الأم مدرسة إذا أعدتها أعدت شعبا طيب الأعراق، قصيدة كتبها الشاعر العربي المصري حافظ إبراهيم، عقيدة نفذها بحذافيرها قائد النهضة الإصلاحية اليابانية الحديثة إمبراطور عهد التنوير "ميجي". فيعتبر في المجتمع الياباني الطفل هو المستقبل، والأم هي صانعة هذا المستقبل، ولنتذكر عزيزي القارئ بأن المرأة اليابانية لا تترك أي شيء للصدفة، فكل شيء في حياتها مدروس بدقة، فمثلا قبل أن تفكر المرأة اليابانية في الزواج تتدارس الأسئلة التالية: هل فعلا تريد الزواج؟ ولماذا؟ هل تريد أن تنجب الأطفال؟ وكم عدد الأطفال الذي قد تنجبهم؟ وما نوع الزوج الذي تبحث عنه؟ ومتى بعد الزواج ستنجب طفلها الأول؟ ومتى ستترك عملها قبل ولادة الطفل؟ ومتى سترجع للعمل بعد ولادة الطفل؟ وفي الوقت الذي تهتم المرأة اليابانية جدا بتخطيط حياة أطفالها، تهتم الدولة والمجتمع ككل بهذا الموضوع. فالمدرسة والصحافة والإذاعة والتلفزيون والحكومة والبرلمان يعطوا هذا الموضوع أهمية قصوى، ويلعبوا دورا كبيرا لتهيئة عقل الأم لهذه المسئولية المستقبلية، وضمن أحد هذه النشاطات هي النشاطات الاجتماعية التعليمية، حيث ان في كل منطقة هناك مؤسسات تعاونية بين المؤسسات الحكومية والمؤسسات الأهلية تهتم بالأم والطفل. وقد دعتني احدى هذه المؤسسات بالعاصمة طوكيو في شهر يناير الماضي، كطبيب أطفال ودبلوماسي سابق لكي أناقش "العولمة وتطور عقل الطفل". وأرجو أن يسمح لي عزيزي القارئ أن أناقش هذه المحاضرة.&

فتربية الطفل اليوم تختلف عن تربية الطفل في العقود الماضية، وذلك بسبب التطورات المجتمعية والدولية التي فرضتها التكنولوجيا الحديثة على مختلف قطاعات المجتمع. ولنتذكر بأنه قبل التخطيط لولادة طفل المستقبل يجب على الوالدين تهيئة البيئة البيولوجية السليمة لتشكل الجنين، وخاصة بتناول الام الحامل الأغذية التي تلعب دورا في تنمية عقل الجنين بشكل سليم، مع تجنب التدخين والمشروبات الكحولية، وعدم التعرض للضغوطات الحياتية قدر الإمكان. ولنتذكر بأن الخلايا العصبية التي يصل عددها لحوالي الخمسة والثمانين مليار تكون مكتملة مباشرة قبل الولادة، ولكن هناك جزء مهم آخر يحتاج لعقود عديدة لكي يكتمل به نمو عقل الطفل، وهذا الجزء يسمى بالألياف العصبية، والذي يعتمد سلامة نموها على البيئة المحيطة بالطفل ومستوى التربية والتعليم والتدريب الذي يوفره له المجتمع.&
وطبعا في بيئة اليوم أول ما يواجه الطفل عالم العولمة الجديد، الذي غيرت تكنولوجيات المواصلات والاتصالات الكرة الأرضية بأكملها إلى قرية عولمة صغيرة. ففي القرون الماضية كان الإنسان يعيش في دولة بعيدة منفصلة عن باقي دول العالم، وكانت الدول كسفن شراعية منفصلة عن بعضها البعض، وتحتاج لقوانين دولية لتمنع اصطدام بعضها ببعض. أما اليوم ففي قرية العولمة الصغيرة، بفضل المواصلات والاتصالات الحديثة، أصبحت الدول تعيش جميعها في باخرة سياحية كبيرة، ولكل دولة فيها كبينة صغيرة، لذلك علينا ان نعد أطفالنا للعيش في باخرة العولمة الجديدة، وطبعا يحتاج ذلك لتهيئة عقل الطفل بطريقة إبداعية متقدمة. ولتهيئة طفل المستقبل نحتاج ان نستقرأ التطورات التكنولوجية القادمة، فمثلا ستلعب تكنولوجية الذكاء الآلي دورا مهمة في وظائف المستقبل، بل من المتوقع بأن تختفي 45% من وظائف اليوم ليتحول مسؤوليتها للذكاء الآلي. كما ستتغير اقتصاديات العالم ولتنتقل قيادة الاقتصاد العالمي من الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية إلى القارة الآسيوية حيث ستكون الصين أول اقتصاد عالمي وبنسبة 20% منه والهند الاقتصاد العالمي الثاني وبنسبة 15% منه، بل سيحصل الاقتصاد الاسيوي على 50% من الاقتصاد العالمي، وبذلك سنجد شباب المستقبل يتوجهون للدراسة والتدريب في الصين والهند. كما ستفرض العولمة على العالم لغة عالمية يستخدمها الجميع بالإضافة للغته القومية، وهي اللغة الإنكليزية، والتي لعبت الولايات المتحدة دورا كبيرا في ترويضها لتصبح لغة عالمية سلسة بدل اللغة الشكسبيرية التقليدية، ولا شك بان شبكات التواصل الاجتماعي ستلعب دورا كبيرا في تسهيل عولمة اللغة الإنكليزية. ويبقى السؤال كيف سيتطور تعليم المستقبل؟
فالثورة الكبيرة التي ستواجهها التربية والتعليم والتدريب في المستقبل هي ان تتحول إلى تعليم يوفر حاجيات سوق العولمة. وطبعا سيختفي تعليم اجترار المعلومة بملعقة المعلم. فلم يعد الطالب في حاجة للمعلم للحصول على المعلومة، فهي موجودة في جيبه، من خلال الجوجل على تلفونه النقال. وطبعا سيتحول التعليم لتعليم حل المعضلات بان يتعرف الطالب على المشكلة الحياتية، ويبحث عن المعلومات ليخلق منها أفكار تساعده على حل المعضلة، ثم يختار أفضل هذه الأفكار، فيجربها، ويقيم نتائجها. وقد تكون من خيرة التجارب التعليمية اليوم هي تجربة التعليم الفنلندية. فقد كانت فنلندا في ستينات القرن الماضي من أسوء الدول المتقدمة في التعليم، بينما اليوم فهي تتصدر دول العالم في تميز تعليمها، وذلك بالتخلص من عادة الواجبات المدرسية، واستبدالها بسبعة من مفاتيح المهارات، والتي تهدف لتطوير الطفل إلى انسان ومواطن صالح، والتي تشمل أولا مفتاح التفكير والتعلم عن كيفية تعلم الطالب، وثانيا مفتاح كيفية رعاية الطفل لنفسه ولأقرانه مع إدارته لأموره الحياتية اليومية والمحافظة على سلامته، وثالثا مفتاح المهارات الثقافية في التعبير والتعامل مع الآخرين، ورابعا مفتاح تنوع تعلم الثقافات، وخامسا مفتاح مهارة استخدام التكنولوجيات الحديثة، وسادسا مفتاح تطوير المهارات المالية والابداعات التجارية عند الطفل، وسابعا مفتاح تطوير مهارات المشاركة وبناء المستقبل المستدام.
وحينما نتحدث عن التعليم نحتاج ان نتفهم طبيعة التفكير البشري والذي يضم العقل البشري مع قيم المجتمع الاخلاقية. ولنسهل فهم الموضوع بشكل تكنولوجي، علينا تصور بان العقل هو عبارة عن سوبر كومبيوتر، به ما يقارب الخمسة ثمانين مليار "ميكروشبس"، والتي نسميها بلغة الطب الخلايا العصبية، والتي مرتبطة كل واحدة منها بأسلاك تعد بحوالي عشرة الاف سلك، والتي تسمى بلغة الطب الألياف العصبية. ولنذكر بأن الطفل يولد ولديه عدد الخلايا العصبية كاملة، بينما تبدأ تشكل وتواصل الألياف العصبية بعد الولادة، والتي تعتمد تماما على التربية والتعليم والتدريب الذي يحصل عليها الطفل بعد ولادته. كما يحتاج سوبر كومبيوتر العقل البشري إلى برامج تشغيل، وتعتبر هذه البرامج التشغيلية هي القيم والأخلاقيات التي يتعلمها الطفل في مجتمعه منذ نعومة اظفاره. ولن تكتمل شخصية الطفل الا بالتمتع بالسعادة في حياته، ولكي يحقق هذه السعادة يحتاج الطفل ان يتفهم الحكمة الكونفوشيسية التي تقول: "تبحث عن الحقيقة، فليس هناك حقيقة." والحكمة الأخرى للفيلسوف الألماني "نتشه" والتي تقول:" ليس هناك حقيقة، بل هناك بصيرة أو إدراك العقل البشري للحقيقة." بمعنى أن الحقيقة ما هي الا آلية لتبصر وإدراك العقل البشري لوقائع الحياة الفكرية أو المادية، ولكن ليس هناك حقيقة مطلقة فكل شيء في حياة الإنسان هو نظرية أو حقيقة نسبية، وحتى الحقائق العلمية الفيزيائية نكتشف يوم بعد اليوم بانها نظريات وليست حقائق مطلقة. لذلك لكي يعيش الطفل حياة سعيدة عليه ان يكون لديه عقلين، عقل يخصه ويضم فيه حقائقه وايديولوجياته النسبية، وعقل اخر يضم حقائق وايديولوجيات الآخرين، لكي يخلق في تفكيره تناغم جميل بين ما يعتقده وبين ما يعتقده الآخرين، لكي يعيش حياة تناغمية سعيدة مع الآخرين، بدون تطرف وعنف، وبدون الرفض والتكفير لأفكار الآخرين. وهنا من المهم التذكر بان السعادة بعيدة عن الكثير من الأطفال اليوم، فمثلا في الولايات المتحدة ما يقارب نصف المراهقين يعانون من اضطرابات نفسيه شديدة أو خفيفة، بينما 40% منهم معرضون لسوء المعاملة والتي تتراوح بين الإهمال والضرب المبرح المؤذي. كما ان تتركز 80% من سوء المعاملة بين الأطفال التي لا تتجاوز أعمارهم عن الأربعة سنوات، بالإضافة بأن 30% من الأطفال الذين يتعرضون لسوء المعاملة قد يعرضون أطفالهم في المستقبل لسوء المعاملة هذه.
وموضوع سوء معاملة الطفل ينقلنا لموضوع التعاطف. لنتذكر عزيزي القارئ بأن العقل البشري يتكون من ثلاثة أجزاء. الجزء الأول والسفلي منه هو جزء يشارك فيه الحيوانات وخاصة التماسيح، ولذلك يسمى هذا الجزء بالعقل الزواحفي، وهو الجزء المسئول عن غرائز الإنسان من اكل وشرب وجنس وتنفس. بينما الجزء الثاني وهو في وسط المخ وهو الجزء المسئول عن العاطفة، وطبعا يشمله عاطفة الأمومة في الثدييات، لذلك يسمى بالقسم الثديي.& اما الجزء الثالث فهو على السطح في قشرة المخ والذي مسئول عن التفكير والذي ميز الخالق جلت عظمته الإنسان عن باقي الكائنات به. وهنا قضيتين مهمتين أولا غريزة التعاطف، وهي شعور الإنسان بعواطف الآخرين، فنحن نحزن حينما نرى طفلا يبكي، أو تدمع عيوننا حينما نرى حزن فلما رومانسيا، وذلك بسبب وجود خلايا في المخ تسمى بالخلايا المرآة، فهذه الخلايا اللاسلكية توصل عقول البشر ببعضها البعض وتؤدي لشعور البشر بعضهم بعضا. فمن المهم ان نطور خلايا المرآة هذه في عقول أطفالنا لكي يكون لديهم شعور وإحساس وعواطف البشر الآخرين، وهي ميزة ينفرد به الإنسان عن المخلوقات الأخرى.
وتتعلق النقطة الاخيرة في هذه المحاضرة بالاحتياطي الفكري، بمعنى ان يكون في العقل البشري احتياطي إضافي من قوة التفكير للاستفادة منها وقت الحاجة، ومن الضروري تطوير هذه الصفة في عقل الطفل بالتدريبات السليمة. فلنتصور سيارة عادية وسيارة أخرى بقوة الأربعة عجلات. فحينما يسوق السائق السيارة العادية ويصل لمنطقة رملية عميقة، تغوص عجلات السيارة في الرمل ولا تتحرك. ولكن لو كانت هذه السيارة لديها قوة إضافية بمحرك لأربعة عجلات يستطيع السائق بسهولة تجاوز صعوبة السياقة في الرمل.& وهنا نريد ان نطور عقل الطفل لكي تكون خلاياه العصبية قوية، لتحتوي على احتياطي إضافي من التفكير لكي يستفيد منه حينما تتعرض بعض خلايا المخ للتلف. وخير مثل لذلك موضوع الخرف، فقد يصاب بالخرف كبار السن وفي نفس الوقت قد يصاب البعض بالخرف في منتصف العمر، بينما هناك مجموعة من المسنين لا يصابوا أبدا بالخرف حتى لو وصلوا لسن المائة سنة، فلماذا؟ فلقد قام العلماء بدراسة عقول بعض المسنين بعد وفاتهم وبعد موافقتهم، ووجدوا بأن هنا تلف وضمور في خلايا المخ والذي يؤدي إلى الخرف. وحينما درسوا عقول المسنين الذين لم يتعرضوا للخرف في حياتهم، وجدوا بان هناك أيضا تلف وضمور في الخلايا العصبية ولكن لدي هؤلاء احتياطي من الخلايا العصبية القوية التي منعت اصابتهم بالخرف. لذلك من المهم ان نطور احتياطي الخلايا العصبية في مخ الطفل وهنا نحتاج ان نعلم الطفل كيف يتعامل مع الضغوط الحياتية بسلاسة، كما نعلمه أهمية النوم المبكر والكافي، ونعلمه استمرارية ممارسة الرياضة، مع التغذية الصحية السليمة، والاستمرارية في نشاطات التواصل الاجتماعي، بالإضافة بممارسة تمارين تتعلق بتقوية التفكير كلعبة الشطرنج وحل الالغاز وحل المعضلات الفكرية الصعبة التي تقوي قوة التفكير وتطور وتقوي الخلايا العصبية. ولنا لقاء.
د. خليل حسن، كاتب بحريني
طوكيو
&