلفز والذي خصص للثورة الجزائرية, وقد سئل بوضياف لماذا لا يعود الى الجزائر ! فأجاب بأنّه لا يؤمن بهذه الديموقراطية ولا بالمشروع الديموقراطي المطروح في الجزائر والذي أملته ظروف معينة -& ويقصد أحداث خريف الغضب في شهر أكتوبر -
وأنّه لما يشعر بجديّة التجربة سيعود الى الجزائر أو في حالة وجود ما من شأنه أن يجعل& العودة الى الجزائر واجبا وطنيا...
وزاول بوضياف عمله التجاري في منفاه في مدينة القنيطرة في المغرب, حيث كان يتردد عليه بعض الجزائريين الباحثين وغيرهم ويسألونه عن قضايا وملفات تتعلق بالثورة الجزائرية, ونقل عنه بعض زائريه أنّه كان قلقا للغاية على مصير الجزائر, وكثيرا ماكان يسأل الجزائر الى أين ! وهو عنوان كتابه الذي ألفّه في بداية الستينيات أي بعد استقلال الجزائر بسنتين فقط.
و أزداد اهتماما بالجزائر عقب الاضراب الذي دعت اليه الجبهة الاسلامية للانقاذ في 25 أيّار -مايو - 1991 لالغاء القوانين التي سنتها حكومة مولود حمروش بغية تزوير الانتخابات. وقد أدى هذا الاضراب الى اندلاع صراع دموي بين الاسلاميين والسلطة الجزائرية والذي انتهى بتدخل الجيش وفرض حالة الحصار العسكري وحظر التجول واقالة حكومة مولود حمروش وتعيين وزير الخارجية في ذلك الوقت سيد أحمد غزالي على رأس الحكومة.
وجاء اعلان الحصار في الجزائر في 04 حزيران - يونيو - 1991 ليؤكد ماذهب اليه محمد بوضياف من أنّ الديموقراطية الجزائرية شكلية وتدخل في اطار التنفيس عن أحداث دامية كانت تعصف بالدولة الجزائرية.
و أثناء عودة محمد بوضياف الى الجزائر في أواسط كانون الثاني - يناير - 1992 اعتبرت أوساط سياسية جزائرية أنّ عودته في هذا الوقت تحديدا كانت غير مناسبة وغير لائقة و قالت هذه الأوساط أنّ بوضياف تنطبق عليه مقولة الرجل المناسب في الوقت غير المناسب ورأت هذه الأوساط أنّه لو تولىّ الحكم بعد خريف الغضب مباشرة لكان خيرا له وللجزائر.
&
امتدّت فترة الحصار العسكري أربعة أشهر أعلن الشاذلي بن جديد بعدها أنّ الانتخابات التشريعية ستجرى في 26 كانون الأول - ديسمبر -1991.
استعدّت القوى السياسية لهذه الانتخابات وعاودت نشاطها السياسي بعد صمت استمرّ أربعة أشهر كان منطق الرصاص والصراع الدموي بين السلطة والاسلاميين هو سيّد الموقف.
وفي اللحظات الأخيرة قررت الجبهة الاسلامية للانقاذ بقيادة المهندس عبد القادر حشّاني المشاركة في الانتخابات.
وكان الشعب الجزائري متحمسا لهذه الانتخابات خصوصا وأنّ الصورة الرسمية التي قدمت له أنّه أصبح صاحب الارادة والقرار يزكّي من يشاء ويختار من يشاء بعد أحادية سياسية ستالينية شلّت طاقته وحتى قدرته على التفكير.
وبعد أيام قليلة من هذه الانتخابات أعلن وزير الداخلية الجنرال العربي بلخير عن النتائج التي جاءت كما يلي:
- 188 مقعدا للجبهة الاسلامية للانقاذ.
-& 20 مقعدا للجبهة القوى الاشتراكية.
-& 16 مقعدا للحزب جبهة التحرير الوطني.
وبمجرد شعور التيار البربري والفرانكفوني واليساري وتيار في المؤسسة العسكرية برجحان الكفة لصالح الجبهة الاسلامية للانقاذ قامت قيامة الجزائر في أعنف صراع, حيث كان أصحاب الاتجاهات المذكورة يرون أنّه من المستحيل السماح للانقاذ بتكريس مشروعها الاسلامي.
وهاهنا حسم بعض الجنرالات الموقف وذلك باقالة الشاذلي بن جديد وقلب الطاولة من أساسها, والعجيب أن بعض أقطاب التيار الفرانكفوني اعتبر الشعب الجزائري غبيا لا يحسن الاختيار وغير ناضج ديموقراطيا.
وقد أقسم بعض الناس في الجزائر أن لن يتوجهّ أبدا الى صناديق الاقتراع, ما دامت الدبابات تلغي اختيار الشعب بطلقة مدفع واحدة.&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&
وقبل تنحيّة الشاذلي بن جديد, وقبل اجراء الانتخابات التشريعية بأسبوع واحد, قال الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد في ندوة صحفية أنّه سيذهب بالمشروع الديموقراطي الى أبعد حدّ, وسوف يحترم القوة السياسية التي تفرزها ارادة الشعب الجزائري مهما كان لون هذه القوة السياسية. كما أنّ القوى السياسية برمتها أعلنت أنّها ستحترم ارادة الشعب الجزائري و قواعد اللعبة الديموقراطية و سوف تقبل نتائج الانتخابات بروح رياضية, لكن كل هذه الالتزامات تبخرّت مع بروز النتائج الأولية وبدأت عقارب الساعة في الجزائر تتراجع الى الوراء, فسعيد سعدي زعيم التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية البربري والذي صرحّ قبل اجراء الانتخابات التشريعية أنّ حزبه سيحترم افرازات المشروع الديموقراطي هددّ بأنّه سيعلن الحرب على الأصولية, وأعلن أنّ حزبه لن يقبل بأن تتحول الجزائر الى ايران أو سودان ثانية.
والهاشمي شريف زعيم حزب الطليعة اليساري دعا الجيش الجزائري للتدخل وصرحّ أنّ حزبه يقبل بنظام بينوشي ولا يقبل بنظام اسلامي توليتاري رجعي ظلامي.
والفرانكفونيون واليساريون والبربر والعلمانيون وأصحاب كل المتناقضات الأيديولوجية أسسوا وفي يوم واحد جمعية انقاذ الجزائر, وقد منح وزير الداخلية في ذلك الوقت الجنرال العربي& بلخير الاعتماد لهذه الجمعية في ظرف ربع ساعة, في حين تنتظر الجمعيات الأخرى مدّة ستة أشهر للحصول على الاعتماد. والجمعيات النسوية التحررية أقامت مهرجانات للمطالبة بحقوق المرأة كاملة وكل تلك الأمور كانت في الواقع رسائل سياسية من جهة, كما كانت مؤشرا على وجود قوة فاعلة تحرك كل هذه الصور من خلف الكواليس كمدخل لما هو أعظم !
العربي بلخير وزير الداخلية وأحد أكثر المتنفذين داخل المؤسسة العسكرية عقد اجتماعا موسعا صبيحة ظهور نتائج الانتخابات مع القيادات الأمنية استعدادا للمرحلة المقبلة.
سيد أحمد غزالي رئيس الوزراء والذي وعد الأمة الجزائرية عشية تعيينه على رأس الحكومة في 04 حزيران -يونيو -1991 بأنّه سيشرف على انتخابات حرّة ونزيهة,أعلن أنّ ظنه
في الشعب الجزائري قد خاب لأنّه& صوتّ لصالح الجبهة الاسلامية للانقاذ, وكان غزالي قد قدمّ ضمانات للمؤسسة العسكرية بأنّ القوة الثالثة العلمانية هي التي ستستحوذ على البرلمان.
جنرالات الجيش وعلى رأسهم وزير الدفاع الجنرال خالد نزار اجتمعوا ولمدة أسبوع كامل بالشاذلي بن جديد وطالبوه بالغاء الانتخابات التشريعية باعتبار أنّ صلاحياته تخوله ذلك, وقد أدّى رفض الشاذلي لطلبهم الى عزله حيث قدم استقالة رمزية أوضح فيها سبب الاستقالة, وقال أنه سيضحّي من أجل الجزائر, وحتى تكتمل اللعبة أمر بحل البرلمان الجزائري,وقد أعلن رئيس البرلمان عبد العزيز بلخادم أنّه سمع بأمر حل المجلس الشعبي الوطني - البرلمان - من خلال التلفزيون الرسمي.
وقد توالت الأحداث بسرعة مذهلة لتنتهي الجزائر بلا رئاسة ولا مجلس شعبي منتخب ولا مجلس دستوري ولا بلديات منتخبة.
انّه الفراغ الدستور المركّب, انّه الشغور التام, انّه بداية انهيار الدولة ومؤسساتها.
ولم يتمكن بوضياف من إصلاح الدولة بل جرت تصفيته في أواخر حزيران من سنة 1992. ولم يحكم بوضياف غير 166 يوما, تولّى بعده العقيد علي كافي رئاسة المجلس الأعلى للدولة *
* أنظر كتاب يحي أبوزكريا من قتل محمّد بوضياف طبع سنة 1993 في بيروت.
&
&&