كما يتوقع أي متابع، لم يوفر رسامو كاريكاتير عديدون ديفيد كاميرون فظهر هذا النهار (الأربعاء 29 الجاري) في صورة فأر. السياسي المحافظ تِم يو، وفر الفرصة عندما تحدى رئيس الحكومة البريطانية إثبات انه quot;رجل وليس فأراquot; بخلاف حول مدرج ثالث بمطار هيثرو.
الكارتون فن مدهش، بلا شك، ليس فقط لجهة تأثيره بين جمهور الصحافة، بل أيضا لأن ريشة الفنان الكارتونست تستطيع عبر بضعة خطوط قول ما قد تعجز عشرات المقالات عن التعبير عنه بوضوح، ومن دون إسهاب في التحليل، فضلاً عن إطالة وتطويل.
بالطبع، بدهي القول إن الريشة ليست ترسم فتدهش، تؤثر، تضحك، تصدم، أو تغضب، لولا أن عقل المبدع يبدأ الخربشة أولاً. وكما أن القلم هو صاحبه، فكراً وشخصيةً، كذلك رسام الكاريكاتير تلخصه ريشة تخط خربشات تفكيره، وتنقلها من خلايا الدماغ إلى ورقة أمامه، ثم تهدر بها مطابع صحف الورق، ومنها الى فضاء الانترنت.
رسامو كاريكاتير عرب عديدون رسمت أقلامهم مواقع متميزة لهم، ليس فقط على خارطة الإعلام العربي، ماضياً وحاضراً، بل امتد الحضور الى التأثير في المشهدين السياسي والاجتماعي، وربما الاقتصادي أحياناً.
في مقابلة تلفزيونية، سئل عثمان العمير عن أفضل كتاب الرأي في صحيفة quot;الشرق الأوسطquot;، وهو إذ ذاك رئيس تحرير الصحيفة العربية الدولية الأكثر تأثيراً، ولم يحر ناشر quot;إيلافquot;، رئيس تحريرها، جوابا في التخلص من ذكاء صاحب البرنامج (زاهي وهبي/ خليك بالبيت، على ما أتذكر) في محاولة إحراجه، فأجاب: محمود كحيل. لم تكن مجرد إجابة ذكية للتهرب من حرج، بل كانت دِقة مِهَنية. فالراحل محمود كحيل إسم كبير بين نخبة من مبدعي الكاريكاتير العرب، تجمعهم القدرة على إدهاش جمهورهم وإن اختلفت أساليبهم في توصيل أفكارهم، كما تتباين شخصياتهم ودرجات التعايش أو التعارض مع دوائر صنع القرار من حولهم.
في مثل هذا اليوم قبل25 سنة، وبعد سبعة وثلاثين يوما من مقاومة ما فعله الرصاص بجسده النحيل، خسر ناجي العلي المعركة نهار 29 أغسطس/آب 1987، وخسرناها معه. طوال مسافة العذاب بين رصاصة الغدر ولحظة مغادرة الحياة، تمنى أهل المغدور، أحباؤه، رفاق دربه، زملاء مهنته، كلنا أردنا أن يهزم صمودُ الضحية حقدَ القاتل، إنما غلبتنا إرادةُ القدر. كم من أغسطس رحل بعد ناجي، وكم من آبٍ مرَّ وآخرٌ آبْ على غياب العلي، فما انطفأ لهب السؤال ولا حضر شافي الجواب.
مفارقة خطرت لي حينها مفارقة ما تزال تحضرني. لقد رحل ناجي فارتاح، لكن غيابه لم يُرِح، فمن قبل الرحيل، وبعده، بقي خلاف الرأي حول مقتله.مزقّت أسئلة الحيرة خيّم قبائل لندن الصحافية. ثمة من يتهم بسرعة طلقة الرصاص ذاتها، يحدد الجاني ويوضح الدوافع، خصوصا إذا ذُكِر ما صار يُعرف بكاريكاتير رشيدة مهران.

ربما يكون ناجي العلي أول رسام كاريكاتير عربي يُنحر على مذبح موقف سياسي جريء من سلطة يعارضها. لكن يجب القول أن تحديد الجهة المسؤولة عن اغتيال العلي لم يُحسم بعد، كما يجب الأخذ بالاعتبار أن احتجاجات حنظلة قدر ما كانت تشعل غضب قيادات فلسطينية زكّت نفسها، بل نزّهتها، أو كادت، عن أية انتقادات، فقد كانت تزعج الغاصب الإسرائيلي وتؤجج غضب المشاعر ضده. في كل الأحوال، ليس من مبرر، أياً كان منطق من يسوقه، يمكنه تبرير جريمة القتل، أياً كانت الضحية وكائنا من كان القاتل، والأرجح أن تبقى الأسئلة حتى تُفتح بعض خزائن الوثائق البريطانية فتنفضح أسرار، وتتضح أسباب آلام بقي غموضها يؤرق من عانوها سنوات طويلة.

بعد نشر المقالة السابقة في الموضوع نفسه، سمعت من عثمان العمير، تعقيبا خلاصته أنه لبى مع عدد من رؤساء تحرير مطبوعات الشركة السعودية للأبحاث والتسويق دعوة غداء الى مائدة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات بمقره في تونس، حيث كانت الشركة تعقد مؤتمرها السنوي خريف 1987. يقول العمير إن عرفات كان ودوداً طوال لقاء استمر بضع ساعات، يتلقى اسئلة الحاضرين بصدر رحب، يجيب بابتسامة عن التساؤلات، ثم انه على الطريقة العربية في إبداء اهتمام المضيف بضيوفه خص عثمان العمير باهتمام متميز، إلى أن فوجئ به يسأله: أخ أبو عمار، اسمح لي ان انقل لك سؤالاً يشغل الوسط الصحافي العربي في لندن، مَنْ قتل ناجي العلي؟ يقول العمير أن الزعيم الفلسطيني تجاهل السؤال، اختفت ابتسامته، أشاح بوجه غاضب عن السائل، وأنهى اللقاء.
أخيراً، ها هي باريس توافق رسميا على إعادة فتح ملف وفاة ياسر عرفات، هل هو أيضا قُتِل اغتيالاً؟ سؤال أثير حتى أثناء مرض الزعيم الفلسطيني، حين ترددت أحاديث وشائعات السم، هل كان يجب الانتظار سنوات ثمانية للبدء، من جديد، بمحاولة الإجابة عن سؤال قديم؟ حسناً، ثمة حالات تفرض بغموضها حضوراً دائماً لها في أذهان الناس، فلا تُنسى، على مر الزمان. هذا في حد ذاته جانب يُذكِر بانتصار الضحية على مَنْ اغتال.