في فرنسا ضجة حول نية حكومتها تشريع قانون يحظر النقاب، [والبرقع أيضا بالطبع، أي الغطاء الطالباني]، في جميع الأماكن العامة. وكان الرئيس الفرنسي قد دعا لذلك منذ شهور، والخطوات اليوم تتسارع لإصدار القانون. وقبل فرنسا، تتالت الأنباء عن أن بلجيكا ستكون الدولة الغربية الأولى في حظر النقاب.
كالعادة، هذه القضية تثير احتجاجات فريق متزايد من المسلمين، وخصوصا المتطرفين الإسلاميين، ولكن ليس هم وحدهم. فهناك أيضا الدعاة الإسلاميون الذين يتخذون مظهر quot;الاعتدالquot; ولكنهم يسوّقون نفس قيم التخلف والتطرف باسم الدين، ولكن بكل لباقة وذكاء. وهؤلاء، في نظري، أكثر خطرا بكثير من الفقهاء المكشوفين للتطرف الإسلامي.
إن الحزب الفرنسي الحاكم وأطراف الحكومة ولفيفا كبيرا في البرلمان الفرنسي، يركزون على كون النقاب امتهانا لكرامة المرأة وشخصيتها وانتهاكا لعلمانية الدولة. وهذا كله صحيح تماما. وجدير بالذكر، بأن رئيس فريق العمل البرلماني الخاص بالقضية من الحزب الشيوعي. ولكن الاشتراكيين، وكعادتهم، يهاجمون الحكومة بدعوى أنها توجه النظر بعيدا عن مشاكل الشعب الملحة، وكأن الدفاع عن العلمانية ليس واجب الجميع، والأحرى أن يكون quot;اليسارquot; في المقدمة. فالاشتراكيون الفرنسيون لا يمكنهم الدفاع عن النقاب والبرقع، ولكنهم يريدون التشويش على القضية لمجرد أن الحكومة هي التي تتبنى القضية.
إن ما نلاحظه، خلال المناقشات الجارية منذ شهور، أن ثمة جانبا مهما من القضية قد أهمل تماما: وأعني الجانب الأمني. فالنقاب والبرقع يغطيان الوجه فيصعب التشخيص: فهل نحن أمام امرأة؟ أم أمام إرهابي؟! وقد تعددت حوادث تزييّ الإرهابيين بالزي النسائي المنقب أو المبرقع لاقتراف جرائم كبرى. وحدث ذلك في مكة نفسها خلال العدوان على الكعبة، وحدث منذ شهور قليلة في الصومال، حين قام إرهابي بزي امرأة منقبة بقتل 22 شخصا بينهم ثلاثة وزراء. ونعرف أيضا أن الذين يسطون بالقوة على البنوك هم أيضا يلبسون أقنعة تغطي الوجه لكيلا تكشف الكاميرات هوياتهم. وقد كانت حجة الحكومة الفرنسية تكون أقوى لو أثارت هذا الجانب الأمني أيضا في النقاش، مع الجانبين الآخرين: تحدي علمانية الدولة والعدوان على شخصية المرأة وكرامتها.
لقد وقع منذ أيام حادث عزز حجج الحكومة، وربما سيسرع صدور طرح مشروع القانون على البرلمان. الحادث، وهو اليوم مدار الأخبار والتعليقات، هو أن البوليس أوقف امرأة في مدينة [نانت] تسوق السيارة وهي منقبة.. البوليس أوقف سيارتها، وغرّمها لأن النقاب يقيد مدى الرؤية مما ينتهك قواعد المرور. ولكن المرأة رفضت دفع الغرامة، وراحت تدلي بتصريحات لصحفيين فضوليين، سرعان ما أحاطوا بها، ومعهم مسلمان ملتحيان مع الدشداشة والطاقية. وهنا انفجرت الفضيحة: فقد تبين أن هذه المرأة زوجة متطرف إسلامي له أربع زوجات، وتعددية الزوجات محظورة قانونا، وأول شروط الحصول على الجنسية الفرنسية هو التعهد بعدم تعدد الزوجات. الأنكى من ذلك، أن الزوج وزوجاته الأربع ـ [ولهما 12 ولدا بالتمام!]ـ مارسوا الغش والاحتيال. فكل زوجة كانت تسجل نفسها لدى دوائر الضمان الاجتماعي كأم لها أولاد ولكنها غير متزوجة ، فتقبض المخصصات المالية التي تدفعها البلديات عن كل ولد. وكان الزوج، وهو من جماعة أصولية معروفة للبوليس، قد تزوج فرنسية مسلمة لكي يحصل على الجنسية، وتفكر الحكومة نزع الجنسية الفرنسية عنه لمخالفته قوانين الجمهورية. وبمحض quot;الصدفةquot;، كان الداعية الإسلامي quot;المعتدلquot; طارق رمضان في المدينة ليلقي محاضرة، فصرح بأن فرنسا quot;تخون قيمهاquot;!!!؟؟؟ هذا وفي النية قيام مظاهرات احتجاج هناك. وأما آخر التطورات، فإدعاء هذا الأصولي بأن له زوجة واحدة والبقية مجرد عشيقات!!؟
لسنا هنا لمناقشة هل أمر الإسلام بالنقاب، أم لا. فهذا ليس من اختصاصنا، ولكننا قرأنا كتابا صدر في التسعينات عن quot;الهيئة المصرية العامة للكتابquot;، بعنوان quot; النقاب في التاريخ ndash; في الدين- في علم الاجتماعquot;، تأليف الدكتور أحمد شوقي الغنجري.. ويؤكد المؤلف أن النقاب [ وطبعا البرقع] لم يأمر به القرآن، وأن الآية القرآنية عن quot;الخمارquot; لم تطلب حجب الوجه، وإلا لقالت الآيةquot; وليضربن بخمرهن على وجوههنquot;، ولكنها لم تقل ذلك. وكانت المرأة في صدر الإسلام مكشوفة الوجه والكفين، وكانت تمارس كل نشاطات الحياة العامة مع الرجال كاشفة وجهها. ومع بداية انهيار الدولة الإسلامية، بدأ ظهور النقاب والبرقع ، وخصوصا في العهد المملوكي.
هذا الرأي يؤكده أحمد صبحي منصور في بحث عنوانه quot; يسألونك عن الحجابquot;، [ أعيد نشره في صحيفة الحوار المتمدن عدد 22 نوفمبر 2006] . الكاتب هو أيضا يقول عن النقاب إنه quot;بدعة لم يعرفها عهد الرسول عليه السلام، إذ كان وجه المرأة وقتها مكشوفا معروفاquot;.
هناك أسئلة عديدة كبرى:: لماذا يصر فريق متزايد من المسلمات والمسلمين على تحدي قيم الدول الغربية ومحاولة فرض قيمهم؟ ولماذا محاولاتهم التمييز عن غيرهم، مع أنهم بمثابة ضيوف في بلدان تكرمهم وتعينهم وتفسح لهم حرية العبادة؟! ولماذا تساهل بعض الحكومات والقضاء في الغرب، و بريطانيا كمثال- ولكن ليس وحدها؟ وفي 18 نيسان الجاري، نشر الكاتب خالد الحروب مقالا في quot;الحياةquot; تحت عنوان quot; العلمانية في الغرب تشنق نفسها بحبل حرياتهاquot;. ويورد المقال وقائع جديدة في بريطانيا quot;استفزت شرائح واسعة من الرأي العام البريطانيquot;، كما قال، وهي أن محكمة قضت بعدم السماح لممرضة بارتداء صليب يتدلى من عنقها بمسوّغ السلامة العامة بحكم عملها، وفي الوقت نفسه، تم السماح للممرضات المسلمات بعدم الالتزام بتعليمات أخرى تنص على ضرورة طي الأكمام إلى الكوع عند تطبيق بعض الإجراءات الطبية. وهي التعليمات التي تهدف أيضا إلى ضمان السلامة العامة والتعقيم وسوى ذلك. يقول المقال: quot; [ الاستثناء الإسلامي] في هذه الحالة يقوم بشكل واضح على خشية السلطات الصحية من إثارة جزء من الجاليات المسلمة.... quot;. وهناك وقائع عن رفض بعض موظفي المتاجر الكبرى وضع زجاجات الخمور في أكياس المشترين. وفي إسبانيا ، أصرت طالبة مسلمة في السابعة عشرة على لبس الحجاب في المدرسة الحكومية، فرفضت الإدارة. ولكن وزير التربية الاشتراكي ألغى قرار إدارة المدرسة!! والواقع، أن فريقا واسعا من اليسار الغربي، وأوباما منهم، يتساهل في تطبيق العلمانية لأسباب انتخابية أو خوفا من إثارة غضب الجاليات المسلمة، وهو موقف يشجع المتطرفين على التمادي، وليس العكس.
إن تحدي شرائح من الجاليات المسلمة في الغرب لمبادئ وقوانين الدول الغربية، والإصرار على التمايز الاستعلائي على الآخرين، ممارسات سوف ترتد عواقبها على المسلمين في الغرب. وواجب المثقفين والكتاب العرب الموضوعيين، لاسيما الخليجيين منهم، انتقاد هذه الظاهرة بشجاعة ووضوح، ودحض مغالطات ودعايات المتطرفين، الذين يستغلون الدين ويتلاعبون به لمآرب شخصية أو أيديولوجية وسياسية.
هذا ولنا عودة للموضوع على ضوء التطورات الآتية..