في واحدة من أفضل المقالات عن أندريه بروتون نبه الشاعر المكسيكي اوكتافيو باث الى نقطة جوهرية يجب أن تؤخذ في الاعتبار: quot;من المستحيل الكتابة عن أندريه بروتون بلغة تنقصها العاطفة والشغفquot;. وها هي ذكرى وفاته الأربعون تَحلُّ، وبمناسبتها سيحتفل كل على طريقته، بل حتى الخصوم ستكون لهم كلمة بشأنه. ذلك أن ذكرى بروتون لابد أن quot;تندلع في رأس الجميع اندلاع الينابيع في حقل من الوردquot;، على حد عبارة الشاعر الصديق أنسي الحاج. فلكل قرن أسطورة، وأسطورة القرن العشرين هي السوريالية، ولولا أندريه بروتون، بسلامته، خلقه وصلابته الفكرية، لما كان لهذه الأسطورة مقامها في حضرة تاريخ الذكاء الإنساني. وها نحن بدورنا نقوم بزيارة أهم المحطات في حياته متلمسين تبلور المقومات الرئيسية للسوريالية، فيستخلص القارئ بنفسه ما تبقى منها ساري المفعول وفعالا في مطلع الألف الثالث.

ولد أندريه بروتون في التاسع عشر من شباط (فبراير )1896 في quot;تانشبريهquot; (آورن - فرنسا) لأب أصله من مقاطعة quot;اللورينquot;، عَلماني وجد متحمس لتطلعات ولده، والأم أصلها من quot;بريتاينquot; مؤمنة وباردة سيصفها بروتون لاحقا بعبارات جد قاسية: quot;متسلطة، ضئيلة، حقودةquot;، مما جعلت الجو العائلي لا يطاق (وهنا يكمن احد الدوافع وراء تصريحه في كتابه quot;الحب المجنونquot;: quot;يجب طمر العائلة، قبل كل شيءquot;)، ومع هذا فان ثمة أوقاتا جميلة، في طفولة بروتون، لعبت دورا كبيرا في تنمية حاسته التشكيلية، خصوصا تلك

منشورات المعارك من أجل الدادائية والسوريالية
لتي كان يتلقى فيها تربيته على جَده لأمه، بيير لكوجيس. فبيير هذا كان قاصا ماهرا، علّم بروتون اللغة وقصص الغموض والأسرار، والاهتمام الشديد بالحشرات والولع بالغابات.

غادرت عائلة بروتون، في فاتح القرن العشرين، غابات quot;بريتاينquot; صوب باريس، لتستقر قرب منطقة quot;بانتانquot;. دخل اندريه مدرسة quot;شابتالquot; في عام 1904. وها هي حياته تتكدر بسبب الروتين المدرسي وتصرف أمه السلطوي. وما إن بلغ الخامسة عشرة حتى تجلى له بفضل احد المعلمين أساطين الشعر ونوره: مالارميه، بودلير، شعراء الرمزية الخ فأخذ يحضر القراءات الشعرية التي كانت تجري في مسرح quot;لفيو كولومبييهquot;... بل حاول كتابة الشعر متأثرا ببول فاليري، فكانت قصيدته الاولى التي نشرها اوائل 1914 في مجلة quot;الكتيبةquot; مهداة الى فاليري. وكانت الزيارات مع أبيه إلى بعض المتاحف والمعارض، تمتع ناظريه وتعمق من حاسته النقدية. شاهد للمرة الاولى لوحات ماتيس، فاثارت إعجابه بقدر ما كان والده يجدها مخزية. لكن دهشته الحقيقية تجسدت في زيارته quot;متحف غوستاف موروquot; الذي أثر بشكل قاطع على مفهوم الحب لديه. ذلك أن الحب والجمال تجليا له بواسطة وجوه نساء quot;موروquot; والوضعيات المعينة التي اتخذتها. وكم تمنى بروتون لو حُبس في ذلك المتحف ليلة ليطوف وحده القاعات كلها. وفي غمرة هذا التلقين الروحي والتطهير الشعري، وقع في حب ابنة خالته quot;مانوquot; التي أدرك من خلالها المزيج من الإغراء والذعر. لم تدم العلاقة طويلا. وفي تشرين الاول (اكتوبر) 1914، دخل كلية الطب تلبية لطلب أبويه، وها هو يغير، في سجل الكلية، تاريخ ميلاده من 19 شباط الى 18 شباط، وهو تاريخ ولادة ابنة خالته. وسيكون لهذا التغيير الناجم أولا عن تجربة حب فاشلة، من برج الحوت إلى برج الدلو دلالة تنجيمية يتغذى منها فكر أندريه بروتون برمته.

كان الشارع الفرنسي منشغلا بأخبار اندلاع الحرب العالمية الاولى وخصوصا بانعدام الأمل في السلام بعد مقتل الاشتراكي جان جورس. وقد كتب بروتون إلى صديقه تيودور فرانكل، رسالة يفصح فيها عن امتعاضه من المشاعر الشوفينية والحماسات الهستيرية لدى الناس. والغريب انه في هذه الفترة بالذات، حصل على الطبعة الكاملة لأعمال رامبو التي تضمنت رسائل لم يحبذ احد آنذاك قراءتها، خصوصا تلك الموجهة الى جورج ازامبارد في الخامس والعشرين من آب (اغسطس )1870 يحذر فيها من يقظة العسكر: quot;وطني ينهض افضل ان اراه جالسا: لا تهيجوا الجزم. هذا هو مبدئيquot;. تمنى بروتون أن يُعفى من الخدمة العسكرية. لكن هيهات، فالفحص الطبي أكد انه صالحٌ،

بروتون مع تروتسكي والفنان المكسيكس ديغو رفيرا
وعليه أن يسجل، للخدمة العسكرية، فتم ارساله في الخامس والعشرين من شباط 1915 الى مدينة quot;بونتيفquot; في quot;بريتاينquot; لاتمام التدريبات اللازمة، وبعد خمسة اشهر أرسِلَ الى مدينة quot;نانتquot; كممرض في مستشفى البلدية. ومع هذا كان بروتون طوال فترة الحرب يتغذى بأفضل ما كان ينتجه شباب جيله امثال quot;مارسيل دوشانquot; هذا الفنان الذي عبر عن اشمئزازه من الفن، مفضلا لعب الشطرنج، وهو صاحب نظرية جديدة تقول ان كل ما يجده المرء من أغرض مرمية (ready made ) يمكن لها ان ترقى الى مستوى الفن وفقا لارادة الفنان. وبالفعل فان العمل الذي عرضه دوشان في معرض المستقلين سنة 1917 في نيويورك، كان quot;مبولةquot; وجدها في الشارع وحتى يجعل منها تحفة فنية خالدة، كتب فقط على أحد جوانبها بالحبر الصيني: quot;نافورةquot;، وهكذا دخلت متحف نيويورك كواحدة من أعظم أعمال الحركة الدادائية! وثمة شهاب آخر مر في سماء الاحتجاج على العقلانية المتوجة بأبشع حرب عالمية: quot;آرتور كرافان 'الذي كان يعتبر نفسه quot;جنديا فارا من سبعة عشر بلداquot;، غير اسمه مرات، وادعى انه الابن الشرعي لاوسكار وايلد! وذات يوم عبر الخليج المكسيكي فاختفى، لا يعرف احد إن مات غرقا، أو غير هويته واسمه ومهنته، وبات إنسانا آخر لا علاقة له البتة بكل هذه الأسطورة التي خلدته كأب أول للحركة الدادائية، صاحب مجلة صغيرة مطبوعة على ورق لف اللحم، غير منتظمة الصدور، كان يكتب كل موادها، صدر منها ستة أعداد فحسب، عنوانها: quot;الآنquot;! يقال أن تروتسكي التقى به في سفينة.

كان اندريه بروتون يجتاز التجارب الشعرية والفنية الجديدة التي شهدتها فرنسا منذ اندلاع الحرب العالمية الاولى، مع تتبع اخبار المجموعات الفوضوية ويستلهمها، خصوصا مجموعة quot;بونيهquot; التي كانت تهاجم مراكز الشرطة والمصارف. كما كان يواصل مراسلاته مع شعراء الحداثة آنذاك كفاليري وابوليتير مستفيدا من ملاحظاتهم النقدية ازاء ما ينشره من قصائد ما تزال تعكس تأثيراتهم وتأثيرات ماليرميه ورامبو. الا انها قصائد واعدة تنم عن اسلوب مشغول بليغ لا يقبل السهولة. لكن الشيء الغائر في اعماقه كان يحتاج الى من يبرزه الى العيان. واذا بنظره يقع، اثناء احدى استطلاعاته داخل ردهات المستشفى، في مدينة نانت، اواخر شباط 1916، على شاب ادخل للمعالجة، له شعر اصهب، غريب الاطوار يعاكس الممرضات باحاديث غريبة ويرسم نفسه على بطاقات واقفا وخلفه جثثت الحرب وكأنه متكئ على بار. اللقاء بهذا الشاب سيغير حياة اندريه بروتون: انه جاك فاشيه الدادائي قبل الدادائية، المغرم بالملابس بحيث كان يتجول مرتديا زي ضباط في الخيالة، او زي طيار او طبيب. وان التقاك، فانه يتابع طريقه كأنه لا يعرفك ابدا لا يمد يده للمصافحة ولا يقول عمت صباحا او عمت مساء يكره رامبو بل يشك حتى في وجوده. معجب بالفريد جاري، ويكاد يجهل ابولينير ولم تعجبه مسرحية ابولينير: quot;ثديا تيرزيازquot;، اذ ما ان انتهى فصلها الاول الذي اثارت قرفه، حتى سحب مسدسا وهو بزي انكليزي وهدد المشاهدين باطلاق النار عليهم. كانت له صديقة، وعندما يأتيه زائر يطلب منها ان تجلس في الزاوية صامتة لساعات، وعندما تدق الخامسة بعد الظهر تقوم وتقدم لهما الشاي فيشكرها بقبلة على احدى يديها. انه quot;سيد فن التقليل من اهمية كل شيءquot;. لم يترك عملا ادبيا واحدا، اذ كل ما تركه من quot;تراث يذكرquot; هو 15 رسالة صغيرة، نشرها اندريه بروتون سنة 1919، مع مقدمة تحت عنوان quot;رسائل

بريشة اندريه ماسون
الحربquot;. وجدوه مع جندي آخر ميتا من معاقرة الافيون، في غرفة فندق، عن عمر يناهز الثالثة والعشرين. كان لخبر انتحاره الغامض الى اليوم، وقع الصاعقة على اندريه بروتون، خصوصا انه جاء بوقت قليل بعد موت أيولينير. اكتشف بروتون من خلال احتقار فاشيه لكل ما يمت بصلة الى عالم الفن والكتابة، بأن كل هؤلاء الشعراء الذين كان يعقد عليهم امالا ليسوا سوى رجال ادب همهم ابقاء اللعبة الادبية مستمرة، بل تراءت لبروتون من خلال معاشرته فاشيه، امكانية وجود شعر بلا قصائد. وقدكتب بروتون ذات مرة: quot;لو لقائي بجاك فاشيه، لكنت الآن مجرد شاعرquot;!

اصدر بروتون سنة 1919 مجموعته الشعرية الاولى تحت عنوان: quot;محل الرهوناتquot; وكأنه يسدد ديونا ادبية للشعراء الذين تأثر بهم وتتجلى فيها بكل وضوح تأثيرات رامبو وريفيردي وابولينير، كما اعتمد تقنية جديدة هي مونتاج فقرات مقتطفة من هذه الجريدة او تلك المجلة بعد تحويرها. ولئن تفصح المجموعة عن محاولات تجديد يتجلى فيها رفضه المبكر للمقاييس الادبية السائدة، فان بروتون كان غير راض عما يكتبه، اذ ثمة شيء ناقص لم يع آنذاك ما هو. ما هي الحدود الفاصلة بين الشعر والحياة؟ ما جدوى الكتابة؟ فالمسألة ليست كيف تكتب، وانما كيف تحيا، ولماذا تحيا الخ.

وذات مساء، وهو على وشك ان ينام، سمع بكل وضوح جملة بدت له ملحاحة، كانت quot;تقرع زجاج نافذتهquot;، وما ان حاول تدوينها حتى لم يعد يتذكرها بالضبط، شيء من هذا القبيل تقريبا: quot;ثمة رجل تشطره النافذة الى نصفينquot;، لكنها لا تحتمل اي لبس، اذ كان يرافقها تخيل بصري طفيف لرجل يسير وقد قطعته في النقطة الوسط نافذة تعامد محور جسمه. وما من شك ان الامر كان يتعلق برجل يطل من نافذته.. فادرك بروتون انه يتعامل مع صورة من النوع النادر، ولم يخطر له سوى ادخالها في صلب بنائه الشعري. وبينما كان مشغولا بفرويد وقد ألف طرق فحصه التي يطبقها على بعض المرضى، فقد صمم على ان يحصل من نفسه ما كان يحاول الحصول عليه منهم، اي على مونولوغ منطوق بأسرع ما يمكن من دون اي تدخل من جانب الحواس النقدية، وبالتالي مونولوغ غير متلبك بأدنى الطموحات، واقرب الى التفكير الشفهي وقد بدا له ان سرعة التفكير لا تفوق بكثير سرعة الكلام وانها لا تتحدى اللغة حتما ولا حتى القلم الذي يجري بها.

اطلع بروتون فيليب سوبو على النتائج الاولية واخذا يسودان الورق وهما في ازدراء محبب لما قد يسبب هذا في نظام الأدب. وبتعليقهما العالم الخارجي، ارادا ان يعيدا، طوعا، داخل ذواتهما الحالة التي كانت تتشكل فيها هذه الجمل المشبعة بالالغاز، وقد تواردت عليهما على هذا النحو طوال شهرين، تتزايد اعدادها وتتلاحق دونما فاصل زمني وليست quot;الحقول المغناطيسيةquot; التي صدرت في ايلول (سبتمبر )1920، سوى التطبيق الاول لهذا الاكتشاف (اكتشاف وليس ابتكارا) اذ يمكن العثور على ما يحمل سمات الكتابة الاوتوماتيكية لدى كتاب الماضي من افلاطون حتى كنوت هامسن، لكن بسبب انانيتهم الطامحة الى ثواب رسمي، اتخذوها مجرد وسيلة للصناعة الادبية، بينما السوريالية اعتبرت الكتابة الاوتوماتيكية، التي كشفت عن نفسها للمرة الاولى عبر هذه quot;الحقولquot;، صيغة عليا يكشف بها الانسان سره وسر الكون.

الكتابة الاوتوماتيكية تفقد فاعليتها ما ان تستعمل لخدمة أهداف ادبية. لم يتأخر بروتون عن منح الكتابة الاوتوماتيكية اهمية فكرية كبرى اكثر من اعتبارها مجرد مواد للكتابة

غلاف احد دواوينه صممه مارسيل دوشان
الشعرية. وليس اعتباطا ان تكون في صلب التعريف الذي وضعه بروتون سنة 1924 للسوريالية: quot;اسم مؤنث، وهي الآلية النفسية المحض التي يريد المرء عن طريقها التعبير شفويا أو كتابيا أو بأية طريقة اخرى عن وظيفة الفكر الحقيقية. وهي ما يعلي الفكر بعيدا عن أية رقابة يمارسها العقل وبعيدا عن أي اهتمام جمالي أو اخلاقيquot;.

وبالاشتراك مع فيليب سوبو ولوي اراغون، اصدر بروتون (آذار /مارس 1919 )مجلة جديدة عنوانها: quot;أدبquot; لا لتدل على تهكم من مفهوم الأدب كله فحسب، بل لاستنطاق كل الاشكال المؤدية الى مضمون تحرري من ربقة الانانية الادبية. وعند وصول تريستان تزارا اثر دعوة بروتون اياه الى باريس فتحت المجلة صدرها لبيانات تزارا، بحيث اصبحت منبرا للعصيان الدادائي في فرنسا. كانت هذه المجلة المنطوية على بذرة السوريالية، أول من اجرى الاستفتاء الساري المفعول حتى اليوم: quot;لماذا تكتبون؟quot;. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الكتابة في نظر بروتون لم تكن سوى طريقة أخرى للتواصل الإنساني، ولخلق التواصل مع الآخر يجب أن يكون هناك معنى؛ قضية وجوهرا في الكتابة. فمن الخطأ إذا، أن نسأل ما الذي يميز بروتون عن بقية رفقائه السورياليين. ففي نظر بروتون لكل إنسان تعبيره وبالتالي إضافته. لم يقبل أحدا في الحركة السوريالية ما لم يكن له شيء، حتى لو كان جد صغير، يضيفه.

سرعان ما اكتشف بروتون ان ليس من جديد في كل هذا التمردالنفيوي الدادائي، اذ سبق ان عاصر نفيا للفن كهذا قبل ظهور الدادائية، عند جاك فاشيه الذي كتب: quot;الفن حماقةquot;. ذلك ان بروتون اراد من كل هذا الوعي المضاد لمسيرة العقلانية في التاريخ، ان يكون تمرد ذكاء قادر على تخليص العقل من محدوديته وجعله مفتاح الحريات كلها. فها هو يمهد، في مقالته عن لوتريامون المنشورة في quot;المجلة الفرنسية الجديدةquot; (حزيران /يونيو 1920 )، انفصاله عن الدادائية بالعبارة التالية: quot;والآن ندري ان الشعر من شأنه ان يفضي الى مكان ماquot;. كما ان المشكلة في نظر بروتون، لا تكمن في الفن وانما في صلب الذين يوجهونه، وما على الدادائية الا ان تحاكمهم بدلا من ان تواصل التهريج والمشهدية. لذا طالب بروتون بمحاكمة موريس باريز الذي كان في شبابه كاتبا ذا طموحات مثالية ومخيلة رائعة، لكنه وضع الآن كل مواهبه من اجل خدمة شوفينية للارض والموتى والوطن، اي في خدمة كل ما كانت ترفضه مجموعة quot;أدبquot;. واثناء المحكمة اندلعت مساجلة حادة بين تزارا وبروتون اثارت حربا بينهما. لكن بروتون اقترح عقد quot;مؤتمر دولي لتحديد ايعازات الفكر الحديث والدفاع عنهquot;. فامتنع تزارا عن الحضور. فلم يكن امام بروتون سوى ان يهجر quot;داداquot;مع عدد من رفاقه. فكفت مجلة quot;أدبquot; ان تكون منبرا دادائيا، من سنة 1922 وحتى

الصفحة الرئيسية من جريدة الفوضويين الفرنسيين

احتجابها سنة 1924، مركزة اهتمامها على مواضيع التجريب الشعري بكل الوسائل: الكتابة الآلية، سرد الاحلام، نصوص يتم الحصول عليها بواسطة التنويم المغناطيسي. ولئن كانت مقومات السوريالية آخذة في الظهور، فان ترددا كان يمنعها من اعلان نفسها. وخلال هذه الفترة الحرجة من تاريخ السوريالية، ازداد اهتمام بروتون بكتابة الشعر، بأصدار مجموعته الثانية: quot;ضوء الأرضquot;. ثم الحقها بكتاب يضم مقالاته النقدية عنوانه: quot;الخطى الضائعةquot;، وما ان حل خريف 1924، حتى صدر quot;بيان السوريالية الأولquot;، دفاعا عن المخيلة وطاقة الحلم والايمان بهما، ويعتبر هذا البيان أوج الاحتفال بجوهر الانسان: الحرية التي لها لون الانسان. وفي غضون أشهر، الحقه بقصائد نثر: quot;الاسماك القابلة للذوبانquot; (انقر هنا لقراءة قصائد نثر لبروتون)، وفي كانون الاول (ديسمبر )صدر العدد الاول من مجلة quot;الثورة السورياليةquot; التي جاء على غلافها هذا النداء: quot;من اجل صياغة اعلان جديد لحقوق الانسانquot;. وفي العام نفسه اصدر اراغون كتابه التتويجي 'لجة من الاحلام '. كما اصدروا كراسا صغيرا بعنوان 'جثة 'ضد اناتول فرانس، وحتى تكتمل معالم الحركة السوريالية تم انشاء مكتب للابحاث السوريالية واصدار بيانهم الشهير: quot;تصريح 27 كانون الثاني (يناير )1925quot;، جاء فيه: quot;ليست لنا علاقة بالأدب. لكننا جد متمكنين من استعماله كأي شخص آخر... السوريالية ليست وسيلة تعبير جديدة، ولا هي الأسهل، ولا هي حتى ميتافيزيك الشعر. انها وسيلة تحرر الروح الشامل، وكل ما يشابه هذه الروح... اننا مصممون على القيام بثورةquot;. وفعلا، ما ان اعلن عبدالكريم الخطابي حربه على الاستعمار الفرنسي للمغرب (منتصف عام 1925 )، حتى اصدر السورياليون بيانهم الشهير: quot;الثورة أولا ودائماquot; معلنين فيه مساندتهم الكاملة لتمرد الريف المغربي من اجل حريته وحقوقه العادلة. في الحقيقة ان ثورة عبدالكريم الخطابي اوجدت فرصة لتكاتف قوى المخيلة وقوى الخبز. فها هي الحركة السوريالية تعمل مع قوى اليسار الاجتماعي. غير ان الذي ضاعف من رغبة بروتون بربط بحث السوريالية quot;المثاليquot;، في نظر البعض، بالبحث الاجتماعي، هو كتاب تروتسكي عن quot;لينينquot;. اذ بفضل هذا الكتاب، ادرك بروتون ان المخيلة لا تستطيع الحصول على كل حقوقها الا من خلال نشاط اجتماعي ثوري بالمعنى الذي وضعه تروتسكي فجاءت مقالته عن الكتاب تمجيدية راسما فيها الشيوعية quot;الاداة المدهشة لتبديل عالم بآخرquot;. انضم بروتون الى الحزب الشيوعي، لكنه سرعان ما تركه مشمئزا من سوء نوايا الشيوعيين ازاء عملية الخلق، وقد أوضح اسباب خروجه في كراس عنوانه quot;الدفاع المشروعquot; مؤكدا فيه ان جميع السورياليين يريدون انتقال السلطة من ايدي البورجوازية الى ايدي البروليتاريا. لكنهم حاليا يرون انه من الضروري ان تستمر تجارب الروح الداخلية من دون رقابة خارجية، ماركسية أو غير ماركسية. كما ان اخبار المعارضة التروتسكية داخل الشيوعية العالمية، ساهمت في تصعيد الانشقاق بين هذه quot;الشيوعيةquot; ذات الوجه الستاليني، وبين الحركة السوريالية التي ستكتسب من خلال دفاعها عن تروتسكي quot;شرعية ماركسيةquot;. غير ان هذا البحث عن توحيد شعار رامبو: quot;تغيير الحياةquot; بشعار ماركس: quot;تغيير العالمquot;، لن يمر من دون انشقاقات داخل السوريالية. لذا اصدر بروتون quot;بيان السوريالية الثانيquot; واضعا فيه النقاط على حروف النشاط السوريالي الذي يكمن محركه الاساسي في الامل بتحديد نقطة معينة للفكر حيث تكف التناقضات كتناقضات، والذين اختلفوا مع بروتون كديزنوس وجاك بارون وبريفيرو جورج بتاي اصدروا نشرة من الحجم الكبير ضد بروتون بعنوان quot;جثةquot;، لكن بروتون اكتفى برد صغير نشر في خاتمة quot;البيان الثانيquot; في صورة عمودين متقابلين، مبينا عدم صدقيتهم: الأول تحت عنوان quot;قبلquot; وردت فيه فقرات مدح لبروتون من كتاباتهم القديمة، والعمود الثاني تحت عنوان quot;بعدquot; ضم فقرات هجاء مأخوذة من نشرتهم هذه. اما الاخرون كلوي اراغون وبول ايلوار وبنجاما بيريه ورونيه كريفيل، وحتى تريستان تزارا، وعناصر جديدة كسلفادور دالي ورينيه شار ولوي بونويل، فانهم ايدوا ما جاء في quot;البيان الثانيquot;، واصدروا مع بروتون مجلة جديدة عنوانها quot;السوريالية في خدمة الثورةquot;. هكذا كان على السوريالية ان تدشن ثلاثينات هذا القرن بمجابهة ثورية واضحة مع كل مظاهر القمع... لكنها مجابهة لم تتم على حساب تجارب الحياة الداخلية. ان فترة الثلاثينات تمثل اكثر فترات بروتون ابداعا فقد أصدر عام 1932 مجموعته الشعرية الثالثة: quot;مسدس ذو شعر أبيضquot;، ثم الحقها في العام نفسه بكتاب تأملي يهدف الى الربط بين الماركسية والفرويدية :'الاواني المستطرقة '. وفي عام 1937، اصدرquot; quot;الحب المجنونquot; الذي يعتبر التوسيع النظري لتلك النقطة المعينة للفكر المذكورة في quot;البيان

في بيته متحف الحاسة التشكيلية عبر نضالها

الثانيquot; والتي سماها هنا بالنقطة العليا. وفي هذا الكتاب ثمة ابتعاد في الاسلوب عن quot;نادجاquot;، اذ تختلط هنا عناصر السرد المعتمدة على تجارب حياتية عاشها بروتون ما بين 1934 و1936، بلغة التأمل النظري، ان كتاب quot;الحب المجنونquot; يعتبر اعظم نشيد احتفالي بـquot;الحليف الاكبر للانسان في معركته مع القدر البشريquot;: الحب، حيث المرأة االمحبوبة أشبه بالوسيط تجترح للرجل الدرب المؤدي الى علاقة محظوظة مع عالم تمجده وتكسبه روعة وجمالا وثمة عملان جماعيان الاول مع بول ايلوار: quot;الحبل بلا دنسquot;، والثاني مجموعة قصائد اشترك في كتابتها مع ايلوار ورينيه شار، وعنوانها: quot;تمهل، الطريق تحت التعميرquot;. كما اصدر quot;الموقف السياسي للسورياليةquot;. وأشرف على تنظيم ثلاثة معارض سوريالية عالمية في باريس وبراغ ولندن. واشترك مع جورج بتاي في تكوين: 'الهجوم المضاد 'لمواجهة المخاطر اليمينية والفاشية والستالينية معا. فبروتون يعتبر من أول منيطي اللثام عن الحقيقة البشعة لـquot;محاكم موسكوquot;، على ان فترة النضال والتحليل السوريالي لظروف ما بين الحربين هذه، توجت بالبيان المشترك الذي كتبه بروتون مع تروتسكي: quot;نحو فن حر ومستقلquot;. اندلاع الحرب العالمية الثانية، سيعرقل موقتا، نشاط الحركة السوريالية، فلم يكن امام بروتون سوى الذهاب الى الولايات المتحدة ليتابع النشاط هناك. فأصدر مع دوشان مجلة، ومن ثم نشر quot;تمهيدات أولى نحو بيان ثالثquot;. وفي قمة وحدته بعد ان تركته زوجته جاكلين لومبار، التقى اليزا فتزوجها، وثمرة هذا اللقاء كان كتابه الشهير quot;اركانوم 17quot; وهو رقم الكارت في لعبة التارو، ثم يعود الى باريس لينظم معرضا سورياليا عالميا تحت شعار 'السوريالية عام 1947 'ويعيد تنظيم المجموعة السوريالية مع شباب جدد. غير ان ظروف ما بعد الحرب تميزت بالتشاؤم، ولم تعد ملائمة للغة التفاؤل الثوري الذي بقي بروتون مؤمنا به. فأصدر مع جان شوستر وآخرين عددا من المجلات كـquot;ميديومquot;، quot;السوريالية ذاتهاquot; و'لابريشquot; وبيانات تندد بالغزو السوفياتي للمجر والاستعمار الفرنسي للجزائر.

توفي اندريه بروتون في الثامن والعشرين من ايلول (سبتمبر )1966. ودفن في مقبرة باتنيول. أراد السورياليون نقل جثمانه في سيارة نقل الاثاث لتحقيق أمنيته المذكورة في البيان الأول. الا ان الامر كان صعبا جدا، لذا تولت الصدفة الموضوعية أمر تحقيق هذه الامنية على الشكل التالي: ما ان وصل جثمانه مقبرة باتنيول، حتى وجد المشيعون سيارة لنقل الاثاث واقفة عند مدخلها!

لم يُضح اندريه بروتون باليقظة في سبيل العلم، بل عمد الى اذابتهما في مركب جسدي حي، على حد عبارة ميشيل كاروج وهو جعل من التراث السوريالي ذخرا بشريا لا ينضب. وذلك باعطاء الحركة السوريالية مصيرا أشبه بمصير مال توزع على عدة ورثة بحيث عمد كل منهم الى التصرف بحصته تبعا لهواه، ولأنه عاش من دون تنازل

المجلة التي كان يشرف عليها: quot;السوريالية، عينُهاquot;
لمغريات عالم تتبوأه الشراهة والكذب والاعجاب بالذات. عالم تنعدم فيه ابسط مبادئ النزاهة الفكرية والحياتية على السواء. يكمن في صلب رؤية بروتون الشعرية الرفض القاطع لكل تواطؤ مهما كانت الجائزة أو الشهرة الجماهيرية الذي يوفرها هذا التواطؤ للمتواطئ. فبروتون لم يسع أبدا لا إلى اعتراف الوسط الأدبي به كشاعر، ولا الى نيل جوائز المؤسسات ولا أن يكون له جمهور مخدّر بعقاقير الأسماء. فالشعر، في نظره، ليس حسابات وقصدية بقدر ما هو عينعفوية الإنسان الملازمة،يحركها منطق داخلي صارم تتجلى صورا شعرية ليس العقل هو الذي يرتكبها بقدر ما تفضي هذه الصور بالعقل إلى قبولها وبالتالي تحريره من العقلنة المفروضة عليه. من خلال هذا الالحاح الأخلاقي والجمالي الذي كان يجسده بروتون، اصبحت السوريالة اعلى مراحل الأدب وفي الوقت ذاته هي الرفض المطلق لكل ما هو quot;أدبيquot;.
بروتون بهذا المعنى التغييري انطوى على ايمان لم يتزعزع برهة، باعظم حاسة تساعد الانسان على استرداد طاقاته المسلوبة: حاسة الشعر، فالشعر، في معناه السوريالي (والكلام هنا لجان لوي بدوان )، لا يبعدنا عن الواقع، والشعر يحتم علينا رؤية الاشياء كما هي ليشحذ عزيمتنا على تغييرها وتحويلها الى ما هو أفضل. فهو اذن تمرد وقانون :تمرد مطلق وقانون أعلى. يرفض فوضى الاوضاع وحتميتها المزعومة، ويدعو الى العمل من اجل احلال الحرية التي هي ضد الفوضى والتفسخ الخلقي والعنف.