&
هناك مثل ياباني يقول: "عشرة اشخاص بعشرة ألوان." وهذه فلسفة يابانية مهمة، تؤكد من خلالها بأن عقول البشر تحتوي أراء وأفكار وعقائد مختلفة، فلو لاحظت عشرة اشخاص فلتجد بأن كل واحد من العشرة بعقول مختلفة وعقائد وأفكار متباينة. وتريد هذه المقولة أن تؤكد بأننا كبشر لنا أفكار وأراء وعقائد مختلفة، ولكي نخلق تناغم في المجتمع، ليعيش الجميع في سلام وتعاون، يجب أن نتقبل هذه التصورات جميعها، كما يمكننا أن نناقشها ونختلف معها، لنخلق بيئة الإبداع في المجتمع، ولكن لا يحق لنا إبطالها أو تكفيرها. كما أن هناك حكمة أخرى تقول:" تبحث عن الحقيقة، فليس هناك حقيقة." فيعتقد اليابانيون بأنه ليس هناك "حق" و "باطل"، فجميع حقائق الحياة ما هي إلا نظريات أو حقائق نسبية، فمثلا تختلف الشعوب في لغتها وثقافتها ودياناتها وعقائدها وأيدولوجياتها، وسياساتها وآرائها، ولكي نحافظ على سلام المجتمع وتعاونه وتفاعله وتناغمه يجب أن نحترم هذه الاختلافات، بل حتى العلوم الطبيعية الفيزيائية منها والبيولوجية تتغير نظيرتها مع التطور والتقدم العملي.&
وقد لاحظت حقيقة هذه الظاهرة في طوكيو مع احتفالات عيد الميلاد والسنة الميلادية لعام 2018. ففي مساء ليلة عيد ميلاد المسيح المجيد، عليه السلام، وجدت كثير من الأزواج اليابانيين يخرجون للعشاء بالمطاعم، احتفالا بهذه المناسبة. وفي ليلة عيد السنة الميلادية يذهب اليابانيون في منتصف الليل إلى المعابد البوذية أو معابد الشنتو ليحتفلوا بهذه المناسبة، وضمن هذه الاحتفالية، هناك لوحة خشبية صغيرة، تشترى من المعبد، ويكتب الحاضرون ما يتمنونه للسنة الجديدة، ويجمع رجال المعبد هذه الألواح في دائرة مغلقة، يجتمع حولها الزائرون، ويقومون بحرقها لترتفع سحب امنياتهم للسماء، لكي يتم تحقيقها من ملائكة السماء. والجميل في الموضوع بأن الياباني لا يفرق بين المعابد البوذية والشنتو، فيحضر هذه المناسبة في أي من المبعدين، كما يحتفل بهذه المناسبة ليست كمناسبة دينية، بل كثقافة وطنية ومهرجان مجتمعي، لحظة يجمع أبناء المجتمع بتناغم جميل، بعيدا عن الخلافات الدينية والطائفية الجاهلية المقيتة.
ولنرجع مرة أخرى لمدى تقبل الاختلاف في واقع وطننا العربي، ولنستمع لرسالة تلفزيونية من شاب يوضح فيها هذا الواقع الحزين: "سلام عليكم وعلينا السلام. سلام إليكم وإلينا السلام. وسلام على من رد السلام. وسلام على حتى من لم يرد السلام. سلام باسم الرب السلام، رب العباد الله الصمد، سلام ترعرعنا فيه. سلام معجون بأرض هذا البلد. سلام ما عدنا نسكن فيه. سلام ما عاد يسكن فينا. سلام نراقبه، وهو يحزم حقائبه ليهجر رويدا رويدا اراضينا، ليحل مكانه تسليما واستسلام لتأسلم لا اسلام فيه، وكأن اسلام اجدادنا ما عاد يعنينا. أتدرون لما يهاجر منا السلام؟ أتدرون لما يعم فينا الظلام؟ ببساطة، لأننا مجتمع يخاف. نحن مجتمع يخاف الاختلاف. كلماتي لن تعجب بعضكم او جلكم، او كلكم، أعرف، ولكني سأقولها، لأنني رافض لأكون من الخراف. نحن مجتمع يرفض الاعتراف بأننا نعيش التخلف، نحن مجتمع يصيح بكل صفاقة، ويدعي بأنه حامل لفكر مختلف، نحن مجتمع يهوى التعالي من فراغ، فقبول الاختلاف عندنا، ليس إلا غلاف. اختلاف اللون يؤدينا، اختلاف الشكل يؤذينا، اختلاف الفكر يؤدينا، اختلاف الدين يؤدينا، حتى اختلاف الجنس يؤدينا، لذا نحاول اغتيال كل اختلاف فينا. تحولنا لبعضنا سم زعاف. نحن مجتمع أحمق من الحمق نتنازع على التفاهات، والترهات، والخرافات، ونرفض دوما ان نغوص في العمق. ولا ابرأ احدا، لا مدنيين ولا ساسة، لا لمن يستكين لبلاده الصمت، ولا من يدعي فينا القداسة، لا من يتبع الغرب كالأعمى، ولا من يريد أن يعيد امجاد الخلافة، والنخاسة، وتقطيع الارجل من خلاف. دعونا اليوم نجرب ان نغوص فينا، في أعماقنا، دعونا ان نجرب أن نعانق أرواحنا، دعونا أن نجرب أن نعانق في الارواح اختلافاتنا. ها أنا امامكم بلوني، بشعري، بأطواري، بأفكار، أنا لا أخافكم، أنا لا أخاف اختلافكم عني، لأنكم مني، ولأني منكم. دعونا نخلق فن، دعونا نغوص في الحلم، لنرسي ثقافة بلا سخافة، ليكون الرقي فينا، هو أسمى خلافة. دعونا ندوب الأعراف، الأجناس، والأعراق، والأطياف، والألوان، والأفكار، والأديان، ولا نرى سوى الإنسان."
ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: ما سبب هجرة السلام من أراضينا؟ بل ما سبب عدم تحمل مجتمعاتنا للاختلاف؟ لننتهي بهاوية قطع الأطراف والأعناق، بل بحرق البشر وهم أحياء، وقتل الأطفال الرضع، وسبي النساء، وبيعهم في سوق النخاسة كالعبيد، بل وفي عالم عولمة الألفية الثالثة. فما الذي يحول الإنسان عن ضميره الإنساني المرفه، وفكره البشري العقلاني، وشعوره التعاطفي، لوحش يرضي غرائزه الزواحفية؟ وكيف نعالج هذه الظاهرة المرضية؟ فهل نبدأ بنظرية أوقية من الوقاية خير من قنطار علاج؟ ومن أين تبدأ هذه النظرية؟ هل تبدأ من التعليم أم من المواطنة؟ وأي نوع من التعليم؟ تعليم التغذية بالمعلقة أم تعليم المسائلة؟ وأي نوع من المواطنة؟ مواطنة حب الطائفة، أم مواطنة الاخلاص للوطن؟&
للإجابة على هذه الأسئلة، نحتاج أن نتذكر بأن من أهم وظائف الدولة الحديثة التأكد من توفر الأمن الغذائي والتعليمي والوظيفي والسكني بالإضافة للسلام المجتمعي للمواطن، في قلب وطنه، بعيدا عن الايديولوجيات الرنانة المزيفة والثيوقراطيات السرطانية المفرقة. كما يؤكد تاريخ الأندلس بأن شعوب منطقة الشرق الأوسط مهيأة للعيش بتناغم وسلام، بين أطياف شعوبها المختلفة وجيرانها، مذهبيا، ودينيا، وعرقيا، ولغويا. كما أن مجتمع الشرق الأوسط غني بالموارد الطبيعية والبشرية، فمن المتوقع ان يصل سكان هذه المنطقة مع قبول عام 2050 إلى حوالي السبعمائة مليون، كما أن بها طاقات متجددة طبيعية لا حدود لها، وغنية بمخزون نفطي وغاز طبيعي كبير، وأراضي زراعية كثيرة، وأنهار عظيمة، والكثير من المواد المعدنية المتعددة، بالإضافة لموقعها الجغرافي الاستراتيجي، وتاريخها الحضاري الطويل، وبمتاحفها الغنية. وقد عانت هذه المنطقة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، من حروب متكررة مدمرة، وايديولوجيات براقة مزيفة وثيوقراطيات سرطانية مريضة، والتي أدت لعمق تأثيرها الوجداني والنفسي المرضي على الكثير من شباب المنطقة، مما دفع لزيادة التطرف الفكري، مع أنواع متناقضة من المقاومة المتوحشة.&
وقد نحتاج للوقاية من صراعات مستقبلية مدمرة لتفهم سيكولوجية هذا التطرف والتوحش. ولكي نحقق ذلك، علينا تفهم تطور عقل الإنسان والبيئة المحيطة به، من خلال دراسة ماضيه وحاضره ومستقبله. فيعتقد العلماء بأن تطور العقل البشري مر بثلاثة مراحل في التاريخ، وكانت المرحلة الأولى قبل ما يقارب الخمسمائة مليون سنة، وذلك بتطور الجزء الزواحفي من العقل البشري، المسئول على حب البقاء، بالصراع لتوفير الأكل، والشرب، والجنس، والمأوى، وبكل وسيلة غريزية سلمية أو وحشية ممكنة. وقد تطور هذا العقل ليضاف عليه قبل حوالي المائة والخمسين مليون سنة، الجزء المختص بالتعاطف وعواطف الحب والشفقة والرحمة والمغفرة، بالإضافة لعواطف الانفعال والغضب والغيرة وحب الذات. وقبل ما يقارب الخمسين ألف سنة تطور الجزء الخاص بالتفكير والتحليل والحكمة في العقل البشري، ليبدأ الانسان بمرحلة جديدة في الدراسة وتحليل واقعه الحياتي والتفكير في صيغ عملية لمعالجة تحدياتها. ويعتقد العلماء مؤخرا بأن العقل البشري مكون من 85 مليار من الكومبيوترات البيولوجية، وهي الخلايا العصبية، والتي تحتاج للتناغم الكامل لكي تقوم بوظائفها بشكل سوي. ويحتاج ذلك لتطور قانون اخلاقي مجتمعي يحدد القيم التي يتبعها السلوك البشري، كما تتأثر الخلايا العصبية بالمحيط البشري من الظروف المجتمعية والبيئية. وهناك أيضا الحاسة السادسة، التي من خلالها نستطيع الدخول لأعماق عقولنا، لنتفهم أنفسنا ولنتعرف على طبيعة شخصيتنا وأسباب سلوكنا وعواطفنا وشعورنا. وهناك أيضا الحاسة السابعة، التي نستطيع من خلالها قراءة عقول الآخرين وتفهم شخصيتهم وأفكارهم وعواطفهم وانفعالاتهم، وذلك لوجود "ساتيليت" بيولوجية في داخل عقولنا تسمى بالخلايا المرآة، نستطيع من خلالها التواصل مع خلايا المرآة في عقول الاخرين، لنستطيع تبادل العواطف والانفعالات. وعلينا أن نتذكر بأن ما تفكر وتعتقد به عقولنا من عقائد وايديولوجيات ما هي إلا افكار نسبية، لا تمثل الحقيقة إلا في عقولنا وإدراكنا، لأن كل وقائع الحياة نسبية. وقد أكد العلماء هذا الادراك العقلي النسبي بالقيام بتجربة بحثية، حيث جمعوا فئة من المشاهدين في غرفة مغلقة، وعرضوا عليهم فيلم تلفزيون لمباراة لكرة السلة بين فريقين أحدهم لابس قمصان بيضاء، والأخر لابس قمصان سوداء، وطلب من المشاهدين أن يعدوا المرات التي تقع كرة السلة في يد كل من هذين الفريقين. وبعد الانتهاء من مشاهدة المباراة، سؤل المشاهدين عما شاهدوه وردوا بأنهم شاهدوا لعبة كرة السلة بين فريقين، بقمصان بيضاء وسوداء. وبعدها، طلب الباحثون من المشاهدين الاسترخاء، ومشاهدة الفيلم مرة أخرى، بدون التركيز على العد هذه المرة. وقد كانت صدمة المشاهدين كبيرة، حينما شاهدوا هذه المرة غوريلا سوداء ضخمة، تظهر فجأة في منتصف الملعب وتختفي، والتي لم يشاهده الكثير منهم في المرة الاولى، حينما كان تركيزهم على العد. ولنا لقاء.
&
د. خليل حسن، كاتب بحريني
طوكيو 20 يناير 2018
&