&بعد سنوات على رحيل نيلسون مانديلا أعظم شخصيات التاريخ التي غيرت وجه أفريقيا يبقى حلم تكرار تجربته النضالية والإنسانية متواجداً في عقول السياسيين الباحثين عن تسجيل أسمائهم في التاريخ كصناع سلام وحرية.

تجربة الزعيم الأفريقي تبقى نادرة الحدوث والتكرار لأن مانديلا حول سنوات السجن الطوال لتكون مرحلة للصفاء النفسي وإعادة قراءة الأحداث وصياغة رؤيته ومواقفه السياسية بعيدا عن الإصرار على منهج واحد في التعامل مع الواقع، والبقاء ثابتا لا يتزحزح لتحقيق حلمه بحرية بلده ونهاية زمن الميز العنصري البغيض.

لم يستوعب الكثيرون أن تكرار نضال الزعامات التاريخية عسير وغير ممكن لاختلاف الواقع والرؤى والظروف، وتجربة نيلسون مانديلا لم تكن فقط في صموده في السجون لسبع وعشرين عاماً في زنزانة منفردة بل بقدرته بعد خروجه في قيادة مصالحة تاريخية وسلام عميق بين نظام جسد أسوء أشكال الميز العنصري طوال عشرات السنين وضحاياه، واللحظة التاريخية التي قادها عندما لم يسمح لتيار الحقد والانتقام المتجسد بقوة على الأرض أن يخرج ويتمادى بل وقف بوجهه بكل قوة داعياً لمصالحة حقيقة بين متناقضات يفرق ما بينها الكثير ويجمع بينها القليل.

مانديلا اعتبر أن حلمه تحقق بعد نجاح بلده بالسير نحو المصالحة وتجسيد الديمقراطية بكل معانيها على الأرض ولم يحتاج رغم كل ما وفرت له الظروف من إمكانيات للانتقام أو التشفي ممن وضعوه لأكثر من ربع قرن في زنزانة ذاق فيها أقسى درجات التنكيل والعذاب.

في تونس يحاول المنصف المرزوقي زعيم "حراك شعب المواطنين" أن يتشبه بالزعيم الأفريقي العظيم رغم أن مسار الرجلين متناقض تماماً لكن رمزية نضال مانديلا تجعله رمزا لأحلامه التي يحاول تجسيدها على الأرض.

التناقض في الرؤى والمسارات ينطلق من البداية فالزعيم الأفريقي قضى جزء طويلاً من سنوات عمره في السجن صامداَ لم يهتز، بينما أصاب الانهيار العصبي المنصف المرزوقي بعد قضائه أيام قليلة في سجون نظام بن علي ليرحل بعدها إلى فرنسا أين قاد حرباً عبر وسائل الاتصال ضد النظام.

نيلسون مانديلا بعد خروجه من السجن دعا لمصالحة تاريخية مع نظام تجاوز الديكتاتورية إلى الميز العنصري، ونجح في إنجازها وجنب بلاده منزلق العنف والانتقام والتشفي وهذا ما جعل العالم أجمع يقف احتراماً لقائد تاريخي تحمل الظلم وصنع السلام وهذا ما صنع الفرق في شخصيته مقارنة بالأخريين.

المنصف المرزوقي عاد لتونس بعد سنوات غربة في باريس لم تمنحه سوى مزيدا من التشنج في الخطاب والرغبة في رد الفعل تجاه كل من اتهمهم أنهم كانوا ضده وتجاوز عددهم عشرات الآلاف اعتبرهم أعدائه وخصومه وسعى للتشفي منهم والانتقام لو أتيحت له الفرصة لذلك.

في كتابه الأسود الذي نشر عندما كان رئيساً مؤقتاَ لتونس جسد المرزوقي رغبة دفينة سيطرت عليه بالانتقام والتشفي من الإعلاميين الذين اعتبرهم أعدائه، ومحتوى الكتاب الصادر عن رئاسة الجمهورية يعكس كيف يفكر وماذا يريد.

بعد خروجه من الحكم الشيء الذي لم يستسغه بالمطلق الرئيس المؤقت الأسبق المنصف المرزوقي والذي حاول الإيحاء بتزوير الانتخابات وفشل في ذلك لأن العالم أجمع شهد بنزاهتها وشفافيتها، وبدل التعلم من الكبار واجتياز المرحلة بصمت أصر وبطريقة تعكس شبقاً للسلطة بالدخول في متاهات كان الهدف منها أن يقول للجميع انه مازال موجوداَ.

متاهة البحث عن إثبات الذات قادت "حراك شعب المواطنين" للبحث في عن أي قضية ليركب عليها من البحث عن البترول المفقود في تونس إلى قيادة أسطول الحرية لكسر الحصار عن غزة، لكن هذه التحركات التي لم تخرج من محاولة رد الفعل كتب عليها الفشل وتاه المرزوقي مرة أخرى في البحث عن دور جديد يستعجل تقمصه.

المرزوقي لم يفهم أن التسامي عن الجراح أهم بكثير من النبش فيها، ورجل السياسة الذي يضع الانتقام من الماضي أمامه لن يكتب له أن يشارك في صنع المستقبل والزعامة أن تمتلك مشروعاَ واضح المعالم للمستقبل وليس أن تكون أداة في مشروع لأطراف أخرى لا تملك فيه غير الظهور وتنفيذ المطلوب.

في خضم صراعاته التي لا تنتهي لم يكتف زعيم "حراك شعب المواطنين" بالعراك مع كل من يختلف معهم سياسياً بل انتقل للانقلاب على رفاق الدرب وأصدقاء الأمس وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي الذي أوصله ليكون رئيساً مؤقتاً لتونس وأدخل حزبه للمشاركة في الحكم انقلب عليه وصار خصمه اللدود بعد هزيمة المرزوقي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، مما يعكس أن الرجل تمادى في فهم البراغماتية السياسية إلى أن أضاع كل تفاصيلها.

بين شخصيتي مانديلا والمرزوقي تناقضات لا تنتهي لأن الرجلين من طينتين مختلفتين، الأولى تؤمن رغم كل ما تعرضت له من ظلم يفوق الوصف والتحمل بأن التسامح أكبر من الخطأ ومن يريد المستقبل لا ينظر لأحقاد الماضي، والثاني لا يرى الناس إلا من باب دفع ثمن ما ارتكبوه بحقه طالما لم يقدموا ولاء الطاعة.

نيلسون مانديلا والمنصف المرزوقي رغم كل الاختلافات بين الشخصيتين تجمع بينهما حقيقة واحدة أنهما ولدا على هذه لأرض، ودون ذلك فهو السراب.