"أكلّما ضحكتْ بنفسجةٌ نسيتُ حدودَ قلبي؟."&(محمود درويش)
&
كلّ شيء ممكن في مراحل الإنتقال. ولادة زهرة برّية على الحافّات الحادّة للصخور، أو سقوط نجم مضيء في بحيرة من الوحل والطين والغبار. هي المرحلة الأكثر إلتباسا في تاريخ المجتمعات، وهي الأكثر وضوحا لأفراد معدودين بعينهم يدركون بالخبرة التاريخية فقط، تلك الفوارق الشاسعة بين المُمكن والمستحيل.
&الجموع في كلّ مكان وزمان، تميلّ لكاريزما القائد ـ المنقذ. وهو في الحقيقة ليس أكثر من شرط من بين شروط أخرى، تحدّث عنها عالم الإجتماع الألماني "ماكس فيبر". الكاريزما المسلوبة من شرطها الإنساني الأول، هي التي خلقت لنا ومن بيننا قادة القطيع.&
شهدنا ولادة الأمّية، وشهدنا صعودها وإرتقائها في الخطاب السياسي وفي الحياة السياسية الموعودة. وكنّا أكثر من ساذجين حين إعتقدنا أنّ الديكتاتورية هي مجرّد صفة شخصية تتعلّق بالديكتاتور ذاته أو بطائفته ذاتها أو بالمنطقة أو بالحزب الحاكم. وكم كنّا مستسلمين كضحايا خرساء ومطمئنّة على مصيرها دون أن ندري بأنّنا نسير طواعية بإتّجاه المذبح. قسوة السفّاح وسذاجة الضحية مَهّدا معا، للإستهتار السياسي، ولإنعدام الشعور بالمسؤولية وغضّ البصر عن مراجعة الذات وتصحيحها للتصالح معها قبيل وضع أيّ حجر يؤسس للسلم الأهلي، ولأيّ بناء جديد موعود كان يعدنا ببيت دافئ سيحتضن الجميع .
&هرم الأكاذيب السياسية لم تكن سوى كلمات عابرة مرّت بسرعة البرق على العابرين. بَنت لهم ولنا بيوتا في الفراغ. بيوت على سطح الماء حالما " هَدّمها الجذفُ كي لا يتمَّ البناءُ ". الصرح العالي للوعود لم يكن لنا &سوى "صرحا من خيال فهوى". البنى الجديدة لا تُبنى عن طريق الأحجار القديمة. القديم سيتوالد حتما إن لم يُولد الجديد الذي يُقصيه. الزمن لا يرحم الغافلين. وهو ليس كريما ولا مفتوحا كما يظنّ البدوّي القابع في أعماق مدنيّتنا المزيّفة. إن كان كتاب الله تعالى، قد أربكنا منذ قرون، وإنقسمنا حوله في التفسير والتأويل الى شيع وأحزاب ومذاهب وطوائف تذبح بعضها بإسم الله الواحد، فكيف الحال حين يتعلّق الأمر بالمفاهيم والقيّم الحديثة من دستور وبرلمان ومن حقوق وواجبات ومسؤوليات تجاه المجتمع؟.
المتحمّسون من سريعي التحمّس والتنظير لما هو غير قابل للتنظير والإدراك، يخرجون علينا اليوم بإطروحات &تافهة حول اليسار الجديد تذكّرني بالبقرة المطمئنة قبيل ذبحها. اليسار الطامح لضمّ قواعده المُنتفضة منذ 2011 مع قواعد التيار الصدري التي دخلت مؤخرا على خطّ الأحداث دون تفسير مقنع للكثيرين من المتابعين تُذكرني أيضا بسنوات ماضيات، وبأخطاء سابقة. الأسئلة حول كيف &ولماذا ومتى ؟. هي أسئلة مؤجلة لا ينبغي طرحها لحين يظهر الظالم من المظلوم.
&قد يطول الأمر مثلا حتى ظهور "المهدي المنتظر". لم لا؟. فلا تزال أيام الله بعيدة. ولا يزال العراق أو ما تبقّى منه يتشبّث بمشروع إنقاذ وطني، ولكنّه ليس بحاجة ماسّة لطوق النجاة من القراصنة. كفانا من الخداع الذي لم يعد ينطلي علينا بعد أن سقطت أجسادنا العارية على أشواك الحياة ونزفـت حتى قطراتها الأخيرة من دماء كان لونها مشابها للدماء التي تجري في عروق البشر.
&وقد تكون بالصدفة من نفس فصيلة الدماء، سواء &في الحرب أو في السلام. ولكنّها حسب الثوّار الجدد الذين سيبلعون ثورة البؤساء، لا تحمل أبدا نفس الجينات. فجينات السادة ليست هي جينات العبيد، جينات آل البيت هي ليست كمثلها عند أهل الصرائف. تحيا المواطنة إذا. ولتحيا البلازما والكريات الحمر والبيضاء وليحيا محمّد علي كلاي وعبّاس الديك. وليسقط تروتسكي &وبليخانوف وطريق التطوّر اللأرأسمالي. &المؤمنون حين يكونون درجات سيتناغمون ربّانيا مع آلهة العولمة المتوحشة للحقل السياسي الراهن. "كلّا ...وكلّا..." لن تكون شعارا سوى لتنظيم مطبخ &في حسينية صغيرة بمستوى التفكير المحدود للقائل والمستمع. &قيمة الحياة كانت وسوف تبقى هي قيمة أعلى وأبعد من ذلك بكثير. عالمنا مختلف شكلا ومضمونا ولا مجال للتسوية حوله. التسوية والتفاهم والإتفاق ستكون مقبولة ومعقولة حين يكون العالم الجامع لنا في الإنسانية ليس بشعا لهذا الحدّ من البشاعة.
&غدا سوف نلتقي مرّة أخرى على ضفاف الدماء القادمة، وحينها سوف أصلّي وحيدا وبعيدا عنكم على أرواح الأحياء الذين مازالوا بالنسبة لكم أرقاما مؤجلة في قائمة الموتى القادمين. ضحايا النظريات الساذجة وضحايا نرجسيات الصعاليك الصغار الذين يحلمون بالمستحيل، وضحايا الذين لم ولن يصبحوا ملوكا إلّا في المرايا المهشّمة. قد يصبحون ملوكا دون رعية حين تكون القبور هي أرض الميعاد، وحين يكون السلام المُنتظر على أياديهم قادما كسلام المقابر، وكنداء الموت الذي يستدّعي ما تبقّى من جثث متجوّلة في طرقات وأحياء المدينة، ويطلق الرصاص على العصافير والأعشاش والأطلال والذكريات، وعلى أزقة وحواري الجيران الذين طالما تقاسمنا معهم المحبّة وكسرة الخبز ودمعة الحزن دون أن نعرف ولا أن يعرفوا طوائفنا ومذاهبنا، وإن عرفوها فهي لم تكن يوما أقوى من إلتصاق الحائط &بالحائط. وما كان فيه من قصص حميمية صغيرة كأسرارنا الصغيرة المخفية الى الأبد، وقصص أخرى كبيرة وعميقة كالبحار والمحيطات لم يشأ يوما عارفوها الإعتراف إلّا أمام جلالة الله. الرهان الحقيقي على ذلك الحنين وعلى تلك البساطة الفطرية التي لايمكن أن تبتلعها الوحوش. وحوش الدين والدنيا لها أجواف مفتوحة لا تشبع أبدا من دماء أبناء جنسها، حنين الغرباء والفقراء لوطن مشترك هوعابر للقرون. سيقهرهم غدا حين نلتقي.
&
باريس
&
&