تعرضت في مقالات سابقة، إلى بعض الالتباسات التي تحيط بمسألة تجديد الخطاب الديني، وذكرت أن هناك دعوات حثيثة ومستمرة لتجديد الخطاب الديني، وهذا امر مفهوم بحكم الحاح الموضوع وأولويته ضمن القضايا الملحة على اجندة العمل الوطني في العالمين العربي والإسلامي خلال المرحلة الراهنة. ومن من خلال متابعة مايستجد في هذا الملف تحديدا، وجدت أنه لا تقدم يذكر على صعيد تجديد الخطاب الديني او حتى تطويره أو حلحلته من حالة السبات العميق التي يعانيها منذ قرون وعقود مضت، ولهذا برأيي أسباب عدة تقف وراء حالة الجمود والاكتفاء بالضجيج من دون طحن في هذا الموضوع الحيوي.
من المتفق عليه منهجيا وعلميا، أنه من الصعب إحداث اختراق أو تقدم نوعي يترجم الأفكار إلى خطط ورؤى وتصورات واستراتيجيات من دون خارطة طريق واضحة ترسم الأهداف وتتحدد خطوات العمل ومساراته وتبلور البدائل التي سيتم النقاش حولها وصولاً إلى الخطط والاستراتيجيات النهائية للعمل، ولأنه لم يبذل أي جهد يذكر تقريبا على أي مستوى من هذه المستويات من جانب المؤسسات الدينية المعنية في المقام الأول بتجديد الخطاب الديني فسنظل نراوح المكان خلال المدى المنظور.
مسألة تجديد الخطاب الديني ليست مجرد أفكار تطرح أو اجتهادات تتمحور حول حرق الكتب والتخلص من كثير من الأفكار التي تم حشو المناهج الدراسية بها، ولا هي أيضا خطط للعمل في اتجاه مضاد عبر نشر الثقافة وترقية الذوق الفني وغير ذلك من اتجاهات يروج لها الكثير من اصحاب القلم من المثقفين والنخب الأكاديمية، بل هي جهد متكامل ويتطلب طاقات هائلة على المستويات كافة من أجل إعادة قراءة التراث وفهم جذور التطرف وتتبع مساراته.
تجديد الخطاب الديني يحتاج أيضا ـ برأيي المتواضع ـ إلى مبادرات مؤسسية وليست تكليفات رسمية، فالتجديد المنشود ذا علاقة وثيقة بالبحث العلمي وما يبذل على صعيده من جهود للباحثين والمؤسسات وما يرتبط بذلك من تمويل ومخصصات مالية تدعم الجهود على هذا الصعيد وتضمن استمرارها، ومن دون ذلك سيظل أي جهد يبذل ليس سوى محاولات فردية مشتتة ومتفرقة وربما لا تصب في سلة الهدف المرجو بغض النظر عن فاعليتها وايجابيتها وجدية القائمين عليها، وهنا يبرز دور الجهد المؤسسي ليس على مستوى الدولة الواحدة فقط بل على مستوى العالم العربي والإسلامي ككل، حيث يفترض أن توضع خطط متكاملة بأمدية زمنية مناسبة وباحثين أكفاء ذوي علم حقيقي لتحريك المياه الراكدة في مسألة الخطاب الديني منذ عقود وقرون مضت، وبما يضمن استئصالا فعليا لجذور التطرف وفق منهجيات موضوعية متفق عليها بين الفقهاء وعلماء الدين الحقيقيين، وبما يحقق هدف استعادة زمام المبادرة من التيارات الدينية المتطرفة التي لا تزال تحتكر الحديث باسم الدين في مناطق ودول شتى.
أخشى ما أخشاه أن يرتبط تجديد الخطاب الديني بواقع البحث العلمي المهترىء في عالمنا العربي، وهذا الواقع البائس لا يخفى على أحد بل هو أحد الأسباب التي تغذي انتشار التخلف والجهل وأشباه العلماء من منظري التيارات المتطرفة، فالاجتهاد والبحث العلمي في مجال العلوم الشرعية والفقهية هو أحد مجالات البحث العلمي التي تعاني الاهمال والتهميش والتراجع في العالم العربي، وبالتالي سيبقى هذا الوضع ما لم تتغير معطيات هذا الواقع وينتبه المعنيون إلى ضرورة تشجيع البحث العلمي الجاد بما يكفل دفع الجهود الحقيقية للاجتهاد والتطوير سواء في العلم الشرعي أو بقية علوم الحياة المعاصرة، باعتبار ذلك كله منظومة متكاملة.
إحدى أهم التحديات التي تواجه تجديد الخطاب الديني أيضا تتمثل في ضرورة التوفيق بين ماضي الأمة الإسلامية وحاضرها، بحيث يضمن التجديد استمرارية الروح في جسد هذه الأمة من دون انقطاع ومن دون توفير الحجج للمتطرفين للزعم بأن التجديد يستهدف القطيعة مع الماضي، أو التوجه نحو العلمنة أو غير ذلك من إشكاليات تثير الغبار حول خطوة ضرورة ولازمة من أجل تلمس طريق نهضة حضارية منشودة لأمة تعاني ويلات التخلف والتطرف والارهاب وفحيح الأفاعي التي تروج لرؤى وتصورات لا أساس لها في الدين الإسلامي الحنيف.
من الضروري أيضا الانطلاق من أن تجديد الخطاب الديني لا يرتبط باستمرار خطر تنظيمات الارهاب مثل الاخوان المسلمين أو "داعش" أو "القاعدة" أو غيرها، بل يرتبط بالتخلص من الجذور الكامنة التي تنتج هذا الفكر المتطرف، والقضاء عليها تماما، وهذا هو جوهر التخطيط الاستراتيجي وليس العمل على معالجات تكتيكية لتحديات طارئة مهما كانت خطورتها وتأثيراتها المتوقعة، فالقضاء على الجذور كفيل بسقوط الفروع وتداعيها مهما حاولت الثبات والمقاومة.
&