بين اوساط الجهال والبسطاء، تتفشى الخرافات والاساطير، فتغدو المرتع الخصب، لينمو يوما بعد آخر، حتى تغدو الخرافة والاسطورة عقيدة تفتدى بالنفس، والنفيس، كما هي احوال قرية في المنطقة الشرقية للبرازيل، لا تملك من مقومات الحياة، سوى الفقر، والجوع، والجريمة، وهي منطقة تنعق فيها غربان الخراب، ارضها تعاني الجفاف. لا قنوات، لا غدران، لا مطر. وكأن الحياة في بلقع هذه المنطقة مجرد وجود على هامش الحياة!! الناس فيها كالاشباح يتجمهرون نساءً، ورجالا خلف قسيس ممزق الثياب، تعبث بوجهه كل امراض سوء التغذية، وهم يقفون ينتظرون البركات التي تأتي على يديه، مما يرويه من الاساطير والخرافات التي اعشوشبت في ادمغتهم فيصلي من اجلهم قائلا: laquo;ايها القديس دون سباستيان! الا ترى ان الجفاف المروع يقتل مواشينا، ويتلف زراعاتنا، ويهلك من الجوع والعطش صغارنا وكبارنا. فماذا فعلنا لنتعرض لغضبك علينا؟
ايها القديس دون سباستيان! نتوسل اليك ان تعيد لنا المطر، فقد جفت الاراضي، وتشققت، وخرجت منها الافاعي تسعى نحو الاكواخ، والبيوت. ايها القديس.. عد الينا كي ينبت الزرع، ويفيض الضرع باللبن السائغ، وتعود البهجة الى كل بيت، وكوخ، وحقل. فعندما تعود الينا ايها القديس، سنرتوي من المطر الذي يهطل من بين يديكraquo;. ويردد الجميع وراء القسيس بخشوع تام، والدموع تتدفق من مآقيهم.. آمين.. آمين.
من هو القديس دون سباستيان؟! ليحتل هذه المكانة المقدسة في نفوس هؤلاء البسطاء في القرى البرازيلية؟
كتب المؤرخ عبد الرحمن السروري في كتابه laquo;نزهة الاخوان وسلوى الأحزانraquo; عن تجربته الشخصية، عندما كان يقاتل تحت قيادة السلطان عبد المالك في مراكش: laquo;ان دون سباستيان كان ملكا على البرتغال في عام 1570 وقبل ان يصبح ملكا، كان مجرد فارس في القوات التي دأب البرتغاليون والاسبان على ارسالها الى شمال افريقيا لمحاربة الدولة الاسلامية. وقد نال سباستيان رضا البابا جريجوري الثامن لأنه كان شديد التعصب للكاثوليكية، وشديد البغض للاسلام، وكان كذلك شديد العجب بنفسه. وقد رأيته يفر كالمجنون، لا يعرف الى اين يتجه، بعد ان اباد السلطان عبد المالك الجيش البرتغالي ابادة تامة، وقتل كل القادة، فما كان من قائدهم سباستيان الا ان القى بنفسه في نهر (تازه)، يحاول عبوره والنجاة من القتل او الاسر.. ولكنه لم يكن يحسن السباحة، وما دفعه الى ما فعل غير ما اصيب به من هلع، ورعب، وهو يرى جيشه ما بين اسير وقتيل، ومن المؤكد انه غرق في النهر، ولم يعثر احد على جثتهraquo;.
مصدر الخرافة
كان قساوسة مدينة لشبونة يقيمون حفلا دينيا في كل عام، يناشدون فيه دون سباستيان ان يظهر لهم لاتمام رسالته، وهؤلاء يعتقدون انه نجح في عبور النهر، ولجأ بلمسة قدسية للوصول الى البرازيل. ومن هنا نشأت خرافة اختفاء جثته، فانتقلت الاحتفالات بذكراه السنوية من البرتغال الى البرازيل، وشملت كذلك مناطق اخرى. وفي عام 1880 ادعت شابة تدعى سنيا ان دون سباستيان يظهر لها، فتصرخ صائحة في هوس بالطرقات:
laquo;ان المخلص دون سباستيان يقول لكم: اغسلوا صخرتي بالدم الآدمي الساخن، كي اتمكن من تحطيم قيودي التي كبلني بها المسلمونraquo;! تلك الصيحات الهستيرية انتقلت من منطقة (كانودوس) في الشمال الشرقي من البرازيل، الى العديد من المناطق الاخرى، لتشعل ثورة دموية استمرت لسنوات طويلة. ففي العديد من القرى البرازيلية، كانت الصيحات المهووسة: laquo;اغسلوا صخرتي بالدم البشري، كي يخرج الينا من جوفها المخلص دون سباستيان ليعيد الى العالم الامن والسلام والرخاءraquo;.
وتشعل هذه الصيحة المجنونة حماسا لاهبا في قلوب البسطاء، ممن اعتادوا الاستسلام للخرافات والاساطير، التي يروجها القساوسة، والرهبان!
واستجابة لهذه الصيحات المحمومة، اريقت دماء آلاف الضحايا الابرياء على صخرة laquo;بدرا بونيتاraquo;، واكثرهم من الاطفال، حيث انتشر اهالي منطقة (السيرتو)، موطن الشابة سنيا، يكمنون في الغابات ليلا ونهارا، ويتصيدون الصغار، ويقتنصون الضحايا الابرياء ثم ينحرونهم على تلك الصخرة كقرابين الى دون سباستيان.
ولم تكتف الشابة المهووسة سنيا بحث الناس على قتل الاطفال لتقديمهم كقرابين، بل انها زعمت ان دون سباستيان ظهر لها، وعاشرها معاشرة الازواج، واصبحت زوجته، وتحمل جنينه في احشائها! بعد هذا صار الناس يطلقون عليها القابا مقدسة، فهي زوجة المخلص، وستلد مخلصا!
وأخذ الرهبان والقساوسة يؤكدون في خطبهم على ادعاءات سنيا، حتى لقيت هذه الدعوة استجابة وصدى في مناطق كبيرة، بسبب سيطرة القساوسة على عقول الناس، وقلوبهم، مع ان بعض القساوسة في تلك المناطق لا يحسنون قراءة الاناجيل، وبعضهم يفسرونها حسب اهوائهم، متخذين من الاساطير والخرافات الموروثة اساسا لتفاسيرهم، التي يقبلها البسطاء دون نقاش.
وبعض الرهبان كانوا يبيعون قطرات من الدم الساخن زاعمين انها دماء مقدسة، وما هي في الحقيقة الا قطرات من دماء عنز ذبحت للتو في داخل المعبد. ويخرج الراهب باناء الدم زاعما ان قطرة واحدة اذا خلطتها العاقر بشرابها، فسوف تنجب، واذا شربتها الحامل، فمن المؤكد ان جنينها سيكون ذكرا؟!
انهم يبيعون هذه القطرات للفقراء والبسطاء، ممن يقدمون لهم كل ما جمعوه بكدحهم وعرقهم.
ميليشيات
كانت الطريق ممهدة امام سنيا باعتبارها زوجة لدون سباستيان وأماً لولده، في ان تنشئ ميليشيات خاصة اطلقت عليها اسم (ميليشيات دون سباستيان)، واعلنت نفسها مستشارة زوجها القدسي.
ولما حاولت الحكومة البرازيلية التصدي لهذه الميليشيات، خسرت المعركة وهي تواجه هؤلاء المهووسين الذين الحقوا الهزيمة بجيش الحكومة المركزية.
واستمرت ميليشيات سنيا في ممارسة دعوتها الى دون سباستيان لعدة سنوات. ومع توتر الازمات السياسية، ازداد سلطان القساوسة، وفرضوا سيطرتهم على قلوب البسطاء، فظهرت في الساحة البرازيلية اكثر من سنيا، فهناك سنيا الثانية التي دعت اتباعها للعمل على تحرير دون سباستيان من سجنه، ثم سنيا الثالثة.. وتتسلسل السنياءات لتصل الى سنيا الحادية عشرة! وكلهن يرفعن الشعار نفسه الداعي الى تحرير دون سباستيان. واصابت العدوى الرجال فظهر (انطونيو كونسليرو) يصيح: laquo;اتبعوني ايها الناس لنساعد دون سباستيان للخروج من سجنه.. فأنا تلميذ المخلّصraquo;.
وتراكمت الاساطير الخبيثة لتتخذ من دون سباستيان وسيلة للهجوم على بقية الأديان. والاغرب ان هناك ممن يعيشون الآن في زماننا الراهن، وفي زمننا الراهن، يؤمنون ايمانا راسخا بظهور دون سباستيان، ليقضي على أعداء المسيحية.


تُرى كم من هذه الخرافات والأفكار تعشش في أذهان بعض الطوائف الإسلامية ؟!.. ومن هم الكهان الذين يستفيدون منها، ويعملون على ترويجها وتأجيجها ؟!..
لعلي لا أبالغ إذا ما قلت : إن هذه التجارة التي يدفع ثمنها قطاع كبير من السُذج والبسطاء ممن يستغلهم الكهان باسم الدين، تبلغ المليارات في العديد من البلدان الإسلامية ؟!!.. والأرغب من كل هذا وذاك، أن هناك دولاً وحكومات تغذي في الناس البسطاء هذا النمط من الطقوس التي تصل بهم إلى إيذاء أنفسهم، حيث يشذون رؤوسهم بالسيوف ويلطمون على صدورهم ووجوههم ويضربون أكتافهم بالسلاسل على مدار السنة !!.. وكل هذا يحدث باسم الدين ؟!.. بكل أسف أن هناك ممن لديهم جانب لا يُستهان به من الثقافة يمارسون طقوس هذا الموروث القائم على الخرافة بل ويُنظِّرون له ويشجعون عليه !!.. وفي المقابل هناك طوائف أخرى تقابل هذه الطائفة لديها من الخرافات هي الأخرى لتمارسها باسم الدين!!..

* * *