يهود العراق، ذكريات وشجون، 49
لقاءات في مؤتمرات عقدت صيف 2009 في إنكلترا -4-


عندما دعيت للمشاركة في المؤمر العالمي المنعقد في جامعة كمبريدح يوم 22 حزيران \يونيو 2009 حول quot;يهود الثقافة العربية، 1948-2009quot;، برعاية صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال ودعم من المعهد الملكي للدراسات الدينية الذي أسسه سموه في عمان سنة 1994 حول حوار الأديان للتقريب بين أتباع الديانات والتوفيق بين شتى المذاهب، (وذلك قبل أن أتعرف على آرائه من خلال كتابه الشامل الوافي quot;الأعمال الفكريةquot; المجلد الأول، 2007)، خطر ببالي تعليق المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي (1753-1825) على منشور نابليون الذي وزعه على المصريين (1798) يشرح فيها اسباب غزوته لمصر ومنها تحرير المصريين من ظلم المماليك تحت شعار

صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال مع د. شموئيل موريه في كمبريدج

الثورة الفرنسية، quot;حرية، عدالة، مساواةquot;. كانت هذه الغزوة اول احتكاك بين الشرق والغرب بعد الحروب الصليبية (1291)، وكان تعليق الجبرتي العالم الأزهري الخلوتي خير مثال لحوار بين عالم فقيه والمبادئ التي اعتنقتها فيما بعد الدول الأوروبية، فقد انكر المساواة، لان الله فضل بعض الناس على بعض ورفعهم درجات، والأديان تقيد حرية التصرف، ولا يجوز خرق قواعد الدين بتحسين العقل، أما العدالة فهي تطبيق أحكام الشريعة، وهؤلاء لا يتمسكون من الأديان بدين، ولكنه استدرك بعد أن خبر الافرنسيين بانهم مولعون بطلب العلم وبالعدل بالرغم من انهم بجحدون الرسالة ويرفضون الأقوال والافعال الشرعية المعلومة في الدين.
ومثل هذا يحدث في مراحل حرجة من تاريخ الدول والشعوب في أثناء احتكاك الحضارات المحافظة بحضارات اخرى اكثر ديناميكية. حدث هذا كما قلنا، عند احتلال نابليون مصر عام 1798، ثم عند تولي محمد علي على مصر في 1805. ومنذ ذلك الوقت ساد الشعور في الامبراطورية العثمانية بين حكامها وعلمائها ومثقفيها بوجوب إحداث تغيير جذري للخروج من مرحلة الجمود الى مرحلة النهضة، عند ذاك بدأت مرحلة الصراع بين القديم الذي يرى في التجديد بدعة، وبين الحديث الذي يسعى للإصلاح والتغيير المقتبس من حضارة اخرى متجددة. وعند ذاك وقفت محافل وجهات محافظة في تركيا ومصر، ضد التغيير بحجة المحافظة على الدين والتقاليد والتراث، والإيمان بانه ليس بالإمكان احسن مما كان. أما المجددون فقد حاولوا الوصول الى طريق جديد ملائم لجذور حضارتهم التاريخية والدينية والثقافية لمواجهة تحديات الحضارة الأوروبية وأطماعها.
وفي المجتمعات المحافظة حيث يسود الشعور بتفوق اتباع كل دين على الآخر، يحاول العلماء التوفيق بين القديم والحديث بالاستناد الى العلوم النقلية عن طريق الفتاوى والاجماع والمصلحة والاجتهاد، لأن الشرائع الدينية مُنـْزَلة، ثابتة لا تتغير ألا في نطاق أحكام الشريعة التي تنظم حياة المؤمن لسعادته وللفوز بالآخرة التي هي خير وأبقى. وبالرغم من أن علماء الدين المجددين أصابوا نجاحا جزئيا في التجديد، غير أنهم لم يستطيعوا احداث النهضة التي كانوا يحلمون بها، وذلك لمركزية الدين الذي يضع شرائع الله الخالق فوق الكون ويفضل الآخرة على الحياة الدنيا المادية. وهذا ما تدعو اليه عنوة موجة التطرف الديني في الفترة الاخيرة، بينما يحاول المجددون العلمانيون تجاوز هذه المرحلة بثورتهم على القديم بتحسين العقل والفصل بين الدين والدولة، ويرون أن لا حدود أمام العقل والعلم الحديث من حيث التطور والتجديد، فهما يهتمان بمصلحة الفرد والمجتمع في الحياة الدنيا، ويقدسان حياة الانسان ويسعيان الى رفاهيته، فالانسان هو مركز الكون وكل شيء يسخر لمصلحته دون الالتفات الى حساب الآخرة. فيبدأ التجديد بالسعي الى بلوغ المرحلة التي بلغتها الحضارة العلمانية الحديثة، وهذا ما حصل في مرحلة الصراع بين الشرق والغرب والدين والدولة في تركيا تحت قيادة اتاتورك.
وقد لاحظت من خلال دراستي لتاريخ الثقافة والادب أن هناك ديناميكية حضارية تؤدي الى التطور والتنوير، يقابلها ديناميكية الجمود تحت حكم السلطان الجائر، وقد رأى العلماء، ان هناك صنفين من الحكام، الامام العادل، وهو الذي يتبع احكام الكتاب والسنة لصالح المؤمنين والمجتمع في الدنيا والآخرة، ويحكم بالعدل، وهو ميزة يجب ان يتميز بها الملوك وولاة الامور لرفاه الرعية والمملكة، أما الإمام الجائر فهو الظالم الذي يحكم بهواه عن جهل، ويظلم الرعية ويبتز اموالها ويسوقها لتحقيق اطماعه الى أن تقوده الى الهلاك، وقال بعض العلماء بجواز الثورة على مثل هذا الإمام الجائر. ولأهمية العدل قالت العلماء: quot;المُـلـْكُ يبقى على الكفر والعدل، ولا يبقى على الجور والايمانquot;. والأديان تأمر وتنهى ولها مقدسات لا يجوز تجاوزها وهي تعرف كل شيء عن خير الانسان في الدنيا والآخرة، أما في العلم الحديث فلا يوجد مقدسات والبحث العلمي مباح في كل موضوع وعن كل شيء، ويتيح للأنسان حرية التفكير والاختبار والاختيار.
أما في مضمار الثقافة والأدب العربي الحديث فقد رأى المنظرون والأدباء والشعراء المجددون خاصة أن لا مجال للتلفيق والتوفيق بين القديم والحديث وأن من الأولى رؤية الحداثة كمشاركة في العلوم والثقافة والأدب العالمي الحديث من المرحلة التي بلغتها هذه العلوم في العالم اليوم. هذا ما دعا اليه الاديب نجيب محفوظ في روايته الرائدة quot;أولاد حارتناquot; والمفكر الكبير أنيس منصور في كتبه العديدة التي دعا فيها الى العولمة والمشاركة في العلوم الحديثة وغيرهما من كبار المثقفين العرب، وكان هذا موقف الشاعر الكبير بدر شاكر السياب في حركة quot;الشعر الحرquot; ومجلة quot;شعرquot; ومدرسة quot;قصيدة النثرquot; بريادة أدونيس وموقف مجلة quot;إيلافquot; المشجعة لحرية الفكر والتعبير والديموقراطية لمحررها عثمان العمير ومحرر زاوية quot;ثقافاتquot; وquot;كُتـّّاب اليومquot; فيها، الشاعر عبد القادر الجنابي وموقفه من السريالية.
روادتني هذه الأفكار عند مشاركتي في مؤتمر كمبريدج عن quot;يهود الحضارة العربيةquot; (22 حزيران / يونيو، 2009)، برعاية صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال وعقيلته الأميرة ثروت الحسن، واستماعي الى خطاب سموه وهو المفكر الرائد والمثقف الباحث المجدد حول حوار الأديان والثقافات. ادركت مع المشاركين في المؤتمر بأننا أمام مفكر نبيه تتشوف إليه آمال شعوب العالم عامة ومنطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا خاصة للتوصل الى سلام شامل عن طريق البحث العلمي والتكنولوجيا الحديثة ودراسة مشاكل المنطقة بصورة موضوعية وجذرية بالمشاركة في الندوات والمؤتمرات الفكرية والاقتصادية العالمية. فقد وجدت نفسي أمام شخصية تختلف اختلافا كبيرا عن الزعماء الذين شاهدتهم وسمعتهم وقرأت لهم وعنهم، فهو ذو منهج فكري واضح واطلاع واسع على العلوم الحديثة ومعرفة باللغات الاوروبية والشرقية ودراسات علمية في ارقى الجامعات في العالم ومؤلفات عميقة مدعومة بالوثائق والمقالات والكتب العلمية والمنطق السليم، والاهم من ذلك كله، أصالة في التفكير ونظريات انسانية مبشرة بالسلام والتعاون بين الشعوب والتسامح والاعتدال وحوار الاديان والحضارات والوقوف على اسباب التخلف والفقر والبيئة والمياه والتطرف والإرهاب للتوصل الى حل وسط لخير الجميع والتعاون بين علماء الشرق والغرب والمبادرة الى تشكيل لجان ومؤتمرات يشارك فيها كبار العلماء في العالم لحل المشكلات والمخاطر التي تواجه الإنسانية. فهو يرى ان العلم الحديث والتكنولوجيا والحوار والتعاون بين الشعوب هي الطرق القويمة والسبيل الى خير الانسانية ومستقبل الأجيال القادمة. وكتاب سموه quot;الأعمال الفكريةquot;، المجلد الأول (2007)، في 744 صفحة، هو خير دليل على ما نقول.
وعليه فقد كانت مراسيم الاستقبال مختلفة عما عهدناها في مثل هذه المؤتمرات، فقد حضر سموه مع عقيلته الاميرة ثروت الحسن في الوقت المعين، وعجبت عند لقائي به لدقته في المحافظة على المواعيد، وقوة الذاكرة والثقة بالنفس واستقباله للضيوف بحفاوة وبترحاب أبوي عربي اصيل وبشاشة وتواضع نادري المثال. فقد شرعا يتعرفان على المدعوين ويصافحانهم بكل حرية وود. كنت قد سمعت عن سموه وأخلاقه الكريمة ودراساته اللغة العبرية والفكر اليهودي من صديقي البروفيسور فيليب الكسندر من جامعة مانشستر عندما كان في عام 1992 رئيسا quot;لمركز أكسفورد للغة العبرية والدراسات اليهوديةquot; الواقع في ضاحية يارنتون باكسفورد. تحدث الاستاذ الكسندر عن نبوغ الامير وثقافته الواسعة واطلاعه الكبير على العلوم الحديثة وتفوقه في دراسة العلوم السياسية والاقتصادية وفي اللغات الغربية والشرقية كاللغة العبرية، وكيف اعترته الدهشة المشوبة بالرهبة عندما اخبرته سكرتيرة المركز ان ولي العهد الأردني (آنذاك)، سمو الامير الملكي الحسن بن طلال يطلب مكالمته هاتفيا. أما هنا فلا رهبة ولا ارتباك ولا حرس يحيط بسموه ولا آلات فحص الكترونية للكشف عن السلاح والمتفجرات وبدون خلع احذية واحزمة، بل الكل مطمئن مستبشر بقدومهما في باحة كلية ويستكوت هاوس.
كان سموهما محاطين بجمع غفير من كبار أساتذة جامعة كمبريدح ومن الدبلوماسيين من سفراء الأردن وغيرها من الدول العربية والاسلامية والعلماء والمحاضرين المشاركين في المؤتمر والمدعوين من جميع اطراف المملكة المتحدة وأوروبا واسرائيل، وعرفت بينهم الكثير من العراقيين من مسلمين ومسيحيين ويهود من اللاجئين الى انكلترا قدموا من لندن ومانشستر وغيرهما من المدن البريطانية، وكان من ابرزهم السيدة تامارا الداغستاني بقامتها الارستقراطية السامقة ولهجتها البغدادية واللواء السابق في الجيش العراقي الطبيب د. غازي الجميل بلهجته الموصلية، ومن اليهود الهاربين من العراق تعرفت على زعمائهم، ادوين شكر وداود ساسون ود. شاؤول اسحاقي ود. منشي طحان وزوجته الدكتورة إيلانه حاملة وسام الأمبراطورية البريطانية، والكاتبة راحيل شابي، وغيرهم ممن قدم من المدن البريطانية للمشاركة في المؤتمر والاحتفاء بسموه بصورة فريدة. لم استطع التخلص من الشعور بان هؤلاء العراقيين جاؤا للقاء خاص يحدوهم الحنين الى ماضيهم، لقاء يرى في سموه الهاشمي رمزا وطنيا عاطفيا يشير الى تعلقهم بالعهد الملكي الهاشمي في العراق وحنينهم اليه، الى عهد الوفاق والسلام والأمن.
وعندما تلتقي بشخصية سياسية أو علمية او دينية عالمية، لا بد وان تتبادر الى الذهن شخصيات اخرى تستعرض نفسها للمقارنة. هنا لم يرتد ِ سموه لا عباءة بدوية من وبر الجمال ليؤكد عروبته واسلاميته، ولم ينصب له خيمة ليؤكد انتماءه واعتزازه بعروبته البدوية، وقارنتُ بين الاميرة عقيلته وبين سيدات من زوجات رؤساء الوزراء اللواتي يتعلقن بأزوجهن في حلهم وترحالهم وعلى شفاههن ابتسامة كبرياء فخورة، ابتسامة يسميها العراقيون ابتسامة quot;شوفوني يا ناسquot;. فكل شيء في الاميرة يدل على الحشمة والبساطة والتواضع وهي خصال حميدة متعارف عليها عند العائلات المالكة والطبقات العليا. وتذكّرتُ كيف أنني عندما دعيت في حفل عيد الاستقلال لاستلام جائزة الدولة عام 1999 في أورشليم-القدس، وكان واقفا أمام منصة الشرف كل من رئيس الدولة ورئيس الوزراء ووزير الثقافة والتعليم ورئيس المحكمة العليا والسيد اهود أولمرت رئيس بلدية العاصمة آنذاك، ابتسم لي الجميع سوى رئيس الوزراء، فقد صافحني بوجه صارم دون ان تشوبه مشاعر اعجاب أو تشجيع. قلت لاخي ريموند: quot;كان رئيس الوزراء شاردا بفكره نحو معركة الانتخابات القادمة ولم يبتسمquot;، أجابني وهو الفيزيائي الذي لا يكترث بالعواطف قائلا: quot;لا أظن ذلك! فرئيس الوزراء هو من دهاة رجال الاقتصاد والسياسة، لكن لو كنتَ قد نلتَ الجائزة لتفوقك في العلوم الاقتصادية والسياسية أو لو كنت من لاعبي كرة القدم، لابتسم لك!!quot;.
كان سموه يستقبل جمهور المحتفين المحيطين به بتعاطف أبوي، ولا ادري لماذا تبادرت الى ذهني أبيات للشاعر المتنبي، عبقري الشعر العربي العباسي وقوله يمدح الامير سيف الدولة الحمداني الذي دوخ الروم بحروبه، حين قال مخاطبا ممدوحه في زمن كانت الدنيا مقسّمة فيه الى دارين، دار الاسلام ودار الحرب، ومفاخرا بانتصارات أميره وبطولاته:

تمرّ بكَ الأبطالُ كلمَى هَزيمَة ًووجهكَ وضاحٌ وثغرُكَ باسمُ

أما سموه، فيقف بين العلماء والدبلوماسيين والمشاركين في المؤتمر ليدعو الى السلام وحوار الاديان والتسامح وحل مشاكل الانسانية عن طريق العلوم والتضامن العالمي، لا الحروب والعنف والموتٍ العبثي، بل دفاعا عن قدسية الحياة، لذلك همست لنفسي مخاطبا سموّه ومعارضا بيت المتنبي:

تحيط بك quot;الأضْيَافُquot; جَذلى سعيدة ًquot;ووجهكَ وَضّاحٌ وثغرُك باسمُ quot;

وكان من الأولى أن اقول: تحيط بك quot;العُـلـَمَاءُquot;، بدل quot;الأضْيَافُquot;، لمطابقتها للواقع، ولكني أدركت أنني محتاج في هذه الحالة الى ضرورة شعرية لم استحبها هنا، وهي تسكين حرف اللام المتحرك في كلمة quot;العـُلـَمَاءquot;. أما كلمة quot;الأبطالquot; الموسيقية في بيت المتنبي، فإنها تضفي على البيت عظمة شوكة الإسلام في تلك العصور، عندما كان quot;الجهاد الأصغرquot; هو الطريقة المثلى في الصراع بين الأديان والحضارات، وحمدت الله بانني اهمس هذا البيت لنفسي لا لسموه أمام الجميع.
والعجيب أنني لست الوحيد الذي وجد صلة بين سمو الأمير الحسن والشاعر المتنبي الكوفي. نشر الشاعر د. جبار جمال الدين من جامعة الكوفة قصيدة quot;أمير الفكرquot; في 22/10/ 2009 في موقع جريدة quot;الأخبارquot; الألكترونية لمحررها الاستاذ نوري علي بعد قراءته لذكرياتي (رقم 46-48) عن مؤتمر كمبريدج المنشورة في مجلة quot;إيلافquot; الغراء. وفي هذه القصيدة أشاد الشاعر بآراء سمو الامير الحسن الانسانية، فوجدتُ أن ستة من بين 20 من المعلقين تبادر الى أذهانهم الأمير سيف الدولة وشاعره المتنبي، وقارن بين سمو الأمير الحسن ود. جبار جمال الدين شاعر الكوفة. ففي تعليق د. عبد الجبار السعيدي بعنوان quot;من المتنبي الى جبار جمال الدينquot; نجد أنه أدرك بحدسه المرهف هذا التشابه، وشاركه الرأي كل من الأديبة دلال الخالدي ونوال البارودي ود. صباح العريض ود. ضياء العاني والاستاذ حسنين شمران الطفيلي. وها هي الاديبة دلال الخالدي تقول: quot;حين قرات هذه القصيدة الرائعة شعرت اني في مجلس من مجالس الامير سيف الدولة الحمداني وعصورنا الذهبية، والمتنبي ينشده الشعر. الامير الحمداني والامير الحسن كلاهما من امراء الفكر quot;. أذكر هذا التشابه لكي اضع بين يدي القراء نموذجا آخر على توارد الخواطر بين المفكرين والعلماء في ظروف ثقافية متشابهة.
شجعتني بشاشة سمو الامير وترحابه بالجميع على تقديم نفسي الى سموه وتحيته باسم quot;رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراقquot;. تقدمت منه بخطى مترددة، إذ تذكرت حديث البروفيسور فيليب ألكسندر والرهبة التي اصابته من هيبة الحديث مع سموه. فسمو الأمير من كبار العلماء ولعله الوحيد بين الزعماء العرب والمسلمين من الذين درسوا الفكر اليهودي واللغة العبرية وآدابها، وتبحروا في العلوم الآهوتية والفلسفية والسياسية والاقتصادية في العصر الحديث، ومثل هؤلاء العلماء معروفون بالتواضع ودماثة الأخلاق. تقدمت نحو سموه وقد شجعني ترحابه وبشاشته للمحتفين به، وقلت لسموه مصافحا: quot;استاذ الأدب العربي الحديث في الجامعة العبرية ورئيس رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق!quot; لم أدر ما الذي اسقط الحواجز الرسمية بيننا بمثل هذه السرعة؟ هل هو اللقب الجامعي أم جملة quot;يهود العراقquot; موضوع المؤتمر؟ فما كان من سموه إلا ان احتضنني كمن يلاقي اخا عزيزا له افتقده منذ سنين طويلة. أثارتني هذه الحفاوة وهزتني من الأعماق، فسموه من أقرباء ملك العراق المرحوم فيصل الثاني الذي احببناه والذي كان يكبر المغفور له الملك الحسين بن طلال بسنة واحدة و-12 عاما على ولادة سموه حفظه الله. سألت نفسي، هل أثار اهتمام سموه ذِكرُ اسم quot;العراقquot; الذي كان جلالة الملك فيصل الأول من أعمامه؟ هذا الملك الذي انتشل العراق في فترة قصيرة ونقله من الجمود العثماني الى مصاف الدول البرلمانية الناهضة؟ أم اسم quot;رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراقquot;؟
أما انا فقد أعادني هذا اللقاء الحار في لحظة خاطفة الى العهد الملكي وذكريات الطفولة في العراق، الى ملكنا اليتيم المفدى فيصل الثاني. تذكرت كيف نادتني ربيبة الملكة عالية (واسمها فريدة على ما اتذكر) وهي احدى ست يتيمات ربتهن العائلة المالكة رحمة بهن، والتمستْ من المعلمة خروجي من الصف بطلب من الست فاطمة للاشتراك في اعداد هدية لجلالته في عيد ميلاده قائلة: quot;صاحب الجلالة الملك فيصل الثاني المعظم سيشرف مدرستنا بعد قليل وعلينا تقديم هدية لهquot;، ثم أردفت: quot;تقول الست فاطمة إن سامي يحسن صنع الجـِمال من الطين الحر، وهي ترغب في نقديم هدية له بمناسية عيد ميلاد جلالته على صورة واحة من الجمال والخيول والخيام حول بئر ماءquot;. تذكرت الفتاة اليتيمة السمراء بقامتها الطويلة وباقي اخواتها اللواتي كن يدرسن معنا في مدرسة السعدون تقلـّهن سيارة البلاط الملكي كل صباح للدراسة معنا، وكانت فريدة تهوى مداعبتي بأن تلوح بكفها أمام عيني لترى كيف كانت تخفق جفوني دون إرادة مني وتضحك من اعماق قلبها. ثم قرأت عنها فيما بعد انها كانت مع الملك الشهيد وعبد الإله والحاشية صباح يوم 14 تموز 1958 المشؤوم حينما هاجم الجيش قصر الرحاب، وكيف خرجت العائلة المالكة وفي مقدمتها الملكة نفيسة والدة عبد الإله. فلما رأت رجال الجيش يسددون السلاح الى صدورهم، أيقنت جدته الملكة نفيسة خطورة الموقف، وحاولت انقاذ حياة حفيدها الملك الشاب الوحيد من الموت ووضعت القرآن الكريم على رأسه لتحميه من الحقد الأسود الذي اندلع من عيون شريرة تقدح شررا كفوهة الرشاشات التي حملها المهاجمون في مذبحة قصر الرحاب مطلقين رصاصات الغدر على العائلة المالكة المسالمة. نعم، أطلقوا النار بالرغم من أن الأمير عبد الإله فضل الاستسلام حقنا للدماء ووافق على تنازل الملك الشاب عن العرش ومغادرة العراق، ولكن هيهات! لم يخش المتمردون احفاد حاصبي الحجاج ناكثي دعوتهم للحسين في كربلاء، من المساس بحرمة القرآن الكريم الذي انزل على جده النبي الكريم، ولم يتذكروا أن الله يُمهل ولا يُهمل، فصدر الأمر المريع بأطلاق رصاص الغدر، فاستباحوا حرمة آل البيت، كما استباح الأمويون حرمة الحسين الذبيح وآله وكونه حبيب الرسول وحفيده سيد شباب الجنة في وقعة كربلاء الدامية. والى اليوم يحز في نفسي قول القاتل الأثيم عبد الستار العبوسي الذي اطلق النار على سليل آل البيت بقوله مفاخرا: quot;اطلقت النار وهوى الجميع كالسعفة الساقطةquot;، فكان جزاء هذا المجرم الأثيم الجنون والانتحار. ومرة اخرى، يقتل الثوار والمتمردون ملكهم غدرا فيدفعهم تأنيب الضمير الى الانتحارويدفع باقي المتآمرين الثمن بأن يقتل بعضهم البعض فيما بعد، والثورات تأكل أبناءها، كما حدث في كثير من الثورات وابرزها الثورة الفرنسية. هل هذا انتقام لدني؟ وإذا كان كذلك فلماذا اتاح جيش الرحمن فرصة لجيش الشيطان؟ أم ان الامر كما كان اليونان يقولون، إن الأقدار تعبث بمصائر البشر، كما يعبث القط بالفار الذي يقع بين مخالبه وأنيابه وليمة سائغة.
سمعنا عن كل هذه الأحداث الدامية بعد هجرتنا، وبكينا شباب هذا الملك الشاب المحبوب والبرئ الذي أُخِذ َ بجريرة غيره. قالت والدتي وهي تبكي شبابه الغض: quot;ملك شاب في مقتبل العمر لم يهنأ في حياته منذ ان تيتم، يقتل وهو في عز شبابه وفرحة خطوبته، فيكون دمه الزكي في تلك الليلة خضابه بدل ليلة الحناء، آه يا ولدي، الف رحمة على روحك الطاهرة!quot;.
وليهود العراق ذكرى عطرة مع أخلاق جلالته السامية منذ نعومة أظفاره. حدثني الصديق لطيف الياس الذي قام بالدور الرئيسي في تمثيلية quot;يأس ورجاءquot; من تأليف أخيه نوري منشي استاذ الحساب والجبر في مدرسة فرنك عيني في بغداد ونظم اناشيدها مدرس اللغة العربية فيها محمد حسن الصوري، قال: قمت بالدور الرئيسي في مسرحية quot;يأس ورجاءquot; التي مثلت على مسرح قاعة الملك فيصل الثاني في سنة 1943 برعاية الملك المفدى، لمنفعة quot;جمعية حماية الأطفالquot; التي كان رئيسا لها. أعجب جلالته بتمثيل الفتى لطيف الياس وبغنائه، ودعاه جلالته الى مقصورته وهنأه على نجاحه في هذه الاوبريته ثم دعاه لزيارته في قصر الزهور لمشاهدة بعض الأفلام معه، وارسل سيارته وسائقه والمرافق لجلالته ليأتي بالممثل والمغني الموهوب واجلسه الى جواره في إحدي قاعات القصر لمشاهدة الافلام السينمائية سوية. فأي تواضع وأية مساواة رائعة وأي تقدير للمواهب الفنية تمتع بها هذا الملك الطفل الذي لو كان اليوم حيا يرزق لكان في عمر يقارب عمر المغفور له جلالة الملك الحسين الأخ الأكبر لسمو الامير الحسن حفظه الله ورعاه.
وفي 14 تموز، 1958 كان حمام الدم الغادر في قصر الرحاب ثم السحل والتعليق على اعمدة الكهرباء في الشوارع، وانطلقت شياطين الحقد الاسود من القمقم الذي انفجرت سدادته. أعمى الحقد الأسود بصيرة الانقلابيين، ولم تكن حدة طباع هؤلاء العسكريين العراقيين تتيح لهم التروي والمحافظة على طهارة السلاح وعلى برودة اعصابهم أو كرامة العائلة المالكة الهاشمية أو احترام الاعراف الدينية والأخلاقية، من احترام آل البيت النبوي وعدم المس بالنساء والشرف العسكري يحضر اغتيال من يرفع علما ابيض، ناهيك عن رفع القرآن الكريم. قال لي اللواء غازي الجميل: quot;لم يبق عرف مقدس لم يدنسوه. دنسوا سلاحهم، وشرفهم ولم يحافظوا على طهارتهquot;. وتذكرت كيف حافظ الضباط المصريون الأحرار على طهارة سلاحهم وشرفهم العسكري بضبط النفس والتروي واحترام العائلة المالكة. كان موقف الضباط المصريين الأحرار مشرفا نبيلا حافظوا فيه على كرامتهم وكرامة ملكهم وبلادهم، فارسلوا الملك فاروق وعائلته المالكة المعزولة على يخته حرا طليقا مع تحية عسكرية مشرفة تشرف كل ثائر يحترم نفسه ورموز بلاده وتاريخه، والعفو عند المقدرة من انبل الصفات، وستبقى مكرمتهم هذه بقاء الأهرام خالدة في التاريخ الحديث.
استيقظت من سرحة ذكريات الطفولة عندما انطلقنا الى قاعة الطعام والوليمة التي اولمها سموه للمشاركين في المؤتمر. كان أمام كل كرسي اسم الشخص المدعو وكان مكان جلوسي على المائدة الرئيسية، ولما مر سموه من وراء الكرسي الذي كنت جالسا عليه قمت واقفا احتراما له لافسح له الطريق، فما كان منه إلا ان منعني من النهوض بحزم وود، لانه يستطيع ان يمر الى مكان جلوسه بسهولة. وتذكرت ما رواه لي الاستاذ كاظم حبيب أثناء زيارتي له في

تصوير د. أمل بورتر: مدرسة السعدون النموذجية، سنة 2009

برلين، وكيف ان صدام حسين عندما لاحظ في اثناء محاضرة الدكتور فخري قدوري رئيس مكتب الشؤون الاقتصادية لمجلس قيادة الثورة العراقية آنذاك، أن المصور التلفزيوني يركز عدسته على المحاضر، أوعز إلى مساعده بعد ان شفع أمره بمسبة مقذعة لا يتفوه بها من كان في مكانته، أن توجه الكاميرا عليه quot; وبَـسْ quot;، ولكن quot;لاَ يُكلّفُ اللهُ نـَفـْسًا إلاّ وَسْعَهاquot;، واخلاق الملوك تدل على منبتهم ومَحْتِدهم.
وبعد العشاء دعيت الى تقديم هدية متواضعة الى سموه، تضمنت كتابين لي عن الشعر العربي الحديث وعن المسرح العربي في القرون الوسطى نشرتهما باللغة الانكليزية وكتابين من منشورات رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق باللغة العربية. وقد تقبلهما سيادته شاكرا وصافحني مهنئا غير مكترث بآلات التصوير التلفزيونية وبالمصورين واضواء آلات التصوير تومض كل ثانية ومن كل حدب وصوب كالبروق الخاطفة.
ألقى سموه خطابه التاريخي عن حوار الاديان ومبادرته الى عقد المؤتمرات ولقائه برؤساء رجال الدين من اليهود والمسلمين والمسيحيين ودعوته الى ضرورة التفاهم والحوار المتبادل للتقريب بين اباع الديانات وللتوفيق بين شتى المذاهب لبناء جسور التعاون بين ابناء الثقافات والديانات عن طريق الحوار وايمانه بأن الحقيقة ليست حكرا على طرف دون الآخر، وكيف ان سموه شارك السيد quot;يهودي منوحينquot; عازف الكمان والموسيقي الانكليزي الشهير، الدعوة الى انشاء quot;برلمان للثقافاتquot; في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، بالإضافة الى إنشاء مؤسسة الثقافات الدولية عام 2002 لتعزيز الفهم والتفاهم بين شتى الثقافات في العالم وتشجيع الحوار بين المفكرين والمثقفين عن طريق quot;برلمان الثقافاتquot;.
انصتَ الجميع باعجاب الى خطابه البليغ باللغة الانكليزية. وكان الشعور السائد هو ان أمير الفكر سمو الامير الملكي الحسن بن طلال هو رسول السلام الذي كنا ننتظره وباركنا هذه الخطوة الجبارة نحو انقاذ الشرق الاوسط من ويلات الحروب بخطابه المبارك. وبهذا الخطاب وبنشاطه ومقالاته وخطبه، يتم سموه رسالة الزعيمين العظيمين رائدي السلام في الشرق الأوسط من القادة العسكريين، سيادة الرئيس المصري المرحوم محمد أنور السادات والمغفور له صاحب الجلالة الملك الحسين بن طلال في عقد اتفاقية السلام مع اسرائيل، وكلاهما من ذوي الآراء التنويرية والحساسية الصوفية والإخاء الإنساني. لقد كان شعوري بأنني تعرفت أخيرا على المفكر الكبير والوحيد الذي يستطيع بثقافته الواسعة وشعوره برسالته الإنسانية ومحتِده الشريف ونسبه الهاشمي وذكائه ونشاطه الدائم أن يكون ضمير أمة ولسان حالها الداعي الى استبدال الجهاد الأصغر، الجهاد بالسيف، الى الجهاد الأكبر، جهاد النفس، الذي يحتاج اليه العالم اليوم.
بارك الله في سمو ألامير الحسن، أمير الفكر والسلام العالمي وحقق آماله رأفة بالانسانية التي تقف اليوم على حافة انهيار القيم الخالدة والتهديد بحروب ذرية مبيدة، ليقودها الى طريق التعاون والتفاهم والعلوم الحديثة لخير الإنسانية جمعاء.

(التتمة في الحلقة القادمة، رقم 50)
كتبت هذه الذكريات لتنشر في مجلة quot;إيلافquot;،
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف،
لا يجوز نشر هذه الذكريات بأية صورة كانت بدون اتفاقية وإذن خطي من المؤلف.