تعرفنا على نهج الشهيد في مطلع ثمانينيات القرن الماضي عندما كانت باريس موطئ قدمنا الأول في بلد الهجرة والدراسة وكانت لندن مسرحا لنشاطه السياسي والاجتماعي،،،، لم نعرف في حينها لهذا المعمم المهموم ثبوتا في بقعة من ارض هذه الدنيا بل دورانا بين عواصم العالم ومدنه بجسد هزيل يجره من مكان إلى أخر وقلب نابض على وقع شيء اسمه العراق.... نعم العراق.... هذا البلد الذي طالما سكن شهيدنا وافترش ثنايا فؤاده حد العشق...... عراق الشهيد لم يكن شيعيا ولا سنيا ولا كرديا ولا مسيحيا بل عراق المحنة الكبرى والهدف العظيم....

كان التلاقح بين توق العراق للخلاص من الطغيان وجموح هذا الرجل وتوثبه ولادا لمشروع كبير اسمه سفارة المحنة... هذا المشروع الذي اقتبس جل مفاصله من سفارة مسلم بن عقيل في أيام النكبة الكبرى ولم يحد عنها حتى في خاتمة الشهادة....

رجل الدين المعمم، سفير المحنة العراقية، المبدع في حبه وانفتاحه على الأخر، الجرئ والمتصدي في فترة كانت التصدي فيها رديفا للوقوع في شرك الجلاد.... هو شهيدنا وإمامنا اللاحق بركب الخالدين السيد محمد مهدي الحكيم...

لم يكن الشهيد منذ بواكير عمله السياسي والديني مبلغا أو معتكفا على شؤون والده المرجع الكبير ووشائجه مع المحيط الخارجي فحسب بل ناشطا وحاملا لنهج ورؤية عن طبيعة النظام المنشود ميزه بين اللاعبين الأساسيين لهذه المرحلة....المتمعن في خواطر ومذكرات الشهيد يجد فيها وصفا استباقيا لعراق آخر في مرحلة الستينيات لن يجد مثيلا له عند الكثير من سياسيي تلك المرحلة......(وعلى صعيد الجهود المبذولة لإقامة الحكم المدني اذكر إننا quot;اناquot; والسيد مرتضى العسكري اتصلنا مع جماعة البزاز امثال quot;حسن ثامرquot; وغيره ومع الأكراد ودار النقاش حول شكل الحكم الذي نريده فكان قسم يقول نريد حكما ديمقراطيا وكنا نحن نقول نريد حكما برلمانيا.لا نقول بالاشتراكي ولا الرأسمالي... نؤمن بان الاقتصاد يجب أن يقسم إلى قطاعات ثلاثة، قطاع مستقل وقطاع حكومي وقطاع مشترك...... من مذكرات العلامة الشهيد محمد مهدي الحكيم.......)

هاجر الشهيد حاملا معه العراق جملة وتفصيلا....وهناك، في بقاع الغربة، حيث تبخل الشمس بشعاعها ويجول المرء بين الأزقة مهووسا بشيء اسمه quot;العراقquot; و تقرع أجراس الكنائس، غرس الشهيد مجالس أجداده.... وهناك، بعيدا عن الوطن حيث يستذكر المرء ظلاماته، صنع الشهيد حلما اسمه عراق المواطنة.... بناه لبنة بلبنة، ودمعة بدمعة، وشموخا بشموخ... صعد البناء برمزه وقهر الطغاة بثباته حتى خطوا عهد الغدر معه وخط عهد الشهادة مع جدوده..... وكالأمس، حين تشظى ذكر طغاة بني أمية وتجذر ذكر أهل البيت (ع) هوى اليوم ذكر الطغاة وتعالى ساطعا ومتوثبا نجم الشهيد بعزه يحاكي نهج أسلافه في سموهم وخلودهم...
مارس الشهيد طيفا واسعا من أنشطة المعارضة السياسية ضد اعتي نظام في العالم وتحت أقسى الظروف الداخلية والخارجية، ورسم آفاقا جديدة للحركة الوطنية الإسلامية في العراق.

لقد اختزل الشهيد quot;الفارسquot; في غربته المسافات الفاصلة بينه وبين ساحة المبارزة مستدرجا النظام لجبهات مواجهة ابتكرها على مقاساته وراح يدور بينها كدوران جده الحسين (ع) بكربلاء، دك بها مضاجع الطغيان وفضح من خلالها صنوف القهر التي كان يمارسها ضد شعبه..لبس الشهيد لباس مسلم بن عقيل (ع) في سفارته، وتقلد سيف الحسين (ع) في تصديه، وحنين زينب (ع) في نكبتها ونبوغ زين العبدين(ع) في كشف المستور من ظلاماته.......... الهمة والحنكة والقدرات والجاذبية والشفافية والصفاء والدقة في التصويب واستلهام القيم.. صنوف لا تجتمع إلا بشخصية قيادية نادرة....وأي ندرة هذه إذا كان صاحبها سليل أهل بيت النبوة وحامل رايتهم؟؟؟......

حاملُ العِمامةِ والعلم؛ عليلُ الجسدِ ارَّقَ الجلاد في حركاته.... اتعبَهُ في ساحات لم يعرفها من قبل....... نازله في لاهور ودبي و لندن وباريس وغيرها من بقع الأرض.... وكلما زاد الجلاد من حيفه على الخلق زاد شهيدنا خنقه للظالم... فكانت السودان مهبطاً جديد اً للمبارزة وموعداً مع الشهادة..... كتب الجلاد وصيته حنقاَ :
طلقات عدة هي التي تنحر
لا تدعه يخطب
لا تدعه يصرخ....
وأغمض عينيه
فصوته مدفع
وبصره خنجر
ومثلي لا يجابه مثله
ومثلي ينحر مثله


* السيد مهدي الحكيم احد رموز الحركة الوطنية العراقية ونجل المرجع الشيعي الأعلى سيد محسن الحكيم، اغتاله نظام صدام حسين في السودان عام 1988