الموسيقى كما يعرفها القدماء، هي quot;الغناءquot; وهو لغة الروح أخرجتها النفس الانسانية نغما موسيقيا عندما عجزت الكلمات عن الافصاح عنها، وذلك بمصاحبة الآلات الموسيقية. وفي الرسالة الخامسة من القسم الرياضي، عرف quot;اخوان الصفا وخلان الوفاquot;، في رسائلهم الفلسفية التي حاولوا فيها تلخيص الفكر والعلوم الانسانية المعروفة في عصر عولمة العلوم في العصر العباسي الذهبي، الغناء بأنه quot; فضيلة يتعذّر على المنطق اظهارها ولم يقدر على اخراج العبارة، فاخرجتها النفس لحنا موزوناquot;، فالغناء والموسيقى هما حاجة نفسية quot;للشعور بالفرح والسرور في الاعراس والولائم والدعوات وعند الحزن والغم وفي بيوت العبادات وفي الاعيادquot;، وقالوا بأن quot;الهيولي [كلمة يونانية بمعنى: المادة الأولى] في الصناعة الموسيقية كلها جواهر روحانية وهي نفوس المستمعين وتأثيراتها فيها مظاهر كلها روحانية أيضاquot;، ثم اضافوا بأن اصحاب النواميس quot;استعملوا الموسيقى quot;في الهياكل وبيوت العبادات وعند القراءة في الصلوات وعند القرابين والدعاء والتضرع والبكاء كما كان يفعل داود النبي عليه السلام عند قراءة المزامير وكما يفعل النصارى في كنائسهم والمسلمون في مساجدهم من طيب النغم ولحن القراءة فان كل ذلك لرقة القلوب ولخشوعها والانقياد لأوامر اللّه تعالى... فمن الألحان ما يعزي النفوس ويخفف ألم المصائب ويسلي عن الاشتياق ويسكن الحزن...quot; (ص 132-136، من رسائل إخوان الصفا). فلم يكن في الحضارة اليهودية والمسيحية صراع بين الداعين الى النهي عن الغناء والمسيقى واباحتهما.
وفي العصور الاسلامية ازدهر الغناء. ويدعي بعض العلماء العرب إن ازدهار الغناء والموسيقى في مكة والمدينة جاء نتيجة لرغبة الخلفاء في إلهاء اهلها وإبعادهم عن الطموح السياسي والتطلع الى الخلافة. وفي quot;كتاب الأغانيquot; لابي الفرج الاصفهاني، ما يكشف عن ولع الخلفاء والعلما العرب بالغناء والموسيقى في فترة بلغت فيها الحضارة الاسلامية أوجها. ولكن المتصوفة المسلمين اباحوا الغناء والموسيقى والرقص في طرقهم الصوفية في محاولتهم لبلوغ الوجد والفناء في الخالق وخاصة في الفترة العثمانية من حكم البلاد العربية.
وبسبب تحريم الغناء والموسيقى من قبل العلماء المسلمين في الكثير من البلاد العربية انحصر الغناء والموسيقى بين يهود العراق خاصة، لان هذين الفنين كانا من الفنون الدينية كما هو الامر عند المسيحية، ولذلك قال الأديب الكبير توفيق الحكيم بأن الدين عند الأوروبيين هو الفن وأن الفن عند العرب هو الدين. ولذلك نرى يهود العراق يتفوقون في الغناء والموسيقى منذ العصر العثماني خاصة. وكان عصرهم الذهبي في فترة الحكم الملكي العاشمي في العراق. فلما قامت دولة اسرائيل اضطر معظم اليهود العراقيون بما فيهم الموسيقيين والمغنين اليهود، بسبب المد القومي المتطرف فيها، الى مغادرة وطنهم الذي عاشوا فيه خلال 2500 عاما، وبعد التهجير أو الهجرة الجماهيرية ليهودها شعر هؤلاء بالفراغ الروحي في الدولة الجديدة التي قدموا إليها وذلك نتيجة للثقافة والفنون الاوربية التي سادت بين مؤسسي دولة إسرائيل، فقد حاول هؤلاء دمج جميع القادمين الجدد من البلدان العربية في الثقافة الشرق - أوربية التي نشأوا عليها. ولكن صهر ثقافة يهود البلاد العربية في بودقة الثقافة الأوروبية بين ليلة وضحاها باءت بالفشل، فاضطر القائمون على الثقافة والتعليم الى اللجوء الى التعددية الثقافية في المجتمع الاسرائيلي واتاحت لكل فئة من القادمين الجدد حرية تشجيع تراثها الفني والثقافي الذي أتت به من مواطنها الاصلية. ويقال إن الحكومة العراقية قررت بعد اعلان تسقيط الجنسية العراقية عن أولائك اليهود العراقيين الذين اجبروا على مغادرة العراق عدم السماح للموسيقيين والمغنين اليهود إلا بعد أن اشترطت عليهم تعليم فن الموسيقى والغناء العراقي للموسيقيين العراقيين الذين احتلوا مكانهم في دار الاذاعة العراقية. وللتخفيف من شدة الحنين الى العراق بين اللأجئين اليهود من البلاد العربية، فقد قرر مؤسس ومدير القسم العربي في دار الاذاعة الاسرائيلية الاستاذ شاؤل بار- حاييم العراقي الأصل تكريس برنامج أسبوعي بعنوان quot;من الغناء العراقيquot; قدمه الاستاذ شفيق كباي والمرحوم نعيم توينه، غنى فيه المغنون والموسقييون العراقيون منذ عام 1951 والى اليوم، وكان العراقيون يستمعون اليها بشغف بالغ لشفاء الحنين والغليل الى مسقط رأسهم.
وكان على رأس هؤلاء الموسيقيين الذين عملوا في دار الاذاعة الاسرائيلية الأخوان صالح الكويتي (1908-1986) وداود الكويتي (1910-1976)، وهما من مؤسسي جالغي بغداد منذ تأسيس الإذاعة العراقية في بغداد عام 1936، وكانا من كبار الموسقيين والملحنين العراقيين فيها الى هجرتهما عام 1951. وقد إطلق على عائلتهما العراقية البصراوية الأصل، اسم quot;الكويتيquot; لانهما من مواليد الكويت، فقد ولد صالح عام 1910 وولد اخوه داوود في عام 1911، وبقيت العائلة تعيش في الكويت في الحي اليهودي المعروف في شارع quot;الغربليquot; حيث كان الاطفاال اليهود يدرسون الديانة اليهودية في كتاب الكنيس اليهودي في ذلك الحي. وقد بدأ ولوعهما بفن الموسيقى والغناء في صغرهما قبل بلوغ صالح سن الثامنة وكان الاخوان يقومان بصنع الألات الموسيقية البدائية والعزف عليها، ثم اهدى اليهما عمهما آلتي العود والقانون كان قد اشرتراهما في اثناء رحلة له الى الهند، وشرعا في العزف عليهما، فلما رأى والدهما ولعهما هذا بالموسيقى ارسلهما ليتعلما على الموسيقار الكويتي الكبير خالد البكر الذي علمهما الأغاني الكويتية والبحرينية والحجازية واليمنية، أما الغناء العراقي والمصري فقد تعلماه عن طريق الاستماع الى الاسطوانات المسجلة. وكانا يميزان وهما في صباهما بين الفوارق البسيطة لهذه الانواع العربية في الموسقى والغناء، وهو امر يحتاج الى موهبة موسيقية فريدة من نوعها. وقد مهر صالح في العزف على الكمان أما داوود فقد مهر في العزف على العود والغناء وشاركا في الحفلات الغنائية التي كانت تعقد في الكويت وفي اقطار الخليج العربي. فلما ذاع صيتهما سافرا في عام 1927 مع المطرب الكويتي عبد اللطيف الكويتي إلى مدينة البصرة التي نزح عنها والداهما الذي عمل في التجارة، لتسجيل بعض اغانيهما على اسطوانات، ولدراسة فن المقام العراقي بفنونه المختلفة. وبعد عودتهما الى الكويت قررا النزوح الى البصرة عام 1928 ومنها انتقلا الى بغداد عام 1929، وهناك فتح لهما باب دنيا الفن على مصراعيه للقاء كبار المغنيات والمغنين العراقيين وكبار شعراء الشعر الشعبي والغنائي من امثال عبد الكريم العلاف،

لوحة تحمل اسم الاخين الكويتيين، الموسقاريين صالح وداود الكويتي في وسط تل أبيب

وسرعان ما اصبحا من كبار رجال الموسيقى العراقية وملحنيها. وعندما زار كل من أمراء الطرب عبد الوهاب وأم كلثوم العراق، في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، تعرفا عليه وتأثرا بالحانه العراقية. وكانت اغلب اغانيه في الحب ولواعجه، كدأب العراقيين عامة. وقد قام مركز تراث يهود العراق في مدينة أور-يهودا بمبادرة البروفيسور أمنون شيلوح مؤرخ الموسيقى العربية من الجامعة العبرية بتسجيل حفلات لهما وعقد مقابلات عن فنهما على اشرطة ما تزال محفوظة فكتبة المركز.
ومع ذلك فقد بقي آل الكويتي مخلصين للكويت وأميرها وكان الأخوان الكويتي يذهبان بين الحين والآخر لاحياء حفلات في بيوتات وجهائها وخاصة في قصور العائلة الحاكمة التي كانت تكرم وفادتهما، وكان هذان الأخوان يحتفيان بالكويتيين الذين كانوا يزورون بغداد، بقيا على صلة وثيقة باصدقائهما، ولكن اليوم لم يبق للعائلة بعد هذه السنين الطويلة اصدقاء يستطيع الابناء والاحفاد تذكرهم، وان كانت امنية ابنه شلومو الكويتي زيارة الكويت والوقوف على أثار نشاط والده على الفن الموسيقي والغنائي الكويتي ومشاهدة الاماكن التي كان والده يحن اليها ويكثر الحديث عنها بشوق ويذكر آل الصباح والاصدقاء من خلان الوفاء بالخير.
ومما يعد من مناقب الفقيدين انهما طورا الأغاني الكويتية وألحانها وجعلها مستساغة للاذن العراقية. وخير مثال على ذلك هي قصيدة البهاء زهير:
يعاهدُنِى: لا خانَنِى ! ثـم يَنْكُـثُ / وأحلِفُ لا كَلَّمْتُـه ! ثـم أَحنَـثُ، التي غناها بلحن كويتي، فاشتهرت في العراق وغنتها المطربة الكبيرة سليمة مراد وسجلتها على اسطوانة في الثلاثينيات من القرن الماضي. كما غنى اخوه داود الكثير من الاغاني الكويتية على خشبات الملاهي العراقية، وما زالت عائلة الكويتي تفتخر بحبها وتعلقها بالكويت مشيرة الى أن صالح الكويتي اطلق اسم quot;صباحquot; على ابنه البكر تيمنا باسم العائلة الكويتية الحاكمة التي كان يحمل لها كل الاحترام والود، وبقيت عائلة الفقيدين متمسكة باسمها بفخر واعتزاز حتى بين الابناء والاحفاد، واصبح اليوم اسمها مرفوعا على احد شوارع تل ابيب الذي يحمل اسم الاخوين الكويتيين، تخليدا لمواهبهما.
وكان دأب صالح في جميع المقابلات في الاذاعات والصحف الاشادة بحبه للكويت وشعبها المضياف ومناظرها الخلابة، وكان يقول دائما أنه كان يشعر هناك بالأمن والطمأنينة حتى أن اهلها كانوا يتركون ابواب دورهم مفتوحة دون خشية السرقة، وكان يقول عن الكويتيين ذوي القلوب الصافية بانهم شعب طيب السريرة يهوى الموسيقى وإنهم كانوا يستمعون الى الموسيقى بكل كيانهم ومن اعماق قلوبهم وليس بآذانهم. وكان طوال حياته يحن الى الكويت وقد ورث هذا الحب والحنين ابنه شلومو والذي اصبح حلمه زيارة الكويت يوما ليحقق حلم والده. ولصالح الكويتي خمسة أولاد، ولا تزال زوجته مزال (حظ) على قيد الحياة وتعيش في تل ابيب مع العائلة.
لقد عانى يهود البلاد العربية بعد هجرتهم الى اسرائيل من شظف العيش فيها، وسكنوا الخيام وعانوا من البطالة والاعمال اليدنية الدنيئة بعد ان كان اغلبهم يعمل في التجارة والمحاسبات، فقد كانت رغبة الحكام في بلادهم الاصلية اغراق اسرائيل بالمهاجرين الجدد لكي تنهار اقتصاديا، وكان الاغلبية من السكان الغربيين ينظرون اليهم كمن يحمل ثقافة الاعداء ولغتهم وتقاليدهم، واتهموهم بالكسل والتخلف الثقافي، فحاولوا دمجهم بالمجتمع الأوروبي، فلما عجزوا عن صهرهم ببودقة الثقافة الشرق - اوروبية، لجأوا الى السياسة التعددية في الثقافات، فحافظ يهود البلاد العربية على تقاليدهم ووعاداتهم ومآكلهم، واصبح المجتمع الاسرائيلي اليوم منفتحا على الثقافة العربية وعلى فنونها الموسيقية والغنائية التي اخذت تغزو المجتمع الاسرائيلي، فهناك اليوم مدراس لدارسة الموسقى والغناء العربي والرقص الشرقي يشارك فيها اليهود الى جانب العرب في اسرائيل كما اصبحت المآكل الشرقية مستساغة وشائعة في المطبخ الاسرائيلي.
كان الكويتيان من واضعي اسس الموسيقى الكويتية والعراقية الحديثة كما هي عليه اليوم. وقد سار الملحنون الكويتيون والعراقيون على خطاه، ولم تتغير كثيرا منذ ان غادر العراق والى يوم وفاته عام 1986. وقد مدحه كبار اساتذة الموسيقى العراقية امثال عبد الرزاق العزاوي وحسن اسماعيل الأعظمي وعادل الهاشمي واعتبروه من أعظم الملحنين العراقيين الذين انجبهم العراق في العصر الحديث ومن ملحني الأغنية العراقية الحديثة، ومما يدل على مكانته السامية في قلوب العراقيين خاصة والعرب عامة، أن معهد الدراسات الشرقية والافريقية لجامعة لندن احتفل عام 2008 بالذكرى المئوية لميلاده، وهي خطوة مباركة نحو ردّ الاعتبار ليهود العراق الذين اخلصوا في خدمة العراق وما زالوا يحنون اليه.