يطلق على سكان العراق القدماء العاملين في الزراعة بـ quot;النبطquot;، وهم على قول الخطيب البغدادي quot;الذين أستنبطوا الارض وعمروا سواد العراقquot; وحفروا الانهار العظام وشكلوا عامة سكان القرى والارياف الواسعة وقدر عددهم بعدة ملايين وهم من بقايا السومريين والاكديين والبابليين والعاموريين والكلدانيين والكاشيين والفرس والروم وغيرهم.
وبحسب الفيروزآبادي فالنبط هم quot;جيل ينزلون البطائح بين العراقيينquot;(أي سكان الاراضي المنخفضة والاهوار). اما ابن منظور فيقول:quot; النبط جيل ينزلون السوادquot;، وفي المحكم، وquot;ينزلون سواد العراقquot;، وهم الانباط والنسب اليهم نبطي. وفي الصحاح ينزلون البطائح بين العراقيين(البصرة والكوفة) ايضا. اما أبن عربي فيقول: يقال رجل نباطي بضم النون ونباطي بفتحه ولا تقل نبطي. وفي كلام أيوب ابن القرية: أهل عمان عرب استنبطوا وأهل البحرين نبط استعربوا. والنبط انما سموا نبطا لاستنباطهم ما يخرج من الارض، أي زرعها.وفي حديث لابن عباس: نحن معاشر قريش من النبط، من أهل كوثا ريا، قيل ان ابراهيم الخليل ولد بها وكان النبط سكانها. وجمع النبط انباط.
وانباط البتراء عرب سكنوا بين الجزيرة العربية والعراق والشام في مطلع الألف الاولى قبل الميلاد. ويرجعون في أصولهن الى عرب الجنوب. ومنذ القرن الخامس قبل الميلاد تطورت مدينة البتراء الى مركز هام للقوافل التجارية يربط بين جنوب الجزيرة العربية ومدن البحر الابيض المتوسط، وبلغت أوج ازدهارها في القرن الاول قبل الميلاد. وقد حاولت البتراء المحصنة بين الجبال المحافظة على استقلالها تجاه السلوقيين والرومان والتعاون معهما. وقد احتل الرومان البتراء عام 106 ميلادية وجعلوها ولاية تابعة لهم. وقد استمرت البتراء في نشاطها التجاري عدة قرون. واستعمل الانباط لغة قريبة من عربية قريش وأبجدية خاصة مشتقة من الآرامية وكانوا يعبدون الشمس.
و في الحيرة ظهرت امارة المناذرة وهم بني لخم او اللخميين وكانوا يدينون بالمسيحية النسطورية ويتكلمون اللغة الآرامية. وكان لموقعها اهمية كبيرة لانها تقع على ملتقى اهم طرق التجارة البرية التي تربط بين الجزيرة العربية ووادي الرافدين من جهة وبين وادي الرافدين والشام من جهة اخرى، اضافة الى قربها من المناطق الزراعية التي تقع غرب نهر الفرات.
وعلى الصعيد الديني والثقافي لعبت الحيرة دورا ثقافيا متميزا حيث اصبحت مركزا لجذب الكثير من الشعراء والادباء ورجال الدين. كما تعايشت في الحيرة،الوثنية العربية الى جانب المانوية والمزدكية والمسيحية النسطورية والمذهب التوحيدي لطبيعة المسيح. وكان المسيحيون quot;العبادquot; يشكلون الاغلبية. وكان الجو السائد في الحيرة جوا من الانسجام والتسامح، الاجتماعي والديني. واصبح دورها الثقافي والحضاري عظيما بعد ان تحولت الى مركز للثقافة والشعر العربي وملتقى لتيارات ثقافية مختلفة.
اما الغساسنة فكانوا فرعا من قبائل الازد العربية التي كانت تدين بالنصرانية وهاجرت من مدينة نجران في اليمن واستقرت شمال الجزيرة العربية في حوالي القرن الرابع الميلادي. و بسبب الصراعات المستمرة مع البيزنطينيين من جهة والساسانيين من جهة اخرى، فقد الغساسنة قوافلهم التجارية وكذلك قوتهم وسقطت امارة الغساسنة على ايدي الساسانيين عندما احتلوا الشام عام 613 م.
كما هاجرت قبائل عربية من نصارى اليمن الى عاقولا وهو الاسم السرياني للكوفة، التي سميت في الآرامية القديمة quot;كوثاquot;، التي تبدلت فيها الثاء فاء، كما يحدث كثيرا في اللغة السامية. وكانت تضم اكثر من عشرة أديرة يزاول فيها الطب وتقوم بدور ثقافي في نقل علوم الاقدمين وخاصة الفلسفة والطب اليوناني، الى جانب دور كوثا أو كوفا في تجارة القوافل عبر الصحراء وصناعة النسيج والطابوق المصنوع من الآجر المفخور بالنار.
وبعد الفتح الاسلامي للعراق بنى خالد القسري أول والي للكوفة كنيسة قرب جامع المدينة سميت بكنيسة أم خالد، ويعتقد ان ذلك يعود لأن أم خالد القسري كانت مسيحية.
وتعود الاصول الاثنية في العراق عموما الى مصدرين اساسيين هما، المصدر السامي، الذي وفد من الجزيرة العربية منذ اقدم الازمنة وتفرع الى عدة فروع كالاكديين والبابليين والاراميين والعبريين، والعرب الذين ينتمون الى ديانة من أصل مشترك واحد هي ديانة الساميين، التي تشكل كتلة بشرية كبيرة واحدة متجانسة انحدرت من شبه الجزيرة العربية وتعود أصولها اللغوية الى اللغة السامية الأم التي هي العامل في توحيد مادي ومعنوي لهم. كما ان هناك سمات مشتركة أخرى تجمع الشعوب السامية، وخاصة في نظرتها الى الكون والحياة، التي أثرت على بنية الديانات التوحيدية الكبرى، كاليهودية والمسيحية والاسلام. أما المصدر الاخر فهو الآسيوي، الذي يتكون من الشعوب الاندو-جيرمانية، التي تفرعت منها الايرانية والتركية والقفقاسية والمغولية وغيرها.
وقد سهل دخول سكان العراق القدماء الى الاسلام استبداد الطبقة الاقطاعية الفارسية واضطهاد رجال الدين المجوس لهم. والواقع ان سر قوة الاسلام وانتشاره السريع بين شعوب المناطق المفتوحة كونه منح الفرصة لمن يدخل في الاسلام ان يتخلى اولا من حالة التبعية والخضوع للقوى الاقطاعية المتسلطة، وفي ذات الوقت، توفير الفرص للمشاركة في الدولة الاسلامية الجديدة من خلال التطوع في الجيش والمشاركة في ادارة الدولة والتمتع بالغنائم في الفتوحات او دفع الجزية. وبمرور الزمن حدث تمازج وتزاوج وتثاقف بين العرب الفاتحين وسكان العراق القدماء من العرب وغيرهم، بحيث بقيت الجماعات التي لم تعتنق الاسلام على مسيحيتها ويهوديتها وصابئيتها، وكان المجال امامها مفتوحا لكي تلعب دورا هاما للمشاركة الفعالة في تطويرالثقافة والحضارة العربية- الاسلامية وبروزالبصرة والكوفة ثم بغداد كمراكز حضارية مزدهرة شارك في بنائها وتطورها وازدهارها عدد كبير من غير العرب والمسلمين ايضا.
وتشير أقدم المصادر الموثوقة حول بدايات نزوح القبائل العربية الى العراق الى حدود المائة الثانية قبل الميلاد حيث استقرت بعض القبائل العربية في منطقة العرفة عام 132 ق.م. وقد توالت موجات بدوية واحدة بعد الاخرى، سواء في شكل غزو أواستقرار او استيطان، او على شكل جماعات صغيرة مشروطة بالظروف الاقتصادية والجغرافية والسياسية.
وقد وجدت القبائل العربية ظروفا مناسبة للاستقرار والعمل والتعايش مع بيئة تلك المنطقة وسكانها واستخدام اعدادا كبيرة من الجمال في النقل، لأنهم وجدوا فيها بيئة مناسبة تصلح لرعي الابل والاستفادة من المراعي من دون المساس بمصالح المزارعين المحليين او التجاوز على مراعيهم. كما وجد سكان المناطق الزراعية المجاورة انهم بحاجة الى وسائط نقل اضافية تساعدهم في نقل البضائع الى مراكز المدن، وبخاصة في موسم الحصاد، فاخذوا يستخدمون الجمال باعداد كبيرة لنقل البضائع والمحاصيل الزراعية. وبالتدريج اقتحم الجمل قطاع النقل المحلي واخذ ينافس وسائط النقل التقليدية واقصاء العجلة التي كانت احد اهم وسائط النقل في منطقة وادي الرافدين. ويعتقد كثير من الانثروبولوجيين بانه لم يكن بامكان الجمل ان يقتحم ميدان النقل وينافس العجلة الا بعد ان تمكنت تلك الجماعات البدوية التي تمتلك الجمال من الاندماج في مجتمعات واقتصاد الشرق الاوسط.
وفي الحقيقة فان العلاقات الاقتصادية والاجتماعية التي قامت بين القبائل العربية وسكان وادي الرافدين القدماء لم تقم بين ليلة وضحاها، لان الاندماح في بيئة الاقتصاد الزراعي المحلي احتاج الى فترة زمنية مرت بها القبائل البدوية بمرحلة نصف بدوية، وهو نمط حياة بين البداوة والترحال وبين الاستقرار والتحول الى الزراعة. وبمرور الزمن استطاعت جماعات كبيرة منهم التحول من نمط الانتاج نصف الرعوي الى نمط الانتاج الزراعي والاستقرار على ضفاف الانهار.
وعندما تم فتح العراق من قبل المسلمين وسقوط الامبراطورية الساسانية كان في العراق حوالي سبعة ملايين اغلبيتهم الساحقة كانت تدين بالمسيحية (الكلدانية والنسطورية) الذين كانوا ورثة العلم المقدس وآخر ممثلين للعلماء والفلاسفة البابليين وورثتهم الشرعيين مع اقليات من اليهود والصابئة والمانوية ومجموعة من المجوس الذين يشكلون طبقة الاداريين والعسكريين والدهاقين، وهم وكلاء الملاكين الكبار.
وكان الفتح الاسلامي للعراق عام 639 م قد فتح الطريق لدخول قبائل عربية كبيرة من بينها قبائل قيس وتغلب، بالاضافة الى قبائل بدوية أخرى نزحت من وسط الجزيرة العربية ودخلت الاراضي العراقية، وبخاصة بعد انهيار الحضارة العربية الاسلامية في العراق وسقوط بغداد على أيدي المغول عام 1258 واستمرت حتى العصر الحديث.
وفي الحقيقة، فان انتشار القبائل البدوية في العراق بعد سقدط بغداد يعود الى اسباب عديدة في مقدمتها ضعف الدولة المركزية، التي لم تستطع بسط نفوذها على جميع اجزاء البلاد، والنزاعات المستمرة بين القبائل العربية، وانتشار الاوبئة والكوارث الطبيعية التي راح ضحيتها الكثير من سكان المدن وخاصة بغداد.
وعندما نتتبع اتجاه مسيرة الموجات البدوية التي تنطلق من بطن الجزيرة العربية، نلاحظ بان اغلبية هذه الموجات تنطلق من نجد متجهة نحو العراق مارة ببادية الشام، عابرة نهر الفرات لتحط رحالها في quot;الجزيرةquot;، التي تقع بين دجلة والفرات الى الشمال من بغداد، وهي منطقة شبه صحراوية وتعتبر من الناحية الجغرافية امتدادا طبيعيا لبادية الشام حيث لا يفصل بينهما سوى نهر الفرات وفيها عدد من الوديان والعيون والغدران، ومن اكبر وديانها وادي الحبانية. كما ان بعض القبائل العربية كانت قد عبرت نهر دجلة شرقا متجهة الى منطقة ديالى ومنها الى جنوب العراق.
وتوجد في العراق اليوم ثلاث قبائل عربية كبرى نزحت منذ وقت قريب من الجزيرة العربية وحطت رحالها في الجزيرة وهي: تميم وشمر وعنزة. وهناك اسباب جغرافية وظروف اقتصادية مختلفة ترتبط بوضعية كل قبيلة منها، مثل البحث عن مزارع جديدة لقطعانها، وبصورة خاصة في سنوات القحط، والبحث عن اسواق قريبة وكذلك دوافع قبلية ndash; سياسية، مثل النزاعات مع الحركة الوهابية من جهة، والصراعات بين قبائل شمر وغيرها من جهة اخرى.

المصادر:
1 - هشام جعيط، الكوفة، بيروت 2005
2 - روبرتسون سمث، ديانة الساميين، لندن 1894
3- انظر احمد أمين،ضحى الاسلام، الجزء الاول، القاهرة 1956
4- ابراهيم الحيدري، النظام الأبوي، دار الساقي، بيروت 2003
5- لويس ماسينيون، خطط البصرة وبغداد، ترجمة ابراهيم السامرائي، بيروت 1981
6- محمد سعيد الطريحي، الديارات والامكنة النصرانية في الكوفة وضواحيها، بيروت، ص1981
7- ياقوت الحموي، معجم البلدان، مادة نجرانية، ص 17
8- Luther Stein,Summer Gerba , Berlin 1967