تتزايد النظريات في الغرب وفي بلاد العرب عن اختيار إسلاميي مصر وتونس للخيار الديمقراطي وعن إعجابهم بما يسمى بالنموذج التركي- قاصدين حزب أردوغان الحاكم. هذا ما يبشر به روبرت فيسك وفريد زكريا ولبراسيون اليسارية الفرنسية ومنظمة الحريات الدينية الأميركية ووسائل إعلام يسارية أخرى في أميركا واوروبا الغربية. وهذا ما يبدو أنه صار قناعة لدى إدارة أوباما، التي أشارت بعض التعليقات الأميركية إلى استعدادها للتعايش مع حكم إسلامي في مصر و تونس.

بادئ ذي بدء، ليس حديثي هو عن مشاركة أو عدم مشاركة الإسلاميين العرب في الانتخابات أو حتى في حكومات، فهذا يخص حالة كل بلد وكل وضع، والإسلاميون مشاركون على أية حال في عدد من البرلمانات العربية. كما أنهم يحكمون العراق والسودان وغزة ويقررون مصير لبنان. فالسؤال المعروف عما إذا كان مسموحا، ديمقراطيا، لنشاط أحزاب تعادي الديمقراطية، هو سؤال إشكالي مزمن. وإن كان رأيي الشخصي هو حظر قيام الأحزاب السياسية على أساس ديني. ويكتب الأستاذ الشاعر المصري المعروف، أحمد معطي حجازي:

quot; من الطبيعي أن تعمل جماعات الإسلام السياسي في هذه الأيام على تشكيل أحزاب سياسية تمارس من خلالها نشاطها العملي، وتسعى للوصول إلى السلطة. ولا يحق لأحد يؤمن بالديمقراطية أن ينكر على هذه الجماعات حقها في أن تشكل هذه الأحزاب التي سمعنا وقرانا عن ثلاثة منها.. quot;، quot; غير أن تسليمنا لجماعات الإسلام السياسي بحقها في ممارسة نشاطها العلني لا يسلبنا حقنا في التساؤل عن علاقة هذه الجماعات بالديمقراطية وعن مدى إيمانها بها. وهل تكون الديمقراطية بالنسبة لهذه الجماعات مبدأ ثابتا لا يصح الخروج عليه، أم هي مجرد وسيلة مواصلات تحملها إلى غاياتها، فإن وضعت قدمها في السلطة أشعلت في الديمقراطية النار؟quot;

لقد لخص القرضاوي خيار الإخوان اليوم حين طالب بquot;حكم مدني له مرجعية إسلاميةquot;، وهو بذلك قد أجاب على فتاوى quot;التحول الديمقراطيquot; المزعوم للإسلاميين العرب. وquot;حكم مدني ذو مرجعية إسلاميةquot; هو صيغة أخرى لشعار quot; الإسلام هو الحلquot; وما إقحام وصف quot;حكم مدنيquot; إلا مغالطة ومن باب التلاعب بالألفاظ.النظام الديمقراطي يتعارض تماما مع الحكم باسم الدين، الذي هو عقيدة بين الرب وخالقه وليس بنظام سياسي كما يروجون. ولا داعي للتوقف طويلا عند هذه النقطة التي كثرت المقالات عنها في السنوات الأخيرة خاصة، بل منذ كتاب علي عبد الرازق. والإسلام السياسي يؤمن بأحكام الشريعة لا بمبدأ المواطنة الذي يعني أن المواطنين سواسية بصرف النظر عن الدين والمذهب والجنس والقومية، وأن الدين لله والوطن للجميع.

السيد الغنوشي والإخوان المصريون راحوا يتحدثون بثناء مفرط عن النموذج التركي باعتباره نموذجا يقتدى به. كما لاحظنا اتصالات أردوغان المكثفة بإخوان مصر كعلاقاتهم المعروفة بحماس غزة. فما قصة هذا النموذج الأردوغاني الذي يتحدث عنه، أيضا، فقهاء اليسار الغربي اليوم؟

الطرح الغربي المذكور يريد إقناعنا بأن حزب أردوغان هو الذي أقام الديمقراطية العلمانية في تركيا. والحال أن هذا الحزب هو ابن الحزب الديني المغالي السابق،quot; الرفاهquot;، الذي توفي زعيمه أربكان مؤخرا. وكان أردوغان من مريدي أربكان، وسبق أن حكم عليه بتهمة نشر الكراهية والتحريض على العنف بقراءته العلنية لقصيدة ورد فيها:

quot;المساجد ثكناتنا، والقباب خوذنا، والمآذن حرابنا، والمؤمنون جنودنا.quot; وقد حكم عليه عام 1998 ب 10 شهور سجن قضى منها 4 وخرج.

حزب العدالة والتنمية ليس هو من أسس الديمقراطية التركية، بل كانت موجودة قبله، وهي التي ركب انتخاباتها للوصول بحزبه للسلطة. ومنذ ذلك الوقت وهذا الحزب يعمل تدريجيا وبذكاء من أجل النخر في الطابع العلماني للمجتمع والنظام، وخصوصا بالتدخل في شؤون القضاء والتعليم، وبضرب الجيش مرة بعد أخرى بحجة وجود خطط تآمرية مشكوك في صحة الكثير من الدعاية حولها. ومعروف أن ضرب الدور السياسي للجيش التركي أمر مرغوب فيه غربيا نظرا لسوابق الانقلابات العسكرية في تركيا والمنطقة وفي أميركا اللاتينية؛ إلا أن الفارق في الحالة التركية هو أن المؤسسة العسكرية هي الضامن الأول لعلمانية النظام، ومعها المؤسسة القضائية وجهاز التعليم. وقد اخترق حزب أردوغان هذه المؤسسات الثلاث جميعا، بنشر الحجاب في دوائر الدولة والمدرسة، والتدخل في القضاء بعد الاستفتاء المعروف في أيلول الماضي، وكذلك حملات اعتقال الضباط والجنرالات المتهمين، [ويا للعجب] بالتخطيط لهدم المساجد،- من بين تهم أخرى [ انظر quot; الحياةquot; في 14 فبراير 2011 عن الشكوك الكبيرة في صحة الأدلة التي سبقت اتهام ال162 ضابطا وجنرالا]. ومع هذه الاعتقالات، تجري حملة شرسة ضد الصحفيين دون أن نسمع من أوباما كلمة نقد كما لم ينطق بكلمة عن انتهاكات المالكي للحريات! وقد سبق أن نشرت النيويورك تايمس اليسارية نفسها تقريرا عن تفشي مظاهر الأسلمة في المجتمع التركي، خصوصا في المدن والبلديات التي يحكمها حزب أردوغان، ومن ذلك الاعتداء على حشد جاء للمشاركة في افتتاح معرض فني، وحظر احتساء الخمر في تلك البلديات، وتزايد الضغوط الاجتماعية لفرض الصوم في رمضان. فهناك، على حد وصف الصحيفة،quot; عملية استقطاب إزاء معايير نمط الحياة والقيم.quot; كما انتشرت الدعاية للإمبراطورية العثمانية: ومن ذلك لبس الشبان قمصانا تمجد الخلافة العثمانية مثل quot; الإمبراطورية نرد الضرباتquot;، وquot; الأتراك المرعِبونquot; وغيرها، وكذلك صدور أفلام في تمجيد آخر خليفة عثماني، السلطان عبد الحميد. ونعرف كيف استقبلت الجموع أردوغان، بعد تقريعه المسرحي لبيريز، بالهتاف quot; عاد الفاتحquot;- قاصدين السلطان العثماني محمد الثاني الذي فتح القسطنطينية ndash; أسطنبول- عام 1453 [ انظر مقالنا السابق quot; تركيا إلى أين؟!]

الإسلام السياسي الذي يمثله الحزب الحاكم التركي هو طبعة جديدة من العثمانية، وهذه quot; النيو عثمانيةquot; هي التي سحرت عقول فريق كبير من الكتاب والساسة العرب، وخصوصا بعد غضبة أردوغان الشعبوية على بيريز، وثم quot; قافلة الحريةquot;. وقد عبر عن هذا الحماس احد زعماء حماس حين راح يمجد quot; انبعاث مركز الخلافةquot;. وسبق أن توقفنا في أكثر من مقال عند سلسلة التعليقات العربية التي راحت تمجد quot; العثمانية الجديدةquot;، في تناس لما سببه الاحتلال العثماني الطويل للبلدان العربية من تخلف وخراب. نضيف أن التهريج التركي في القضية الفلسطينية هو في مقدمة أسباب هذا الحماس المفرط لتركيا أردوغان، وهو مناورة سباق مع النظام الإيراني لخطف القضية. وأما اعتبارها المصير التركي مرتبطا بمصير إيران، ونقدها المستمر للموقف الغربي من المشروع النووي الإيراني، فلا يعيرهما هؤلاء أهمية ما، ما دامت تركيا quot; قد اكتشفت نفسهاquot;، وإذ يكتب بعض الكتاب العرب صراحة عن ترحيبهم بالقنبلة النووية الإيرانية نكاية بإسرائيل، وكأنها ستكون حقا موجهة لإسرائيل وليس لابتزاز العرب والضغط والتمدد والهيمنة في منطقة الخليج خاصة.

ثم هناك المشروع التركي- الإيراني لقيام كتلة من تركيا والعراق وسوريا وإيران باسم quot; شامغينquot;، ونلفت النظر للمقال الأخير لأمير طاهري عن الموضوع في quot;الشرق الأوسطquot; [ وجريدة الجرائد] بتاريخ 11 مارس الجاري. ويلفت الكاتب نظرنا إلى مغزى الاسم نفسه وهو كلمة تركية تشير أيضا إلى الشام، الذي هو اسم مقاطعة سابقة في الإمبراطورية العثمانية كانت تشتمل على ما يعرف حاليا بسورية ولبنان والأردن وإسرائيل والأراضي الفلسطينية، لكن quot; شام أردوغانquot; الجديدة تم توسيعها لكي تضم العراق، المكون من ثلاث ولايات عثمانية سابقة. وفي مناورة ذكية تضاف ليبيا وتونس والمغرب للمشروع، وإيران طبعا.

وهنا يجب التوقف لخصوصية حالة تركيا من جهة عضويتها في الناتو وطلبها الانضمام للاتحاد الأوروبي، ولذا فهي تتصرف بمهارة ومخاتلة، محاولة التوفيق بين المتناقضات، فتسير في الأسلمة بهدوء وبمقدار لا تثير معه مخاوف الغرب، لاسيما وثمة دول كفرنسا وألمانيا لا تحبذ انضمامها للاتحاد، وتقترح بديلا هو علاقات تعاون خاصة .

إننا نعيد التأكيد على أن أيديولوجية الإسلام السياسي مناقضة تماما للديمقراطية، والإسلام السياسي، بمذاهبه ودرجاته- من متطرف مكشوف وquot;معتدلquot;- لا يمكنه التعايش مع قيم الديمقراطية والعلمانية والحداثة، ومع مبدأ المواطنة، ولاسيما مع حرية المرأة والحرية الدينية. ألم يقل الزعيم الإخواني السابق إنه يقبل بآسيوي مسلم رئيسا لمصر ولا يقبل رئيسا مصريا قبطيا؟؟ ولا تزال عقلية الإخوان، التي تستحوذ على قطاعات شعبية واسعة في مصر، ترى وجوب قتل quot; المرتدquot; عن الإسلام، وحظر زواج المسلمة من غير مسلم، وتحريم استمرار علاقة زوجة مسلمة بزوجها المسلم إن غير دينه، وإلا كان ذلك زنى! واضطرابات العنف الطائفي، التي لا تزال ساخنة في مصر، هي من نتاج هذه العقلية الشائعة ضد أصحاب الدين الآخر، ولا يمكن ستر هذه الحقيقة بالحديث عن دور لأنصار للحزب الوطني، حتى ولو كان لهؤلاء دور ما، فالمهم هو أن التربة الفكرية والاجتماعية، التي زرعها ونشرها الإسلاميون المسيّسون وكل المتطرفين الدينيين في مصر، هي التي تشجع أعمال العدوان على الأقباط وقتلهم وهدم وحرق كنائسهم وبيوتهم. ولا يمكن قيام ديمقراطية بوجود تربة مسمومة كهذه لان الديمقراطية هي أولا مناخ وسلوك وعقلية قبل أن تكون مؤسسات. وها نحن في العراق، نشاهد كيف تسير الأحزاب الدينية المهيمنة بالبلد خطوة فخطوة نحو النظام الديني بالاعتداء على نوادي المثقفين وتحريم تدريس الموسيقى والتمثيل وفرض الحجاب والاعتداء على حق التظاهر ومطاردة الإعلاميين بكل عنف وهمجية. إنه النموذج الخميني للإسلام السياسي، بمقابل النموذج الإخواني وquot;النهضويquot; وما يجري في غزة لا يقل عن ذلك. وهكذا أيضا عن الفكر الإسلامي المتطرف الذي نقرأ له وعنه في السعودية وباكستان والسودان، وغسل الأدمغة في الكتاتيب الإسلامية حتى ولو كانت في اعرق الديمقراطيات- قاصدين بريطانيا وفضيحة الكتاتيب السعودية [ قالت الملحقية الثقافية إنها غير مسئولة] التي كشفتها البي. بي. سي، مع صور من الكتب الرسمية المعتمدة. ويكتب تركي الحمد عن تناقضات بعض المثقفين السعوديين، فالبعض له مواقف متشددة من المرأة، كتحريم الاختلاط وتحريم عمل المرأة في محلات بيع الملابس النسائية الداخلية، ولكنه يطالب بالإصلاح والعدالة وحرية المرأة! كما هناك اليوم حملة المتشددين ضد الكتاب السعوديين الموضوعيين الذين يكتبون بشجاعة بما يغضب فقهاء التزمت والتعصب.

كل هذا التيارات والمدارس، من دينية بحتة ومن سياسية، تلتقي عند رفض الآخر ومعاداة الحرية الدينية وحقوق المرأة وحرية التعبير والرأي، وهذه هي من صلب الديمقراطية وأساس حقوق الإنسان. وكم من ندوات وجلست حوار رسمية وغير رسمية جرت، خلال أكثر من عقدين، حول موضوع الحوار بين الأديان، والنتيجة استمرار كراهية الآخر غير المسلم، والتشبث بأن الإسلام وحده هو دين الله الحق. وهكذا، لو تسنى للإخوان وأمثالهم حكم بلد عربي كمصر وتونس، لجرت تصفية آخر ما هو موجود من الحريات والحقوق الشخصية، وقد يترحم الكثيرون حينئذ على العهد الساقط الذي ثاروا عليه. ونعرف أن الثورة على حكم إسلامي أصعب بكثير من الثورة على غيره لأنه يستخدم الديني لتضليل الشارع وتأليبهم ضد دعاة التغيير الديمقراطي. وها نحن في الحالة الإيرانية، ورغم كل المظاهرات الكبرى، نرى أن النظام الإيراني باق لأن القلة من دعاة التغيير هي فقط ضد نظام الفقيه، والأكثرية هي ضد نجاد وخامنئي، ولكن مع شخصيات تريد الإصلاح من داخل نفس النظام؛ فضلا عن تمسك الجميع بالمشروع النووي، الذي أحياه رفنسجاني وقام محمد خاتمي بتنشيطه. وما لم تتكون غالبية ترفض طبيعة النظام والقاعدة الفكرية -الفقهية التي تقوم عليه، وتطالب بالعلمانية، فإن هذا النظام سيكون قادرا على quot;لملمةquot; نفسه برغم الهزات المتتالية.

[ ملحق: نشر السيد يوسف الشريف في جريدة quot;الحياةquot; مقالا ورد فيه:

quot; quot; التظاهرات التي خرجت في تركيا تضامنا مع الشعب المصري حملت جميعها صور حسن البنا وشعارات الإخوان المسلمين....quot; ndash; الحياة في 7 مارس 2011. ويرى الكاتب أن الاتصالات التركية مع الإسلاميين العرب تعزز مواقف هؤلاء، وهم الذين يستغلون هذه الاتصالات دون تبديل لمواقفهم quot; المبدئيةquot;، كما حدث مع quot;قافلة الحريةquot; التي استغلتها العناصر الإسلامية المحتشدة في القافلة لتحويل الرحلة إلى غزوة جهادية. ونقول إن حزب أردوغان تعمد حشد الإسلاميين من جنسيات مختلفة في القافلة وذلك عن تقارب أيديولوجي وليس كاجتهاد عابر.]