لقد انقطعت عن الكتابة حوالي ستة شهور بعد أن انتهت مهمتي كسفير لمملكة البحرين في اليابان، وبعد أثنى عشرة سنة قضيتها في اليابان، وكتبت خلالها أسبوعيا مقالات، من مفكرة سفير عربي في اليابان، والتي نشرت في صحيفة أيلاف اللندنية الإلكترونية، وصحيفة اخبار الخليج البحرينية، كما نشرت بعضها بصحيفة الأهرام العربي الدولية. ومع شهر ديسمبر الجاري انتهت مهمتي مع وزارة الخارجية البحرينية، لينتهي معها خمسة وأربعين عاما من العمل في المجالين الحكومي والاجتماعي، بدءا من طبيب اطفال، وحتى استشاري جراحة الأطفال، ولأستاذ مشارك للجراحة بجامعة الخليج العربي، وحتى رئيسا لجمعية الأطباء البحرينية، ومنها إلى وزيرا للصحة، ولتنتهي تجربتي بسفير لمملكة البحرين في اليابان، وليشرفني أيضا جلالة ملكنا المفدى، بوسام الدرجة الأولى لمملكة البحرين.&
&
وقد نصحني الكثير من الأصدقاء بأن اجمع مقالات، من مفكرة سفير عربي في اليابان في كتاب، يستفيد منه المواطن العربي في معرفة أسباب نجاح التجربة اليابانية، ومع محاولة الاستفادة منها للتعامل مع التحديات المتعددة في منطقة الشرق الأوسط، وبالأخص في وطننا العربي الكبير. وكنت محتارا فيما يجب أن أقوم به في هذه المرحلة من حياتي، التي تجمع خبرة تجربة الحياة، وتفهم تحديات أخطائي التي تعاملت معها، والتي عادة تستخدم لها كلمتين مهذبتين جميلتين، الخبرة والحكمة. وهنا أريد ان أؤكد بأن طوال هذه الفترة من حياتي العملية، اعتبرت من يعتبرهم الآخرين "أعداء"، بعد أن أثبتت التجربة لي، بأنهم خير "الأصدقاء"، لأنهم ينتقدون عملي، فيساعدوني على اكتشاف أخطاءه، والوقاية من تكراره، وبذلك ساعدوني، بطريقة غير مباشرة، ان أتعلم تجنب الخطأ بقدر ما أستطيع، بل كانوا سببا مهما لكل ما حققته من نجاح، فلهم جزيل الشكر والتقدير.&
&
وقد اخرجني من حيرتي هذه، أولا، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، سعادة السيد رونالد ترامب، حينما أعلن بحسابات سياسية ودبلوماسية ذكية،& بأنه سينقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى مدينة القدس، بدون أن يحدد وقت الانتقال، والذي قد يحتاج لسنوات طويلة، ولربما حتى نهاية عهده، مع تعين الرئيس الأمريكي القادم. وطبعا وافق على هذا القرار البرلمان الأمريكي بشقيه سابقا، كما أكده الرؤساء الأمريكيون السابقون في حملاتهم الانتخابية، ولكنهم لم ينفذوه. وفي الواقع الذي دفعني مجددا للكتابة، هو الانفعالات والحوارات التي طرحت في مجتمعات، وبرلمانات، وصحف وطننا العربي. وثانيا، فمع هذه المناسبة وانفعالاتها، لفت نظري كتاب بعنوان، العرب من وجهة نظر يابانية، والذي كتبه في بدايات القرن الواحد العشرين، أستاذ ياباني من جامعة طوكيو، والذي درس اللغة العربية وتاريخ العرب، وعاش في كثير من الدول العربية كمصر وسوريا والاردن، وترجم كثير من الكتب العربية إلى اللغة اليابانية، وهو الأستاذ، نوبواكي نوتوهارا.
&
ولذلك قررت أن أبدأ كتابة سلسلة من المقالات احتراما وتقديرا لهذا الاستاذ الياباني الجليل على جهوده لتعريف اليابانيين على الوطن العربي الكبير وشعوبه المتنوعة، لكي أعرفه وأعرف شعب بلده على وجهة النظر العربية عن اليابان المتناغمة الجميلة، وبعنوان، اليابان من وجهة نظر عربية. وفي هذه التجربة الصحفية الجديدة، سأحاول ان أعرض كثير من المعضلات والتحديات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدبلوماسية التي تعاني منها شعوب منطقة الشرق الأوسط، وأعني هنا بمنطقة الشرق الأوسط، وطننا العربي الكبير وتركيا وإسرائيل وإيران، وأقارنها بالتجربة اليابانية، وكيف استطاع اليابانيون التعامل معها بنجاح، وكيف يمكن لشعوب وقيادات منطقة الشرق الاوسط الاستفادة من هذه الخبرات والتجارب اليابانية، للتعامل مع التحديات المعقدة التي يعانون منها، وبنجاح، مع تجنب الحروب المتكررة، والانفعالات وخططها المدمرة.
&
&ومع أنه كان لرجال الجيش في وطننا العربي دورا مشرفا في الاستقرار، والوقاية من انتشار السرطان الثيوقراطي الدكتاتوري المدمر في منطقة الشرق الأوسط، بعد ما سماه مفكرو الغرب بالربيع العربي، وخاصة في جمهورية مصر العربية ومملكة البحرين الجميلة، ولكن بين الأستاذ نوبواكي نوتوهارا في مقدمة كتابه، العرب من وجهة نظر يابانية، تجربة مغايرة في يابان ما قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، ليقول: "واجه اليابانيون تجربة صعبة ومريرة، فقد سيطر العسكريون على الامبراطور وسلطة الشعب، وقادوا البلاد إلى حروب مجنونة، ضد الدول المجاورة، وانتهى الأمر بتدمير اليابان من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، في نهاية الحرب العالمية الثانية. فقد حدث هذا في تاريخنا القريب، ودفع الشعب الياباني ثمنا باهضا، ولكننا وعينا لخطئنا، وقررنا أن نصححه، فابعدنا العسكريين عن السلطة، وبدئنا نبني ما دمره التدخل العسكري. وقد عانى اليابانيون كثيرا لكي يخرجوا من هذا الخطأ، واستغرق ذلك أكثر من عشرين سنة. ومن المعاناة نفسها تعلمنا دروسا، أظن بأن الشعب الياباني لن ينساها، تعلمنا بأن القمع يؤدي إلى تدمير الثروة الوطنية وقتل الأبرياء، كما يؤدي إلى انحراف السلطة عن الطريق الصحيح، والدخول في ممارسات خاطئة باستمرار."
&
ويستمر الكاتب في مقدمة كتابه فيقول: " المهم بأننا وعينا لخطئنا أولا، ثم عملنا على تصحيح الخطأ، وهذا كله احتاج لتضحيات كبيرة ولسنوات طويلة. فقد كان علينا ان نعي قيمة النقد الذاتي قبل كل شيء، وبدون إنجاز النقد الذاتي بقوة، لا نستطيع أن نجد الطريق لتصحيح أخطأنا. وأضيف هنا بأن الإنسان يحتاج إلى النقد من الخارج ومن الداخل أيضا... وفي رأيي بان الشخصية أو الحزب السياسي أو الهيئة الاجتماعية التي لا تقبل النقد الذاتي تنحط وتتدنى حتى تصل يوما إلى الحضيض."
&
وهنا يعرض الكاتب حيرة العرب من تعامل اليابانيون مع الولايات المتحدة الأميركية فيقول: "كثيرا ما واجهت هذا السؤال في الدول العربية: لقد ضربتكم الولايات المتحدة بالقنابل الذرية، فلماذا تتعاملون معها؟ العرب ينتظرون من اليابانيين عداء عميق (وانتقام) للولايات المتحدة الأمريكية، لأنها دمرت المدن اليابانية كافة. ولكن طرح المسألة بهذه الطريقة (الانفعالية) لا يؤدي إلى شيء، علينا نحن اليابانيين ان نعي لأخطأنا في الحرب العالمية أولا، ثم نصحح هذا الأخطاء، لأننا استعمرنا شعوبا آسيوية كثيرة ثانيا، وأخيرا، علينا أن نتخلص من الأسباب التي أدت للقمع في اليابان. إذا المشكلة ليست في أن نكره أمريكا، المشكلة أن نعرف دورنا بصورة صحيحة، ثم أن نمارس نقدا ذاتيا بلا مجاملة لأنفسنا، بعد ذلك نختار الطريق الذي يصحح الانحراف، ويمنع تكراره في المستقبل. أما المشاعر (والعواطف والانفعالات) نفسها، فهي مسألة شخصية محدودة، لا تصنع مستقبلا. ومن هذا الموقع نفهم مأساتي هوريشيما ونجزاكي.& فنحن اليابانيين نفهم القاء القنبلتين النوويتين مرتبطة بأخطائنا التي ارتكبناها في الحرب العالمية الثانية وقبلها."&
&
وهنا قد نحتاج عزيزي القارئ طرح الأسئلة التالية: ما هي قضية العرب الأولى، هل هي التحديات التعليمية والأخلاقية والاقتصادية؟ وما هو عمق الصراع العربي الاسرائيلي؟ ولماذا لا ينتهي هذا الصراع؟ ومن المسئول عنه؟ ومن الذي يغديه؟ ومن يستفيد منه؟ وهل استفدنا من التجربة اليابانية للتعامل بعقلانية مع هذا الصراع بدون انفعال أو انتقام؟ وهل نظرية النقد الذاتي مهمة لخروج المواطن العربي من سجن عواطفه السلبية المدمرة؟ وهل فلسفة "الهونه" و"التاتامايا" اليابانية مهمة لإنهاء هذا الصراع، لتتفرغ أخيرا قيادات وشعوب وطننا العربي الكبير، بل وجميع شعوب منطقة الشرق الأوسط وبدون استثناء، وبجميع اعراقه، وعقائده، وطوائفه، وأديانه، ومذاهبه، لبناء مستقبل أجيالنا القادمة؟ ولنا لقاء.

د.خليل حسن كاتب بحريني
طوكيو 23 ديسمبر 2017
&