كان الأحرى بالأنظمة العربية قبل فرنسا، أن تحظر النقاب الذي أصبح سلاحاً خشبياً سخيفاً وضعيفاً في وجه الآخر، حيث فقد دعاة النقاب، كل ما لديهم من سلاح فكري وثقافي وجدلي لمواجهة الآخر، أيا كان هذا الآخر في الشرق، أم في الغرب.
ولكنا نعلم، بأننا نطلب المستحيل من الأنظمة العربية لكي تحذو حذو فرنسا في حظر النقاب. فمعظم الأنظمة العربية تستمد شرعيتها من ترك الحبل على الغارب للدينيين الجدد المنقبين والمنقبات. لذا، نرى انتشار النقاب في الجامعات، وفي المستشفيات، بحيث لم تعد تعرف الطالب من الطالبة، ولا الممرضة من الممرض. وكانت العناصر الدينية الإرهابية وراء تشجيع النقاب، بحيث من السهل على أي إرهابي منقَّب أن ينفذ جريمته. وانتشر النقاب في الشوارع العربية، وزادها زبالة على زبالة وسواداً على سواد. ونتيجة لانتشار الفقر وزيادة نسبه في معظم أنحاء العالم العربي حسب تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة لعام 2009، فقد لبست المرأة أرخص الثياب، ووضعت على وجهها أرخص المساحيق، ورشَّت جسمها بأرخص العطور وبدت غير أنيقة وغير نظيفة، ولا ينظر إليها. وجاء النقاب والحجاب ليغطي كل هذه العيوب، وليغطي أيضاً عقل المرأة، التي أصبح النقاب عندها أهم من الكتاب، والحجاب هو الإسلام.

الشبق العربي والحجاب والنقاب
قال الليبراليون الأوائل في مطلع القرن العشرين أن الحجاب والنقاب كانا من أسباب الشبق العربي المتزايد، وانشغال العرب بالجنس، متمثلاً بالمرأة انشغالاً كبيراً. وهذا صحيح. وقد ثبت في هذه الأيام. فمع انتشار الحجاب والنقاب أصبحت الفتاوى الدينية التي تخص المرأة والجنس، هي النسبة الغالبة في هذه الفتاوى. فقرأنا فتوى إرضاع الكبير ndash; طبعة أولى. وقبل أيام قرأنا فتوى إرضاع الكبير - طبعة ثانية منقحة. والطبعات، سوف تتوالى غداً من عدة جهات. فقد انتهينا من حل جميع مشاكلنا وإشكالاتنا والحمد لله، ولم يتبق لدينا إلا موضوع إشكالية إرضاع الكبير. رغم أنه لا حليب لدينا لإرضاع الصغير أولاً.
فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وحسبي الله ونعم الوكيل، على هذا الزمن المالح والرديء.

التربية وليس الحجاب
لقد قال الليبراليون الأوائل لنا في مطلع القرن العشرين، أن الحجاب والنقاب كانا من أسباب الشبق العربي المتزايد وانشغال العرب بالجنس متمثلاً بالمرأة انشغالاً كبيراً، وكأنهم ما زالوا في جاهليتهم الأولى وفي صحرائهم المقفرة، لا همَّ لهم، ولا شغل شاغلاً لهم غير النساء، وما لديهن. والنظر إلى النساء كوسيلة للخلف والعلف فقط.
ولكن قاسم أمين (1863- 1908) اعتبر في كتابه (تحرير المرأة) quot;أن التربية وليس الحجاب، هي التي يُعوّل عليها في الأخلاق والعفة. إذ أن العفَّة ملكة في النفس، لا ثوب يختفي دونه الجسم.quot; وعدد قاسم أمين مساوئ الحجاب، وشرح أضراره، مؤكداً أنه لا يمنع الفساد، وأنه من بقايا quot;هيئتنا الاجتماعية الماضيةquot;. ولأنه ضار، فلا يمكن أن يكون شرعياً. كما عده منافياً للحرية الإنسانية، لأنه يعيق المرأة عن ممارسة حقوقها.
ونشأت في مصر، جمعيات خاصة بالسفور، ومحاربة وباء النقاب والحجاب. بل صدرت مجلة خاصة بالسفور quot;مجلة السفورquot;. وكان رئيس تحريرها عبد الحميد حمدي، الذي قال في أحد أعداد المجلة عام 1920، quot;إن السفور يعني ظهور المرأة في مكانتها اللائقة في الحياة - باعتبارها مخلوقة - لها حقوق طبيعية، يجب أن تحصل عليها، ولها وظيفة كبيرة يجب أن تؤديها.quot; وانبثق عن quot;حزب الدستوريين الأحرارquot; الليبرالي، وجريدتهم الأسبوعية (السياسة) quot;جماعة السفورquot;. وكان خطابهم جميعاً، يتركز على احترام تعاليم الدين، والانتفاع بها في تحرير المرأة، من العادات والتقاليد البالية، كما يقول بسام بطوش في بحثه quot;كيف تسللت الليبرالية إلى العالم الإسلامي؟quot;
فأين نحن الآن من كل هذا وذاك؟

لا عزل للمرأة عن الحياة
وقالت نبوية موسى، وهي كاتبة مصرية، في عام 1920 في بحثها quot;السفور والحجابquot;، إن الحجاب لا يعني quot;دفن النساء في المنازل، ولو كان الأمر كذلك لما أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بغض أبصارهم. وعمن يغض الرجل نظره، إذا كانت المرأة سجينة المنـزلquot;. وأيّد هذا القول شيخ الأزهر، وأستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة القاهرة الشيخ مصطفى عبد الرازق، شقيق الشيخ علي عبد الرازق. فرفض في عام 1925 في مجلة quot;الهلالquot; عزل المرأة عن الحياة، وشرح مساوئ وسلبيات التمسك بالحجاب، الذي يؤدي بالمرأة إلى الشعور بالعجز، والحاجة للحماية، وإلى ضعف النفس وضعف الجسم معاً.
فأين الآن شيخ الأزهر الشيخ مصطفى عبد الرازق، ليرى ما حلَّ بنا، وما حلَّ بشيوخنا من هرطقة وجهل؟

جناية التحجب على الأدب
وكتب الأديب حافظ محمود، مقالاً في جريدة quot;السياسةquot; عام 1928، تحت عنوان quot;جناية التحجب على الأدبquot; قال فيه quot;إن الحجاب يولد سوء الظن بين الرجل والمرأة. وهو يجني على الأدب والفن، لأن الشاعر والفنان لا يجد الكائن الجميل الذي يصوّره، أو هو لا يشعر به في الناحية الاجتماعية.quot;
وقال الشيخ علي عبد الرازق صاحب الكتاب المشهور quot;الإسلام وأصول الحكم، 1925quot; في مقاله في مجلة quot;الهلالquot; عام 1928: quot;quot;لقد علّمتنا التجربة في مصر أن السفور كبعض مسائل الحياة الأخرى، إنما يكون حلّه عن طريق العمل، لا عن طريق البحث والجدل. إننا أصبحنا نعتقد أن من الواجب علينا أن نحول بين الجدل - وخصوصاً الديني- وبين شؤون الحياة الاجتماعية العملية، بقدر ما يجب أن نحول بين حركة النهوض في الشرق، وبين كل ما يعوق ذلك النهوض.quot;
فأين نحن اليوم من كل هذا، ونحن غارقون في فتاوى الاختلاط وعدم الاختلاط، وفتاوى إرضاع الكبير؟

لا إصلاح دون اختلاط
وقد لاحظ آباؤنا الأوائل من الليبراليين، أن الفصل بين الجنسين هو ادعى إلى إثارة الشهوات، وفيه الكثير من سوء الظن بأخلاق المرأة والرجل، كما قال محمد حسني عبدالحميد في مقاله quot;في المنع ضرر وسوء ظن، الاختلاط بين الجنسين مشروعquot;، في quot; السياسةquot; الأسبوعية، 1927. أما محمود عزمي فقد قال في مقاله quot;مدى النهضة النسوية في مصر والشرق الأوسط، لا إصلاح من غير اختلاط وتعادل فكري بين الجنسينquot;، مجلة quot;الهلالquot;، 1928. أن quot;الاختلاط الصريح بين الجنسين له من الأهمية ما لتحقيق التعادل الفكري بين الرجال والنساء من أهمية، لذلك فإنه لا إمكانية quot;لإصلاح صحيح للجماعة الشرقية إلا إذا توافر فيها هذان العاملان توافراً شاملاً جريئاً.quot;
كل هذا قيل وكتب في مطلع القرن العشرين الماضي أي من حوالي مائة سنة، حيث كان آباؤنا الأولون، يدركون تماماً أن الحجاب والنقاب والفصل بين الجنسين سوف يخلق مجتمعاً مريضاً. وفعلاً فقد بدأ الاعتلال يظهر على المجتمع العربي، وبدأ وباء الحجاب والنقاب ينخر في المجتمع العربي المتهالك، منذ 1979 وقيام الثورة الرجعية الخمينية، وحراك الجماعات الإسلامية، حيث تم الفصل بين الجنسين. فقامت أسواق خاصة بالنساء، وبنوك نسائية، وتاكسي نسائي، ومطاعم نسائية. فشهدنا كيف أصبحت المرأة هي الفاكهة المحرمة؟ وكيف ازداد التحرش بالنساء في الشوارع والمراكز التجارية نتيجة لذلك؟ وكيف مارس بعض الشباب في الأرياف الجنس مع الحيوانات.
لقد كان آباؤنا الأولون تقدميين، ويعيشون في القرن الحادي والعشرين. أما نحن أبناء هذا الزمان، فما زلنا في جاهليتنا الأولى، وصحرائنا المقفرة!
السلام عليكم.